التيار" بين أيار 2005 وأيار 2008

شهادات للتاريخ...– الجزء الأول

محمد أبي سمرا ، الاربعاء 30 نيسان 2008

 

لمناسبة مرور ثلاث سنوات على عودة العماد ميشال عون من المنفى في 7 أيار 2005 ينشر موقع nowlebanon.com نقلاً عن صحيفة "النهار" تحقيقًا يُلقي الضوء على ما آلت إليه أمور "التيار الوطني الحر" وما طرأ عليه من متغيرات خلال الأعوام الثلاثة الماضية التي تلت عودة عون إلى لبنان، ويتضمّن سلسلة شهادات ستنشر تباعًا لبعض قدامى كوادر "التيار" المعترضين تنظيميًا وسياسيًا على سياسات "التيار الوطني الحر" المتّبعة منذ العام 2005 وحتى الآن. بعض أصحاب هذه الشهادات جاهر، داخل صفوف "التيار" وخارجها أيضًا، بمعارضته سياسات الجنرال العائد وتوجهاته الجديدة، لذا سوف تُنشر شهاداتهم بأسمائهم الصريحة. أمّا البعض الآخر من الذين هُمّشوا وأزيحوا ولا يزالون على صلة تنظيمية وسياسية بـ"التيار" فقدّموا شهاداتهم راغبين عدم نشر أسمائهم الصريحة، لذلك سوف تُنشر شهاداتهم من دون ذكر أسمائهم، أو سوف يتمّ الإضاءة عليها ضمن مجموعة شهادات أخرى.

 

ضمن سلسلة من شهادات عدد من قدامى الناشطين الأساسيين في "التيار الوطني الحر" منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، إلى أن همّشتهم وأخرجتهم عودة مُلهم "التيار" الجنرال ميشال عون من منفاه الفرنسي في 2005، يستهلّ عبد الله خوري شهادته بالقول:

 

أنا المسيحي اللبناني المؤمن تاريخياً بأنّ لبنان المعاصر وُجد لطمأنة المسيحيين التوّاقين الى قيم الاستقلال والحرية، إلى مصيرهم، رأيت أن الحالة السياسية التي أطلقها العماد ميشال عون سنة 1988، لم تولد من فراغ، بل هي متّصلة بجذور تاريخية تعود الى مرحلة الأمير فخر الدين الثاني الكبير التي تُمثّل المرحلة الكيانية اللبنانية الأولى، ومروراً بمرحلة المتصرفية التي تُمثّل الحالة الكيانية الثانية والدستورية الأولى المتمايزة في ظلّ الدولة العثمانية، وأجد أنّ مرحلة الرئيس إميل إده الذي كان توّاقًا إلى إرساء ضوابط تثبّت الحضور المسيحي الحرّ في لبنان، هي الحلقة الثالثة في السلسلة الكيانية هذه. فإميل إده كان يمتلك نظرة استشرافية الى ما قد يصيب المسيحيين في ظلّ غياب هذه الضوابط التي فقدوها في المرحلة الراهنة، ليعيشوا حالاً من الضعف والخوف على مصيرهم.

 

وإذا كانت مرحلة الاستقلال هي الحلقة الرابعة في السلسلة الكيانية اللبنانية، فإن الرئيس كميل شمعون استطاع أن يكرّس نفسه بطريركًا سياسيًا للمسيحيين في تلك المرحلة. في سياق هذا السرد التاريخي الموجز، بزغ في زمن الخوف المسيحي على الكيان، الحضور الخاطف للشيخ بشير الجميّل ممثلًا الحالة الكيانية التي راحت تتهاوى بعد اغتياله سنة 1982، وكأنه كان مكتوبًا على المسيحيين أن يعيشوا وضعًا مأسويًا أقوى من قدرتهم على الاحتمال. في خضم هذا الوضع المأسوي بين 1982 و1988، كان المخاض العسير الذي ولّد بارقة أمل مع العماد ميشال عون، فرفض المسيحيون، والموارنة تحديدًا، القبول برئيس للجمهورية اللبنانية من خارج مفهومهم لما أسمّيه "العذرية السياسية" المؤمنين بها. وأعني بمفهوم "العذرية السياسية" هذا جملةً من الأمور والصفات التي يجب أن يتحلى بها الشخص الذي يتبوأ سدّة رئاسة الجمهورية اللبنانية. ومن هذه الصفات: قوة الشخصية والشكيمة، التعامل الندّي مع المحيط الإسلامي الكبير، حفاظًا على كرامة الإنسان وحريته، وعلى مفهوم الوطن والمواطن والمواطنية.

