الاستراتيجية الدفاعية وفيديرالية الطوائف.

عبدالله قيصر الخوري        

 

دأب اللبنانيون على الاجتماع والإجماع منذ العام 1921 حتى يومنا هذا على قواعد غلبت فيها المسايرة على الاقتناع، وتجلّت خلالها عوامل الضَّم " اشارةً الى الاقضية الاربعة" ، فيما انحسرت تباعاً وعلى مفترقات مصيرية الضوابط الطبيعية للجسم المتكامل.

 

لا نبالغ في الاستنتاج إن لاحظنا عبر محطات دامية منذ العام 1958 مروراً بالاعوام 1969 و1975 ، أن هذا الكائن الدستوري المسمى وطناً إلتهم الألوف من ابنائه واستحال أبناؤه قاتلاً او مقتولاً لأجل صيانة العيش المشترك وتحصين الصيغة الفريدة.

 

هذه الصيغة بفرادتها تؤجج صراعاً مستمراً بين الطوائف وكبرياتها تحديداً ، فيستعر جمر المقاطعة، والاستنكاف، والحرَد السياسي، وتعليق المشاركة، ذلك كله تحت رماد التسويات الجوفاء، والوساطات الاقليمية والدولية مشكورةً طبعاً ، وصولاً الى الشارع ومشارف الحرب الحقيقية، إفضاءاً لعناصر القوة من طائفةٍ جازفت بفرض ارتباطاتها الاقليمية والعقائدية على سواها من مكوّنات العيش والتعايش.

 

أما التحليق التاريخي لطائر الجناحين، وتعثّره الفاضح المتكرر، والتفاوت البائن لانتظام الاجنحة عبر محطاتٍ تستحضرها الذاكرة ونوردها تباعاً :

 أولاً : أحداث العام 1958 والانقسام الحاد بين الولاء للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبين الانخراط في حلف بغداد.

 

ثانياً :  الانفلاش الكامل للثورة الفلسطينية والسطو على مقدرات الدولة اللبنانية الذي شكل ايضاً انقساماً حاداً ألهب حرب 1975 التي ما زلنا نعاني فظاعتها ومديد سنواتها.

ثالثاً : الاحتلال السوري للبنان وممارساته القهرية التي اتاحت تصفية الحساب بين الطوائف المتناحرة على الصلاحيات من حيث تصحيح ما سمّي سابقاً بالخلل لصالح المسيحيين " ولو بالقيم الدفترية"، واحلال المناصفة التي لم تعد اليوم تروق لحزب الله بقوته المتعاظمة ومَن يدور بفلكه شاهراً سلاح المثالثة كحلٍ للواقع المستجد مع عدم إغفالنا لاتفاق الطائف ومخلوقه الدستوري المثلث الرؤوس بتناقضاتها ومصالحها المتناحرة.

 

نشير تالياً الى الفترة الممتدة بين العامين 1990 و 2005 التي استبيح خلالها القرار اللبناني بفعل ما طُرح من وحدة المسار والمصير، وخُنِقت الاصوات والحناجر بذريعة "عدم الإساءة الى دولةٍ شقيقة"  و " تصريحاتٍ واقوال لم تُجزها الحكومة"، مرحلةٍ استولدت للمسيحيين مَن يمثّلهم، مسؤولين هُم  في غربةٍ عن توجهاتهم الكيانية والسيادية، بيد أن المسلمين تمثّلوا بكبارهم واشدِّهم سطوةً وحضوراً .

رابعاً: الحقبة بين العام 2000 تاريخ خروج الجيش الاسرائيلي وإخراجه من لبنان حتى يومنا هذا، شهدت حروباً متفاوتة بحجمها مع اسرائيل بحجة بقاء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الاحتلال، والتي حتى اللحظة تتلكأ سوريا عن تأكيد لبنانيتها عبر إقرارٍ خطي للأمم المتحدة، فاستمر النزف وانكشف عن حلبة صراعٍ طرفٌ فيها اسرائيل والطرف الآخر ايران وسوريا ممثلتين بحزب الله وذراعه العسكري الذي نقل المواجهة الى الجنوب اللبناني تغطيةً لاستدارة النظام السوري عن تحرير الجولان، وبشقه الآخر ملتزماً ذيول الاحتدام بين القرارات الدولية والنظام الايراني حول تطوير سلاحه النووي ناقلاً إياه الى الارض اللبنانية كسيف مسلط على رأس اسرائيل.

