المسؤولية التاريخية للمسيحيين

عبدالله قيصر الخوري          

 

أن يعلن غبطة البطريرك الماروني عن جسامة ما يرتّبه فوز فريق 8 آذار بالأغلبية النيابية في انتخابات 7 حزيران 2009 ، وعن إدراجه تلك النتيجة، لو حصلت، في سياق " الأخطار التاريخية" ، وأن يُفرج عن مخاوفه من نوايا كامنة لدى الفريق عينه بإخراج رئيس الجمهورية من سدة الرئاسة والحلول محله، ذلك الإستشعار الاستباقي الذي عبّر عنه صاحب الغبطة، لم يأتِ رغبةً بالمنافسة او تقديراً للخسارة والربح في زمنٍ عادي، بل صدر عن مرجعية تمرّست عبر عصورٍ مديدة بأبوّتها للجميع دون استثناء، وعن راعٍ دقق بشهادته للحق والحقيقة بين صفاء الايمان والدين وبين مقتضيات السياسة والدنيا.

 

أطلق البطريرك الصوت عالياً ليسمع جيداً من يرى ولا يسمع وخاصةً من بين اولئك، الموارنة الذين يغرّدون بعيداً في واحات بشار الاسد، ويستزيدون ايمانهم في ظل احمدي نجاد، ويرشقون الصرح البطريركي بسهام الأغرار التي تخدش العمالقة ليس إلا، فآثر عدم التعامل معهم بالمثل طويلاً إنفاذاً لقيَم التسامح والأبوة الروحية, الى ان استفاضوا ولم يستحوا، فصدرت عنه الصرخة المسؤولة في زمن استثنائي زوداً عن كرامة المسيحيين ومستقبلهم في وطنٍ يمتلكون فيه مقوّمات الوجود والحضور جميعها.

 

بالرغم من حيازة فريق 14 آذار على الاكثرية النيابية، لم يتمكن من تسيير شؤون الحكم تماشياً مع المفاهيم الديمقراطية، لاصطدامه بالعراقيل الهمايونية لفريق المقاومة ومن يدور بفلكه على النحو التالي:

 

اولاً : امتلاك فريق المقاومة للسلاح بأحجامٍ تجعله يتفوّق على قدرات الدولة المركزية، واعلانه خلال مناسباتٍ كثيرة عن ابدية التمسّك بهذا السلاح؛ وبالتالي لمن يجرؤ البحث به، خدمةً لتقوية نفوذ الدولة واجهزتها، قيل له بأن " يخيّط بغير هالمسلّة".

ثانياً: التفرّد بإعلان الحرب والسلم ما يتناسب مع مصلحة المقاومة وبالتلازم مع المصلحة الايرانية العليا " شاء مَن شاء وأبى من أبى".

ثالثاً: القيام باستعمال هذا السلاح في الداخل  تطويعاً لسائر الطوائف المكوّنة للوطن بغية إخضاعها مناطقياً وسياسياً والدليل الساطع الهجوم في السابع من ايار 2008 على بيروت والجبل.

رابعاً: إبتداع الثلث المعطل والتمسّك به يشهرونه كل ما دعت اليه مصالحهم حتى بتعيين عضوٍ واحدٍ في لجنة مراقبة الانتخابات النيابية والتي تنتهي مهمتها مع نهاية العملية الانتخابية.

خامساً: التسلط السياسي الذي يقارب الفجور محاولةً منهم لتحليل المحرَّم وتحريم المحلّل.

سادسا: الإستنساب باعترافهم بالحكومة وسلطتها بالرغم من مشاركتهم فيها, يهددون بعرقلة الموازنة اذا لم تتضمّن لحظ المبالغ المحددة من قبلهم لمجلس الجنوب وغيره، تعويضاً لتقصيرٍ يُفتَرَضُ بالمال النظيف القيام به حسب الوعود والخطب .

 

الأدهى من كل ما ورد آنفاً هو نفاذ حزب الله الى عمق الحالة العونية محاولةً منه للسيطرة على الساحة المسيحية، الرافضة تاريخياً للهيمنة السورية بمقاومةٍ دامت ثلاثة عقود، والمتماسكة حالياً امام صولات وجولات البعض من ابنائها وكلاء ولاية الفقيه بانخطافٍ كلّي وطواعيةٍ نادرة، لا يوازيها سوى تأمين المصالح الضيّقة ومجاراة التوترات اليومية لأئمة الحالة العونية تلك, التي غالياً ما تصدح على الشاشة البرتقالية وشقيقتها المنار حيث التطابق والتوأمة.

يحمل المستقبل السياسي في طياته خطراً يتجاوز سواه " من أخطارٍ تاريخية" وهو المتمثل بحصول فريق 8 آذار على الاكثرية البرلمانية، ما يمكّنه بالتصرّف بالنصوص والدستور، إضافةً لما يمتلكه من مقدرات سبق ذكرها.

 

 يحدث ذلك في حال سريان الخدعة السياسية بين المسيحيين كما حصل في انتخابات  2005 : انتصروا لمشروعٍ محدد سرعان ما جنح به اصحابه الى مدارك لا يطمئنّ لها عاقل بين ابناء جنسهم.