اليوم، وبعد مسيرتي الطويلة في خضم الحركة العونية منذ 1988 حتى 2003، أرى أنّ شخصيّتين سياسيتين مسيحيتين فرّطتا بهذه العذرية السياسية الكيانية والوطنية: إيلي حبيقة حين كان رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" وأبرم "الاتفاق الثلاثي" في دمشق سنة 1985، والعماد ميشال عون الذي تحالف مع "حزب الله" بعد عودته من منفاه في باريس سنة 2005. وقد يكون من غرائب أحوال العماد عون السياسية والشخصية أنه لم يحل سابقًا دون التدمير الذاتي للمسيحيين بحربه ضد "القوات اللبنانية" تحت شعار الحفاظ على هيبة الدولة وحصرية اقتنائها السلاح الشرعي، ولاحقًا أعطى سلاح "حزب الله" صفة الألوهة والديمومة الى الأبد.

 

منذ صباي المبكر، نشأت في قريتي قرنة الحمرا في المتن الشمالي من جبل لبنان، على نفور من فكرة العسكريتاريا السياسية المعروفة والشائعة في العالم الثالث، والبعيدة كليًا عن تكويني النفسي والاجتماعي، والسياسي تاليًا. ففي الرابعة عشرة من عمري تأثرت بطروحات عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، وبغيره من السياسيين الذين يُجسّدون مفهوم "العذرية السياسية" في معناه المسيحي والوطني اللبناني. وحين بلغت من العمر 17 سنة في بداية الحرب (1975)، كنت على خصومة سياسية مباشرة مع حزب "الكتائب اللبنانية"، معترضًا على النهج الميليشيوي لهذا الحزب. لكنني اليوم، وبعد كل ما جرى، أرى أن حزب الكتائب حمل على اكتافه مسألةً كيانيةً لبنانية لو شاءت الظروف والأقدار أن ينجح في الوصول بها الى الغاية المرجوة، لتجنّب المسيحيون ولبنان الكثير من الويلات والمآسي. فالقوى المسيحية اللبنانية، وعلى رأسها حزب الكتائب، وجدت نفسها منذ 1969 في مواجهة التمدّد والسيطرة العسكرية الفلسطينية، شاءت هذه القوى أم أبت، فأقبلت، مرغمةً لا مختارة، على مجابهة هذه السيطرة بالعمل الميليشيوي المسلح الذي لا طاقة لي، أنا شخصياً، على الانخراط فيه...

 

هكذا وجدت نفسي ومجموعة كبيرة من مجايليّ ورفاقي في الكتلة الوطنية في المتن الشمالي، منجذبين الى شعار العماد ميشال عون: "سيادة، حرية، استقلال"، الذي أطلقه من قصر بعبدا الرئاسي سنة 1988، معتبرين أننا نستطيع استكمال مسيرتنا ورسالتنا السياسيتين، تحت لواء مثلث القيم هذه، فأسّسنا ما سميّناه "تجمّع المتن الشمالي الحر"، وزرنا حينها العماد عون في القصر الجمهوري. الانطباع الخاطف الذي حصلته عن الرجل في تلك الآونة، وأنا الآتي من تجربة تنفر من العسكريتاريا السياسية، أنه شخص يربض على كينونة عسكرية، ويمتلك من الفكر السياسي ما يدعوني ورفاقي الى الانخراط معه في مشروع ومسيرة سياسيّين، فانضوينا، كغيرنا من المجموعات الكثيرة المتباينة، في "المكتب المركزي للتنسيق" الذي جمع أنصار "الحالة العونية"، أو "جماعة العماد عون" كما كنا نسمي أنفسنا في تلك الفترة. والحالة هذه التي أطلقها عون في المجتمع المسيحي وقواه الاجتماعية الحيّة وفي قواه وأحزابه السياسية، كانت آنذاك، جوابًا مطلوبًا وشافيًا عن حال الإرهاق والاختناق والترهّل التي أصابت هذا المجتمع المنهك والمتذمّر من السيطرة الميليشيوية العسكريتارية المتصارعة والخانقة لـ"القوات اللبنانية" عليه في الثمانينات من القرن الماضي.