 

هذا السلاح الذي استدار به في الآونة الأخيرة لاحتلال العاصمة بيروت وإخضاعها عنوةً حيث لم تفعل طوعاً ، مستكملاً وضع اليد على الجبل الذي هبّ موحّداً زوداً عن الكرامة والعِرض ونُصرة الإخوان، كاسراً حلقة الانتصار الوهمي الذي سارع الى الإعلان عنه نيابةً عن حزب الله "مارونيٌّ" هدر في السابق القوة الضامنة للمسيحيين، وهو اليوم يسوّق مواربةً للاستراتيجية الدفاعية في كل لبنان، والتي لا تعدو كونها تعميم نفوذ حزب الله والاحتفاظ بسلاحه.

 

ألم يعد يذكر مَن ينظّر اليوم للاستراتيجية الدفاعية أنه شنّ بالأمس حرباً ضروساً على القوات اللبنانية تطبيقاً لسيادة الدولة وحصرية السلاح بها، وهل هو غافل عن أكثرية مسيحية ارتوى منها إنتخابياً في العام 2005 على قاعدة مواجهة حزب الله وسلاحه وحلفائه، وهو اليوم في واجهة مَن يسوّق لسيادة سلاح هذا الحزب؟

خامساً : لأن الحوار أخذ مجراه، ولأن مشروع الوطن ليس بعادي، ولأجل عدم المقامرة مجدداً بمستقبل الأجيال، ولعدم إقرار ما يفرضه جزءٌ ويأباه كلٌ، وتجنّباً لتأسيس حروبٍ مستقبلية تطيح بالأمل والبقاء:

 

 فلنختصر المسافة بين ما تضمنّه اتفاق الطائف من لامركزية إدارية التي اعتبرها الفريق المسيحي المشارك آنذاك إنجازاً وبين "الفيديرالية" التي يتردد البعض في طرحها، فهي تستجيب للهواجس والتذمرات والمطالب الكيانية للطوائف من خلال ضمانات دستورية محددة لايجري تعديلها من جانبٍ أحادي بل بموافقة جميع المكوّنات الحضارية بواقعها السياسي والانساني.

 

الفيديرالية أمست واقعاً ، يشكل حزب الله فيه النموذج المتكامل مناطقياً وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً ومالياً ، آخذاً لنفسة المساحة بأكملها لإعلان المواقف والحروب "شاء مَن شاء وأبى مَن أبى" كما اتى على لسان أمينه العام في 12 تموز 2006 ، رامياً بالتبعات الجسام على كاهل الحكومة وسائر الوطن وأصدقاء لبنان، يخوّنهم متى اراد وينسبهم الى العمالة بالبساطة عينها، هو اليوم يعود الى طاولة الحوار متأبطاً سلاحه شاهراً نمطاً جديداً من المقاومة وبحلة متطورة لِباسُها: الاستراتيجية الدفاعية. متجاوزاً الإعتداء على الجيش اللبناني والقوى الأمنية في الشياح  إضافةً الى حادث إطلاق النار على الطوافة العسكرية وقتل قائدها في سُجد، ولاننسى الخطوط الحُمر التي رُسِمَت سابقاً للجيش في مخيّم نهر البارد.

 

أما لطارح الاستراتيجية الدفاعية ولِمُريد تعميمها على الارض اللبنانية، نشكره لسَعيِه ونهدّئ من روعه لجهة " يأخذون بها او لعمرهم ما يأخذون" كما جاء على لسانه مع الصحافيين، ونربأ به الاستمرار بتسديد ديون لجهاتٍ لم تسانده فعلياً بالوصول الى مبتغاه من رئاسةٍ وغيرها، وليكفَّ إذا تفضَل عن اجتهادات هي بغير السياق الوطني ولا تلامس حتى الإقتناع المسيحي لأنه اصبح في وادٍ والمسيحيون في وادٍ آخر.

عبدالله قيصر الخوري