شعبية بالاعارة

بقلم/عبدالله قيصر الخوري

أحد مؤسسي "التيار الوطني الحر"

 

تنتاب العماد ميشال عون عوارض الزعامة والمرجعية وقد عَقدت له لواءها قاطبةً في الزمان والسياسة والدين، فيَمّمَ بها شطر الشام على خطى بولس الرسول وان لم يكن هو نفسه، بفارقٍ بائنٍ في التكريم والتبجيل للزائر المبشّر، وعلى سجاد أحمر إكتسب صباغُه من دم اللبنانيين وحُبِكت عُقَدُه من عذاباتهم إبّان الاحتلال السوري للبنان.

 

الى أن حطّت به رحاله على السُدّة الاسمى للمسيحيين المشرقيين متنقلاً بحبريّتها خارج حدود انطاكيا وصولاً الى المدينة النظيفة طهران، وها هو اليوم يعوّض رعيته المنتشرة في الديار السورية، ما كان قصّر به تجاهها أسلافُه من بطاركة روحيين.

 

امتطى العماد ميشال عون وفريقه الألمعي نسر الرئاسة السورية، حاملاً صداقته المتوهّجة والمستجدة للنظام السوري مواكباً المسالك والطرقات التي أقلّت في السابق ألوف اللبنانيين الذين هُدرت انسانيتُهم واستُبيحت دورة حياتهم في غياهبِ معتقلاته التي ما تزال حتى اللحظة تُطبِق على أرواح الكثيرين منهم وسط التعتيم والنكران.

 

دُهشَتْ أوساط "التيار العوني" وأترابها من رابطة " شكراً سوريا " بالحفاوة البالغة التي أحاطت بالوافد النادر بين أبناء جنسه من "موارنة لبنان"، حاملاً الى سيادة الرئيس الابن، وقد أعفاه العماد عون من تبعات الرئيس الاب، حاملاً اليه اعتذار اللبنانيين للشقيقة سوريا، أعتذاراً لا يعدو كونه نتاج ما يحتدم في مخيّلته من تناقضات أخرجت المسيحيين في الماضي من معادلة الحضور سياسياً وإجرائياً، ويُكمل اليوم فصولَ إدخالهم في تفاهمات ركيكة لا تتناسب مع سلّمهم القيميّ المبنيّ على حريتهم ، التي لم توفر سوريا الاسد وسيلةً للحّد منها والقضاء على مفاعيلها.

 

تتطلع الاوساط نفسها بعين الرضى والإعجاب لتجيير الرئيس الاسد كرسي الرئاسة للعماد عون ولو لِبرهة، إلتفاتةٌ عطوفةٌ من سيادته في "مهد المسيحيين"، تصحيحاً زمنياً لتقصير في امكانية إشغاله إياه في قصر بعبدا.

 

ينقلنا العماد عون من الموضوعية التاريخية التي تحمل في طياتها ضراوة ما اقترفه النظام السوري تجاه لبنان، وما ألحقه بالمسيحيين تحديداً وبالموارنة على الاخصّ من قتلٍ واغتيالٍ لرؤسائهم وسجنٍ لقياداتهم ونفي، كان للعماد عون نفسه التجربة العلقمية الاولى، فيطرح علينا "فلسفة تنقية الوجدان"، وينتقل بنا من حرارة " قِيَم أثينا" الى برودة "إسبارطه" في اعتماد القِيَم عينها علّه لامس منفرداً الذرات الوجدانية التي تغلّف مسلكية النظام السوري أولاً تجاه شعبه، وبالأخص الإفراط بالعدائية تجاه الشعب اللبناني، حيث لم تدرأ طائفةٌ واحدةٌ من مكوناته شرَّ الاغتيال والتصفية والإخفاء القصري.

 

أمّا أن ينقض العماد عون معتلياً منبر جامعة دمشق، على الحكومة اللبنانية ويصفها بـ"الوهمية" إكراماً لسامعيه ليس إلا، وبتناقضٍ صارخ لا يوازيه سوى مشاركته بهذه الحكومة عبر ثلاثةٍ من أقحاح أقاربه ومحازبيه أصبغ عليهم صفة الوهم ايضاً.

 

إضافةً الى التهكّم بكبار اخصامه ضارباً عرض الحائط بأحجامهم ومرجعياتهم ضمن طوائفهم واحزابهم، فهو تفلّتٌ من ضوابط الاحترام المتبادل الذي تفرضه اللياقات السياسية والمجتمعية، لا يجاريه في ذلك سوى نشوة الموئل الجديد للمستكبر على ابناء قومه، والمستقوي بضيافة اصطناعية يُرمى منها سياسة "فرِّقْ تَسُدْ " ، لم تكن يوماً وسيلةً مُستفخَرة او مضلِلة لأحدٍ من كبار قادتنا التاريخيين.

 

بالرغم من استتباب الوضع برُمّته في العام 1990 للنظام السوري في لبنان وتحديداً بعد اتفاق الطائف والإتيان برؤساءٍ للجمهورية تميّزوا بالمطواعية القُصوى لهذا النظام من حيث الولاء المطلق، والإفراط بتوجيهه حيث يُخفق نحو مصالح إضافية له على الارض اللبنانية، لم يلجأ وقتها الى تنظيم استقبالاتٍ تاريخية لهم كما يحصل الآن، ولم يبادر الى ملاقاتهم بجمهورهم وإخوتهم بالمسيح في مهد المسيحية وعلى خطى بولس.

 

ألم يكن ذلك لسببٍ واحدٍ وهو وضع اليد كاملةً على لبنان وقيامه بقمع المسيحيين فيه الذين لم يستكينوا آنذاك رغم ما ألحِق بهم من قمع.

