هل تعب المسيحيون؟ هل ما زالوا يمتلكون إرادة المحاسبة؟

"بطريرك 8 آذار" على أعتاب دمشق وطهران

بقلم/عبدالله الخوري

النهار 11/1/2009 

 

عام 2005 نام المسيحيون اللبنانيون على حرير صنيعهم "تجمع الاصلاح والتغيير"، لكنهم سرعان ما استيقظوا بعد ذلك ليشاهدوه يمخر عباباً في عكس تياراتهم واتجاهاتهم التاريخية... فهل يلجأون الى محاسبته في 2009؟

 

ينفرد فريق 8 آذار بمقدّرات ومكتسبات تتناسب مع هيبته الوافرة، وجمهوره الهادر، وقضاياه الكبرى انطلاقاً من استعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مروراً بتحرير فلسطين والتزاماً بإحلال العدالة الكونية حيث تعذّرت.

 

يغالي هذا الفريق بدعم الدولة ومؤسساتها في المؤتمرات الإقليمية وجلسات الحوار الداخلية، ويحتفظ في الوقت عينه بمربعاته الأمنية المحصّنة المحرّمة على الدولة وأجهزتها.

 

يجاهر بدعم الجيش ويدعوه، عبر المنابر والخطب الواثقة، لبسط سلطته، ويحتفظ لنفسه بترسانة ضخمة من الصواريخ والأسلحة التي تطل برأسها رداً على الإخفاق والتعثّر بفرض ارادته على شركائه في الوطن، والشواهد ليست بقليلة وقد خلّفت شرخاً داخلياً لم يعد يسهل ترميمه.

 

أقلية بين الكيانية والذمية

يأخذ فريق 8 آذار على الحكومة إخفاقها بدفع تعويضات 12 تموز 2006 وهو مشاركٌ فيها بثلثه الضامن المعطل، وقد بيّن رئيسها في مجلس النواب مصادر التمويل والمساهمات والحصص التي غطتها الحكومة حتى الآن، كاشفاً مكامن العجز المالي وطالباً التعاون في إمكان تجاوز هذا الملف. لكنه أصلي ناراً حاميةً من اصحاب "المال النظيف"، من دون أن لم تنفع محاولات دولة رئيس المجلس في التخفيف من روع معاونه السياسي.

 

وتتويجاً لنضالات فريق 8 آذار وتظهيراً لبأسه السياسي وتجلياً لباعه الطويل بملء الشواغر وتحصين البنية الروحية، اتخذ لنفسه بطريركاً شمماً يبسط سلطته الحبرية الممتدة من قبر القديس مارون في "براد من اعمال حلب" وصولاً الى الأهواز فمدينة طهران.

 

اقترن ذلك "الحدث المضيء" من تاريخ المسيحيين، والموارنة خصوصاً، بمحطاتٍ وعظيّة وخطبٍ توجيهية تسلّط الضوء على مسلكية " بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق" مار نصرالله بطرس صفير، صادرةٍ عن خبرات وجدانية وضميرية لمرجعياتٍ سياسية من مكونات فريق 8 آذار في السدتين البطريركيتين في الرابية وزغرتا.

 

نثمّن غالياً إعتلاء " صاحب الغبطة" السدة البطريركية السياسية للموارنة خصوصاً وللمسيحيين بوجهٍ أعمّ، ونراها سانحةً تاريخية لإطلاق الذاكرة في تجوالٍ موضوعي ومدقَّق يلامس حقبة ما قبل الاستقلال بقليل ويحط رحاله في ثنايا يومنا هذا.

 

نسلّط الضوء على مفكرة إنسياب الزمن وما انطوى عليه من مدارس ومذاهب سياسية تعاقبت على التراث السياسي والاجتماعي للمسيحيين، حيث للموارنة فيه صولاتٌ وجولات، منها المنير وبعضها المظلم. ونقارن في مقاربة واستعارةٍ تشبيهية بين أحد كتبهم الطقسية المارونية القديمة وهو"السنكسار" الذي تندرج فيه قراءاتٌ مسهبة تبيّن مسيرة السيد المسيح، وبين "السنكسار السياسي" الذي التزم خطوطََه العريضة والتفصيلية بمحرّماته ومحلّلاته السوادُ الأعظم من القادة السياسيين المسيحيين. وذلك رغم التنوّع الحزبي الذي صبغ حياتهم السياسية بين كتلويّ ودستوري، ونهجيّ وشمعوني، وغيرها من قوى سياسية وتنظيماتٍ عسكرية فرضتها دواعي التدرّء والدفاع المشروع عن الحضور الحر وعن التجذّر الكياني اللبناني.

 

هذا التنوّع الناتج عن النبض المنتظم لهذه المجموعة الحضارية، وحيويتها التي أكسبتها تعويضاً ملموساً عن كونها تعاني البُعد الأقلّوي وما يترتب عليه من تحديات. فهي أجادت مقاربتها لقضايا المشرق العربي وطغيان أحادية اللون فيه، يُقابل ذلك غوصاً موضوعياً في الثقافة الغربية ذات الأنماط الحضارية والفلسفية والحقوق الإنسانية، دون الإعراض عن ثوابتها للحضور الحر وانعتاقها عن إعتناق الذميّة وسيلةً ومأرباً، وتنقيتها لمستلزمات الحداثة بمعزل عن الذوبان وتجيير الذات لما هو نافر وتأباه الموضوعية.

