استحضار 13 تشرين 1990 ومعركة 7 حزيران 2009

بقلم/عبدالله قيصر الخوري  

 

 

يتفاعل البعض مع التاريخ وكأنه استحال مطيّة له، يستأثر بحصرية انتصار التاريخ له  دون سواه على وجه البسيطة، يستصرحه حول بطولاته حتى ولو احتواها الفراغ، ويحملّه اوزار صنيعه والتواءاته، كأنه بالتاريخ مجمِّلاً للعيوب ومكمِّلاً للنواقص، جاثماً طائعاً لأصحاب النفوس النرجسية، والطباع المعتدية، تنفث فيه غضبها ومن خلاله اتهامها للآخرين دونما رادعٍ او وجه حق.

 

تلك هي الحال مع دولة العماد ميشال عون، متصدّراً جمهوره معتلياً منبر فندق الحبتور، ينهال على شخصيات 14 آذار بوابلٍ من ثقافة 8 آذار، مسترسلاً باستغباء التاريخ والذاكرة لجماعةٍ حضارية كالمسيحيين عانت الأمرّين نتيجة احتضانها قادةً كأولئك الذين استسهلوا مضمون عذابات شعبهم، وزيّنوا له أنهم الضمانة، بيد أنهم كانوا مصدر هزيمته واستفراده طوال خمسة عشر عاماً.

 

وددنا إسدال الستار طويلاً على بعض الحقائق التي واكبت تاريخ 13 تشرين 1990 وما سبقه بقليل، وما عقبه من ويلاتٍ جرّت علينا ذيولاً مرهقة وخسائر فادحة ألحِقت بالبشر والحجر. يُحجم الجنرال صاحب الفرادة في تجريم الآخرين، محتكراً النُدرة بين اترابه من القادة الأشاوس، يُحجم عن الإضاءة على تلك الحقبة الموجعة، غير أنه يستحضرها إستنسابياً للإنقضاض على قادة 14 آذار الذين لستُ مفوَّضاً منهم مقارعة دولته، بقدر ما اراه مناسباً وضرورياً للإفراج عن مكنوناتٍ غصّ بها حلقنا مديداً من الزمن.

 

نعاود اليوم إماطة اللثام مجدداً عن واقعة يوم السبت الواقع في 13 تشرين الاول 1990 ، كون ان مجهر العماد عون لم يلحظ من عوارضها سوى وليد جنبلاط وآخرين ممن تكرّم عليهم بلياقته المنبرية، مُعرضاً عن سرطانٍ تمدد في الجسم اللبناني وتآكله وصولاً الى تدمير واحتلال المقارّ السيادية كالقصر الجمهوري ووزارة الدفاع وغيرها.

 

نواجه اليوم ايضاً إصرار الجنرال على تجهيل الفاعل الحقيقي كونه يبادله المودة ويمحضه ثقة التفاعل والتعامل، حتى أمسى يشكل رمز رموزه في الداخل اللبناني كما وصفه حليفه السالف في انتخابات العام 2005.

 

ولأننا انتمينا يومها الى جمهور تلك المرحلة الذي آمن وما يزال بثلاثي القِيَم، السيادة والحرية والاستقلال، هذا الجمهور الذي تحدّى الظروف العاتية، والصلف العدائي للمحتل السوري آنذاك، شكّل بإيمانه وبصبره الرافعة الساسية بل الفريدة لتمكين العماد عون من الاستمرار.

 

ولأننا ايضاً آثرنا الإلتزام مباشرةً بمناهضة الاحتلال السوري بما امتلكناه من امكانياتٍ متواضعة امتزجت بالأنفس الأبية والإرادات الجبّارة، يشهد به علينا ربنا وشعبنا.

 

ولأن مَن أوليناه شأننا وأودعناه قِيَمنا، ومستقبل مَن يرث من بعدنا قضيّتنا بحضوره الحر الكريم، ومَن جعلنا منه رئيساً وقائداً ينطق بحق ما نؤمن به ونقدسه، ولأنه أخلف في ذلك، وخوّل لنفسه الرسوّ في موانئ مَن يريدون بنا شراً ، وكونه يرجع بنا الى مناسبة 13 تشرين الاول 1990 يشهرها في وجه أخصامه السياسيين كمادة للكسب الإنتخابي ليس إلا، متحايلاً على التاريخ متوخياً أن يشهد له لا عليه، ولأجل ما سبق ذكره، نعود مع الجنرال لندقق بأوراق تلك الحقبة، ونبقّ تلك البحصة، ونجعل من النقد الذاتي حَكَماً ودليلاً .