 

أما اليوم، وخلافاً لما سبق، وبعد أن بدأت تتهاوى تدريجياً شعبية العماد عون قياساً بالعام 2005 ، من انتخابات المتن الفرعية عام 2007 والتي تراجع خلالها معدّل الربح من 27000 صوتاً الى 400 صوتاً، كان قد سبقها أفول نجمه لدى شرائح واسعة من المسيحيين بعد توقيعه وثيقة التفاهم مع حزب الله، مروراً بغروب شمسه التي كانت ساطعة عن سماء النقابات الأساسية، وصولاً الى الجامعات وحراجة وضع تياره بين طلابها، لا نغفل ايضاً الإهتراء التنظيمي الحاصل داخل صفوف التيار والذي هو نافرٌ لدرجة استحالة علاجه.

 

قارب النظام السوري تلك الحقائق الدامغة فتدخّل مباشرةً عبر الإستعراض الذي دار في دمشق وحمص وحلب ومعلولة وصيدنايا، مستنهضاً إخوتنا بالمسيح في سوريا الذين نكنّ لهم كل محبة واحترام، جاعلاً منهم ومن ايمانهم ساحةً يستقوي منها العماد عون على القادة المسيحيين داخل لبنان، تماماً كما نُظّمت سايقاً حلقاتٌ كبيرة من السادة دروز سوريا إحتفاءاً بالسيد وئام وهاب وتسليفه أدوار الزعامة.

 

نورد ايضاً ثقافة " خلع العباءات" وكان آخرها من نصيب العماد عون إزدان بها واكتنز، فالتبست علينا رمزيتها أهي " لبولس" كما يحلو للعماد عون الإستعارة لنفسه؟

 

أم كانت " لشاوول" صفةً إتخذها بولس قبل اهتدائه بخطى المسيح؟

 

بين العباءة وبين الجودة التي تحمل فلن تقيهِ برودة ما يتنكّر له من تاريخنا وحرارة ما يستسهله من عذاباتنا، فالمسيحيون الذين تصدّوا في الماضي للاتفاق الثلاثي المعقود في دمشق وعطّلوا إمكانية فرضه عليهم عنوةً، فهم يتوجهون في ربيع العم 2009 الى صناديق الاقتراع ليصوّبوا مساراً صنعوه بأنفسهم في العام 2005 نتيجةً لخداعٍ في المواقف سرعان ما انكشف لاحقاً .

 

لن نهدر الوقت من الآن وصاعداً بالمقاربات والمقارنات بين مواقف العماد عون السابقة والحالية كالقول مثلاً إذا كانت العلاقة مع النظام السوري وصفة علاجٍ لطبيب مقتدر، فلماذا لم يجترع ذلك الدواء في العام 1989 متجنباً ما ألحقته حرب التحرير من دمارٍ في البشر والحجر، مع ايماننا المطلق أن سوريا كانت معتدية آنذاك وقبل وما زالت.

 

لنضرب مثلاً آخر عن موقفه التاريخي سابقاً من حزب الله وسلاحه، ومسارعته لاحقاً للتواثق معه أبعد الحدود متجاوزاً المزاج المسيحي.

 

فهل تغيّرت تصرفات النظام السوري؟ هل تغيّرت عقيدة حزب الله؟ بالطبع لا، والعماد عون ايضاً لم يتغيّر لكنه يبدّل في المواقف والتصريحات وهو ثابتٌ في شخصه، في ذاته، في الأنا التي لا تثق بالآخر ولا تقدّر صنيعاً لأحد، ولا تستحسن موقفاً لمسؤول، هذا ما أوصلنا في السابق الى اتفاق الطائف الذي ابدى رغبةً في تعديله من على منبر جامعة دمشق.

 

اما بالنسبة لما تهمس به مصادر في " التيار العوني" أنه حان الوقت للتفاهم بين الموارنة والعلويين وبالرغم من اعتناق هذا التيار للعلمانية يجاهر بها تارةً ويمزجها طوراً مع تمثيله الحصري للمسيحيين.

 

تندرج الحقائق التالية:

 

اولاً : للموارنة مرجعية روحية تتمثل بصرح بكركي ومعها ومن خلالها يُطرَح ما هو وجداني وكياني راسخٌ للموارنة وسائر المسيحيين، فلا داعي للقوطبة السياسية والإدعاءات الخاوية المضامين.

 

ثانياً : للموارنة والمسيحيين قادةٌ زمنيين وسياسيين لم ينحنوا امام العاتي من الرياح السورية ولم تعتريهم دهشةٌ من ظهور انياب الليث وهو يبتسم إغراءاً منه لقلةٍ او تقديراً لبخسٍ.

 

ثالثاً : للموارنة والمسيحيين كما لسائر اللبنانيين ذاكرة وهاجة، تُسلسل بدقةٍ ما خلّفته ممارسات النظام السوري إبان احتلاله لبنان، وهو بالتالي لا يحملون إزاءه صفحاً رخيصاً ومجانياً قائماً على العشائرية، فالمجتمع اللبناني لم يوكل ذلك إلا لجهاته الرسمية مسلّطاً عليها سيف المحاسبة والحذر.

 

الى أن تنجلي الحقائق وتفرغ اللجان من إماطة اللثام عن مصير المفقودين والمخطوفين في السجون السورية، ويجري تطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان، وتنطق المحكمة الدولية بأسماء المسؤولين عن الجرائم السياسية، وتنقشع غيوم الماضي بتلبّدها وسوادها، عن وضوحٍ في الرؤية السياسية الداخلية، وعن تبلورٍ لشعبية عارمة للعماد عون عابرةً للحدود والدول، تكون عندها قد صحّت النبؤات وأثمرت المرجعية المشرقية المسيحية...

 

9/12/2008