 

الطبع الماروني

من الواضح والمقروء بتاريخ منطقتنا الإجتماعي والسياسي عدم اضطلاع المسيحيين بتراثٍ سلطوي وإجرائي مقارنةً بالمسلمين الذين مارسوا هذا الدور أمداً واسعاً منذ القرن السابع للميلاد. أما البديل الدامغ فكان تحصّنهم في لبنان الجبل واتخاذهم فيه مركزاً لكيانٍ سياسيّ مستقل بعد ان كان في اواخر القرن السابع للميلاد مجرّد رقعة جغرافية لا مدلول لها سياسياً. فإلى المسيحيين يعود فضل تأسيس الكيان والاستقلال اللبنانيين، قبل المعنيين والشهابيين وغيرهم. وهم صمدوا بإيمانهم وشجاعتهم ووحدتهم وتماسكهم وإصرارهم على التمسّك بحريتهم ودينهم واستقلالهم وحضارتهم ومُثُلهم العليا. وهذه الصفات كلها تؤلف جزءاً من صميم الطبع الماروني.

 

تبلوَرت أكثر مشاركتهم في نظام القائمقاميتين، وبعدها في بروتوكول 1864 بأبعاده الدستورية والإجرائية، مروراً بفترة الإنتداب التي تعاقب خلالها رؤساء للجمهورية كُثُر، وتلتها مرحلة الاستقلال التي اندرجت في سياقها مدارس سياسية بارزة عند المسيحيين، فتشابهت معظمها بعلّة وجودها وهدف رسالتها. وهي تنافست سياسياً وتقارعت وتجادلت، وآزرتها في ذلك جماهيرها مع المحافظة على الجوهري وإسقاطها الثانوي.

 

كانت باكورة هذه المدارس السياسية مع  الرئيس إميل إده وكتلته الوطنية من بعده، وعميدها ريمون إده.

وكانت الكتلة الدستورية وشيخها الرئيس بشارة الخوري، وضجّت بالرئيس كميل شمعون البطريرك السياسي للموارنة دون منازع، وحزبه "الوطنيون الأحرار"، وقد نوديَ على الرئيس شمعون ايضاً "فتى العروبة الأغرّ".

 

وعبقت توجهات المسيحيين لاحقاً بآدمية الرئيس فؤاد شهاب الذي صافح الرئيس جمال عبد الناصر في خيمةٍ على الحدود مع سوريا، ومعه الشهابية التي لم تنتظم حزبياً، وانطبعت تلك المرحلة باتّساع حزب الكتائب اللبنانية وصلابة الشيخ بيار الجميّل ورئيسين للجمهورية من نَسَبه السياسي والحزبي، ومعهم وليدتهم "القوات اللبنانية" ودورها في تنظيم الخزين الوقائي للمسيحيين.

 

الحركة العونيّة

ثم كرّت السُبحة وحلّت "العونية" ممثلاً حصرياً للمسيحيين ومن سبطها بطريرك سمّى نفسه وجاهر بحبريته جامعاً معها مرجعيته الآحادية "للحالة العونية العلمانية" صفةً إجتماعية مُضافة الى السياسية، وفي هذا تناقض لا يوازيه سوى فُقدان الموضوعية ورفض النقد الذاتي، كمحاولةً للإستخفاف بعقول من يسمع ويرى.

 

هذه "الحالة العونية" وقِوامها طاقم عائلي متفوّقٌ على سائر أبناء جنسه، وفي صفه شرائح متنوّعة من المناصرين والأتباع، تتراوح بين الناس الوطنيين الذين لا غُبار على ولائهم اللبناني، وبين كوكبةٍ من الإنتظاريين يشخَصون الى الإنتخابات النيابية للعام 2009.

 

وهذا حق طبيعيّ لهم بعد أن واكبوا سهولة ولوج رفاق لهم باب النيابة في العام 2005 . وهناك ايضا فئة لا يجاريها في انحدارها القيَمي سوى اقتناصها الفرص المصلحية والمآرب السهلة المنال. هذه الفئة في معظمها من نتاج الأعوام الثلاثة الاخيرة المنصرمة ومعروفة بغربتها عن السنوات السابقة الممهورة بنضال وعذابات "التيار الوطني الحر" الذي أطبِقَ عليه واستُبدلت مكوّناته الاصلية بقطع الغيار المقلّدة المجافية لقناعاته التاريخية ونهجه النضالي الثابت.