 

اولاً : ألم يعلن يومها الجنرال انه " بإمكان العالم أن يسحقني ولا يأخذ توقيعي" ، ويعود نفسه اليوم الى ما يسميه هو وانصاره " الواقعية السياسية " ليشدّ على يد بشار الاسد ونظامه، مُعفياً إياه من تبعات تعسّف الاسد الاب، ومقدِّماً اعتذاراً حاراً للشقيقة سوريا الاسد، بالأصالة عن نفسه، وبالمَوْنة المُسترهَنة نيابةً عن الشعب اللبناني.

 

ثانياً: ألم يصرخ يومها عالياً راغباً القتال بكل الوسائل المتوفرة، متشبثاً بموقعه ومرجعيته، ولو أدّت به الأقدار الى الاستشهاد فهو آخر مَن يغادر.

 

ثالثاً: هل العجلة في قصد السفارة الفرنسية شكّلت يومها دليلاً دامغاً يتناقض مع خطاب الجنرال الذي سبق وشرح الصدور وطمأن الأفئدة؟  ذلك الحدث وإن شكّل بذاته فعل حمايةٍ وتدرّؤ جسدي ونفسي، لكنه انتقاصٌ معنويٌّ يُدوَّن في سيرة مَن افترض نفسَه عظيماً . اجتهدنا طويلاً إثر ذلك في تجميل الحدث وإزالة شوائبه، وربطها بالضرورة، لكن عبثاً فالحقيقة وهاجة تحرق مَن يطلق العنان لمخيّلته وافكاره.

 

رابعاً: كنا تعمّدنا إسقاط ما يُحرج من ذلك التاريخ ومن سلّم قِيَمنا ومندرجات نضالنا، مكتفين بإبقائه مُلهماً لأخذ العِبَر، ومروّضاً لما ينتاب النفس والعقل من قفزات في المجهول، قفزات تفتقر الى دقة الحساب واستشراف النتائج. غير ان رَوْع ما اقترفه الاحتلال السوري من ويلات وسفك دماء بحق الجيش اللبناني والشعب اللبناني، يُجاريه العماد عون في التعمية عن هَوْل هزيمته، متوسلاً الانقضاض على القادة اللبنانيين في الداخل مُحمّلاً إياهم المسؤولية.

 

خامساً: إن إصرار العماد عون على تسليط الضوء على نصف الحقيقة وإغفاله النصف الآخر، متنكراً بذلك للمسؤولية الصارخة التي تلبسه، تجعلنا مُكرَهين وليس أبطالاً ، نفتش لديه عن جوابٍ نابعٍ من قائدٍ حجز لنفسه ادوار البطولة كلها، وقذف الآخرين بالعيوب والتقصير، جوابٍ يُروي فَيْض الاسئلة التي وُجّهت الينا، واصعبها تمثّلَ حول قيامه بمعركةٍ لم تدُم اكثر من اربعين دقيقة، ألحقت بجيشنا الباسل خسائر دموية فادحة، وقذفت بشعبنا الى المجهول المطبق الذي استدام خمسة عشر عاماً حالكة السواد.

 

سادساً: ألم يكن الأجدر بالجنرال الأخذ بما ورده من معلوماتٍ عسكرية ومدنية عبر أقربين وأبعدين، تُبيّن له آنذاك حتميّة نفاذ القرارات الدولية والإقليمية بإزاحته بالقوة العسكرية ما لم يحصل ذلك بالسياسة، عدا عن إسقاطه فرضية المقارنة والمقاربة بين الأحجام العسكرية، ليُقدِم على خوض حربٍ عبثية لفترة وجيزة أدبرَ قبلها الى السفارة الفرنسية منقطعاً بذلك عن إمكانية الاتصال بجيشه وإصدار الأوامر.