 

المعركة الانتخابية المقبلة محسومة النتائج تقريباً في صفوف الشيعة والسنّة والدروز، انما سوف تدور رحاها في الجسم المسيحي, محاولةً منه لاستعادة المبادرة وإعادة تصويب الإعوجاج السياسي والكياني لأصحابه من حزب السبعين في المئة، الذي لا يتزحزح عنها رغم المؤشرات العملية التي تبيّن حجم التراجع في شعبيته. فقد بدأت تتسلل الى الخارج بوادر التخبّط والعجز ضمن الحالة العونية، انطلاقاً من التهافت على الترشّح والاستنفاع والتدافع على نحوٍ يبيّن إستلحاق هذه المعركة، وكأنها الأخيرة على سلّم سنوات تلك الحالة التي جنّدت في الماضي طاقات أخيارها ومؤمنيها، جاعلةً منهم معبراً رخيصاً لعابري السبيل و" الطارئين" على التيار الوطني الحر الذي هُدِرت قِيَمه خدمةً لقلة من أقزام النفوس وزبائن الوصولية. هؤلاء الذين التزموا تبرئة النظام السوري من تبعات احتلاله لبنان، وألصقوا التُهم جزافاً بالآخرين، وصلت بهم المغالاة الى حدّ إعفائه من الفساد الذي استشرى وقضّ مضاجع الدولة ومؤسساتها تحت وطأة مندوبه السامي آنذاك وضباط مخابراته وتجاوزاتهم ذات الأبعاد المالية والاجتماعية والسياسية والبشرية، وصولاً الى محاولة الفصل بين الانسان وإنسانيته، المنتمي الى مجتمعٍ تغلّب على المصيبة وهولها بفعل قوة مؤسساته المدنية.

 

 يندفع حزب الله بوتيرةٍ متراصة تأميناً لدعم ظهيره السياسي ضمن الجسم المسيحي، تؤازره في مهمته الجهادية هذه الصحافة السورية مشكورة، وآخرها صحيفة الوطن التي خرجت من الكلام المبطن الى الصراحة الوقحة تدخّلاً بالشؤون الانتخابية اللبنانية، بعدما تأكدت لها هشاشة وضع نُدمائها الجدد الذين يرفعون الصلوات على قبر مار مارون في حلب، وينقضّون على خليفته والمؤتمن على طائفته بتناقضٍ فاضحٍ لا يجاريه سوى التزوير بالوسيلة توخياً للوصول، حتى يصح بهم قولٌ للشاعرراجي الراعي ردده سابقاً غبطة البطريرك نفسه:

" بكركي من عركه لعركه             لا زيتا ولا نورا شحّ

كلّن بيحكوا تركي(سوري)          بكركي وحدا بتحكي صحّ "

 

وإلا كيف نفسّر ما جاء على لسان النائب علي عمار في الماضي القريب بأن حزب الله ملتزم دعم معركة العماد ميشال عون. وكلامٌ آخر على لسان رئيس كتلة دعم المقاومة النائب محمد رعد في حسينية الاوزاعي، كلام يقارب التهكم بالفريق الآخر وبنشاطه الانتخابي فيقول: فليتسلوا ما شاؤوا اذا ارادوا ان يتسلوا فالنتيجة مهما كانت سوف لن تغيّر شيئاً في المعادلة.

 

هذه اللغة بمدلولاتها وما قد يعقبها من مواقف عملية، والمرحلة مفتوحة على كل الاحتمالات، تشير الى تموضع مباشر ناحية من اراد قص الألسن، وقطع الأيدي, والدَوس تحت الأرجل أخصامه الصغار كالنمل، والتحويل الى المحاكم كل من سوّلته نفسه وتسوّله الإساءة الى العلاقة بالشقيقة سوريا، مُعفياً نفسه من مغبّة تحويله ايضاً الى تلك المحاكم، بجرم هزهزة المسامير وتكسير رأس الاسد الأب، وما جرّت علينا تلك المراجل البائدة من ويلاتٍ وكُلفٍ باهظة، بالسياق نفسه لا نُسقِط تحميل المسؤولية الكبرى للاحتلال السوري الذي كان معتدياً آنذاك وما زال حتى اللحظة يتوخى كل محاولات العرقلة والتفرقة.

 

تقع على كاهل المسيحيين المسؤولية التاريخية تحضيراً ومحاسبةً وخوضاً للانتخابات النيابية في 7 حزيران 2009 ، لأن الظروف شاءت والمعادلة الحسابية تمخّضت عن مؤشرٍ مفصليّ لهم في ترجيح كفة الوطن جنباً الى جنب مع سائر الوطنيين في الطوائف الاخرى التي تتحكم سلفاً بالنتائج لأسبابٍ باتت معروفة بظروفها وضوابطها، يحمل هذا المؤشر المتطلبات الضامنة التالية:

 

1-  ضرورة توحّد القوى الحزبية المسيحية ضمن ما تؤمن به من قيَمٍ سيادية ووطنية، وعدم الانجرار وراء الذاتية لأن نظرةأخصامهم المحليين والاقليميين لهم هي نظرةٌ موحّدة بأن " أمة الكفر واحدة"، فلا فرق بين كتائبي يؤمن بتلك القيَم وبين قواتيّ ينشد الايمان عينه.

 

2-عدم التشدد بنُخبوية المرشحين على حساب مقومات الربح في المعركة، فلا ضَير إن التقت النُخبوية بالشعبية ولكنه ليس بمقتل إذا لم يحصل.

 

3-التوجه الى صناديق الإقتراع بكثافة تاريخية لأن المعركة هي كذلك، وبذاكرةٍ وهّاجة لا تقبل الخداع والترويج الرخيص كما حصل معهم في معركة 2005 ، اقترعوا لطبَق السيادة والحرية والاستقلال، فقُذِفوا بعدها بصنوف من الاطباق مغايرة كلها لما اقترعوا لأجله,

 

أما للشرفاء الذين ما زالوا بعهدة الحالة العونية، اناشدهم امتشاق روحية التيار الوطني الحر وتطهير الهيكل وإعادته الى سابق تعلّقه بالقيَم التي نؤمن بها جميعنا، لأن المستقبل رمادي إن استمروا حيث هم، والتاريخ سليط لا يرحم. 

عبدالله قيصر الخوري