 

لقد اختطفه قائده بوثيقة تفاهمٍ باتجاه المربعات الأمنية والقوى القاضمة للدولة وسيادتها، وجنح به ايضاً الى طهران محدداً ظهور نتائج حجته اليها بربيع 2009، وانتهى به مطافه مبشّراً في ربوع الشام مستهدياً بخطى بولس وطيف شاوول، وذلك بعدما تبرّأ بيَساره من قانون محاسبة سوريا في الكونغرس الاميركي الذي لأجله اقام الدنيا ولم يقعدها آنذاك، وتأبّط بيمينه فرماناً فضفاضاً يسبغ على الأسد الإبن البراءة من دم لبنان واللبنانيين، ومُعفياً إياه من تبعات تعسّف الأسد الأب، مُضمّناً فحواه إعتذاراً حاراً للشقيقة سوريا الأسد بالأصالة عن نفسه ونيابةً عن الشعب اللبناني وقادته الذين لم يوفّرهم عبر الأثير الدمشقي المرئي، بذميّةٍ مبتدعةٍ لم يشهد لها شَبَهٌ "تاريخ المارونيا المناضلة" لشدة احتمالها ورَوع معاناتها. هذا فيما نشطت حركة الطائرات الرئاسية الأخوية ذهاباً وإياباً وعلى متنها العائلة الموجِهة للحركة العونية باستعراضٍ يتنكّر للمشاعر الوطنية ويسخر من قساوة التاريخ بمعادلةٍ حيث "لم ولن يجرؤ الآخرون".

 

هل يحاسب المسيحيون؟

تعقيباً لما ورد من سردٍ لوقائع الحضور السياسي للمسيحيين واستنتاجاً لإقتدارهم على المحاسبة وتحصين الذات الكيانية والوجودية تحضرنا أسئلة ملحاحة تجول في الخواطر القلِقة، وتعقب تسلسل الأحداث الداخلية المتفاقمة، وتستنفر القرارات الصعبة الراقدة في أعماقنا والواجب اخراجها الى حيوية العلن والوضوح والصراحة.

- هل تعِب المسيحيون وأصابهم الوهن السياسي والإجتماعي؟

- هل ما زالوا يمتلكون إرادة الحياة الحرة الكريمة في خضمّ التحديات الجسيمة الفائقة الخطورة؟

- هل ما برح الوطن يتفاعل في جوارحهم وقرارة انفسهم كما شكّل لهم طوال قرون منصرمة ملاذاً ودفاعاً صاخباً مستديماً ؟

-هل يفتقر المسيحيون الآن لسلاح المحاسبة يشهرونه حيث تدعو الحاجة اليه؟ كما أسلفوا وفعلوا في محطاتٍ زمنية نتطرّق اليها على التوالي:

 

اولاً: هبّتهم المشهودة في العام 1968 دعماً للحلف الثلاثي الماروني وقيامهم بإسقاط القلاع الشهابية التي شككوا بانتمائها وولائها لما يطمئنهم سياسياً وكيانياً.

ثانياً: انقضاضهم في العام 1986 على تفرّد المرحوم الياس حبيقة بإعلان توقيعه الإتفاق الثلاثي في دمشق وإعادتهم الأمور الى نصابها في الجسم المسيحي الذي ينسجم مع دورة الحياة التي يرتقيها والخِياض بما يؤمن به بالطواعية والإقتناع وليس بالعنوة والفرض.

 

ثالثاً: إقتصاصهم من تجمّع قرنة شهوان في انتخابات العام 2005 بما اعتبره المسيحيون قبول التجمّع بقانون الألفين او ما عُرف بقانون غازي كنعان، وما استشرفوه من إشاحةٍ لوجه بكركي عن دعم هذا التجمّع، فانصبّ تأييدهم صافياً لمصلحة العماد ميشال عون وأكسبوه معركة زحلة وجبل لبنان الأوسط والشمالي.

 

نام المسيحيون في العام 2005 على حرير صنيعهم "لتجمّع الإصلاح والتغيير" ، سرعان ان استيقظوا بعد ذلك ليشاهدوه يمخر عُباباً في عكس تياراتهم واتجاهاتهم، ويتلفّظ محازبوه لغةً غريبةً عن معاجمهم، تتجاذبها أهواء دمشق وطهران، وتنطق بوائد المصطلحات. واخيراً حط رحال العونيين في الثلث المعطل وفي المطالبة بتعديل الطائف "بغية المثالثة " التي تسلبهم حقهم في المناصفة التي بدورها استجابت دستورياً للخلل الديمغرافي والضمور العددي للمسيحيين.

 

هذا كله يفترض فيه أن ينفخ في المسيحيين آلية المحاسبة وروحها، وهم على قاب قوسين وأدنى من معركة انتخابات 2009 التي سوف تدور رحاها في الجسم المسيحي تبياناً للخسارة والربح وتثبيتاً لتموضعه السياسي والعقائدي، فيتأرجح بين انتصاره لمعسكر دمشق وطهران وبالتالي استعدائه لكافة الدول العربية والغربية والعالم الحر، وبين قوله "كلمة الفصل في تحديد انتمائه للقِيَم التي عنوَنت مساراته التاريخية، وتأمين الفوز للسيادة الوطنية والاستقلال التام والقرار الوطني الحر".

 

عبدالله قيصر الخوري