 

ألا تستأهل تلك المحطات المأساوية وقفة ضميرٍ مسؤولة من العماد عون، يستهدي خلالها الى السكينة النفسية في مجاورة الآخر والتعاون معه، خدمةً منه لوطنٍ وشعبٍ جيّر له ولمرجعيته الغالي والنفيس؟

 

ينزّه العماد عون نفسه عن الخطأ ، ويترفّع متعالياً عن الإعتذار حيث هو حاجة، بل يسعى اليه بإلحاحٍ لدى الآخرين من قادة البلاد الذين سبقوه اليه، وقدموه الى الشعب اللبناني بخفَرٍ ووضوح، غير أنه حاول الفرض على شعبنا الإعتذار من حليفه بشار الاسد في الوقت الذي يصح العكس.

يندرج منسوب الصَخَب المرتفع لمواقف العماد عون وأعوانه في الحالة العونية، في سياق التحضير للمعركة النيابية المقبلة في 7 حزيران 2009 ، التي تبدو محسومة النتائج تقريباً في صفوف الشيعة والسنة والدروز، انما سوف تدور رحاها في الجسم المسيحي.

 

المسيحيون مُطالَبون استعادة المبادرة وإعاد تصويب الإعوجاج السياسي والكياني لأصحابه من حزب السبعين في المئة، الذي لا يتزحزح عنها رغم المؤشرات العملية التي تبيّن حجم التراجع في شعبيته، فقد بدأت تتسلل الى الخارج بوادر التخبط والعجز ضمن الحالة العونية، انطلاقاً من التهافت على الترشح والاستنفاع والتدافع على نحوٍ يبيّن استلحاق هذه المعركة وكأنها الأخيرة على سلّم سنوات تلك الحالة التي جنّدت في الماضي طاقات اخيارها ومؤمنيها، جاعلةً منهم معبراً رخيصاً لعابري السبيل والطارئين على التيار الوطني الحر، الذي هُدِرت قِيَمه خدمةً لقلة من أقزام النفوس وزبائن الوصولية.

 

أولئك الذين التزموا تبرئة النظام السوري من تبِعات احتلاله لبنان، وألصقوا التُهم جزافاً بالآخرين، وصلت بهم المغالاة الى حد إعفائه من الفساد الذي استشرى وقضّ مضاجع الدولة ومؤسساتها، تحت وطأة مندوبه السامي آنذاك وضباطه ومخابراته، وتجاوزاتهم ذات الابعاد المالية والاجتماعية والسياسية والبشرية، وصولاً الى محاولة الفصل بين الانسان وانسانيته، هذا المنتمي الى مجتمع تجاوز المصيبة وهولها بفعل قوة مؤسساته المدنية.

 

تقع على كاهل المسيحيين المسؤولية التاريخية تحضيراً ومحاسبةً وخوضاً للانتخابات النيابية في 7 حزيران 2009 ، لأن الظروف شاءت والمعادلة الحسابية تكشّفت عن مؤشر مفصلي لهم في ترجيح كفة الوطن، جنباً الى جنب مع سائر الوطنيين في الطوائف الاخرى التي تضمن النتائج لأسباب باتت معروفةً بظروفها وضوابتها.

التباين الذي سوف يعكسه خوض الانتخابات، هو بين نهجين ومشروعين: أولهما يؤشر الى الوطن والدستور والانتظام العام، وثانيهما نابع من المحور السوري الايراني وما يرتبه علينا من تهويلٍ بالسلاح خارج الشرعية والقوانين، وما قد يقودنا اليه من عزلة دولية واقليمية، ناهيك عن استفحال امر الجزر الامنية، وانفلات التطاول على الحريات العامة والخاصة من عِقاله، والمحاولات الحثيثة لعرقلة مسيرة المحكمة الدولية.

 

لذلك فلنستولد استحقاق 7 حزيران من رَحم ذاكرةٍ تستجمع ماضينا ومَن وسمه بالقهر والطغيان، وحاضرنا ومَن خضّبه بدماء شهداء الاستقلال الثاني، ومستقبلنا ومَن يقبض عليه مسترهناً اياه لمشاريع استبدادية مجافية لتراثنا وكياننا.  تستفيق ذكرى 13 تشرين الاول 1990، غب الطلب في قاموس العماد عون، يطرحها دعماً لمصالحه المغايرة لروحية تلك المرحلة التي تجذّرت بمسيرة ثورة الارز التاريخية، تلك الثورة المشفوعة بتضحياتٍ جسام لشعبنا وجيشنا، والممهورة بدموع مآقي مَن طال غيابهم على يد الاحتلال السوري وفي سجونه من رجال دين وعسكريين ومدنيين.

 

عبدالله قيصر الخوري