 

أما وظيفة "المكتب المركزي للتنسيق"، فكانت إيجاد إطار يلمّ شمل المجموعات الكثيرة، المختلفة والمتباينة، التي استقطبها الخطاب العوني، ويفعّل نشاطها، ويؤطر إرادة الفئات الشعبية الواسعة التي استجابت للحركة العونية، فاحتشدت بمئات الألوف من الناس أمام قصر بعبدا الرئاسي في تلك الايام. والحقّ أننا نحن الشبان الناشطين القادمين، مجموعات وأفرادًا، من كل حدب وصوب وجهة ومنطقة وميل وهوى سياسي، لم نكن متجانسين ولا متشابهين، ولا تجمعنا رابطة سياسية تنظيمية واضحة، سوى تلك المساحة الإنسانية والفكرية التي أتاحها نداء العماد ميشال عون في كلماته الثلاث المعروفة التي وقعت علينا وقع الحقيقة السحرية الناصعة، كأننا كنا، نحن المتذمرين مما وصل اليه مجتمعنا ووصلت إليه بلادنا، في حال انتظار لمن يُخرجها (الكلمات) من نفوسنا وجوارحنا ويُطلقها في العلنية العامة.

 

كان توجّهنا، نحن كوادر الحركة العونية، يقوم على التواصل الفكري والسياسي مع غيرنا من القوى والجماعات السياسية في كل المناطق اللبنانية. فتولّى رفاق لنا في "المكتب المركزي للتنسيق" التواصل مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحزبه، وتولّى آخرون نسج علاقة مع "حزب الله"، وتولّيت أنا في المتن الشمالي الاتصال بقيادة الحزب "السوري القومي الاجتماعي" في ضهور الشوير وبولونيا. وكانت لنا منذ بداية 1990 لقاءات متكرّرة مع القيادة والمسؤولين في الحزب "السوري القومي الاجتماعي"، غالباً ما كان يستضيفها ويرعاها، آنذاك، أسعد حردان عميد الدفاع في الحزب. وقد أثمرت في 15 حزيران 1990 فتح طريق الدوار – ضهور الشوير أمام المرور الطبيعي بعد أن كانت مقفلة سنوات طويلة. وفي 11 تشرين الاول 1990 اتصل بي السيد حردان وطلب مني الحضور إليه، فقمت مع المسؤول العسكري للحزب في المتن الأعلى، بجولة على طول الطريق التي تربط ضهور الشوير ببلدة عينطورة المتنية حيث شاهدت بأمّ العين أرتال الدبابات وحاملات الجند والشاحنات العسكرية في صفوف طويلة لا تنتهي، فأيقنت أن القيادة السورية أصبحت جاهزة للإنقضاض على المنطقة الحرة التي كان العماد عون يصونها، لإقصاء الحكومة اللبنانية الشرعية والدستورية. وبعد الجولة عدنا الى الاجتماع بالسيد حردان حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة في 11 تشرين اول 1990، فاقترح علينا الاتصال بالعماد عون والتمني عليه الموافقة على اتفاق الطائف لتأمين المخرج الهادئ وتجنّب ما قد ينجم عن عدم الموافقة عليه. بعدها علمت من السيد حردان أنّ هناك فكرة نضجت تقوم بموجبها كادرات تُمثّل العماد عون بزيارة شتورا للاجتماع مع العميد غازي كنعان في السابعة والنصف من صباح 13 تشرين 1990. لكنّ سيف الانقضاض العسكري السوري على المنطقة الحرة متزامناً مع هذا الموعد، كان أكثر إنباءً من كل اجتماع.

 

منذ بدايات إنطلاقته سنة 1988 حتى أوائل الالفية الثانية، استطاع التيار العوني أن ينمو ويتّسع في المجتمع المسيحي اللبناني، ويخاطب بيئات أخرى كثيرة في الجماعات والتيارات السياسية غير المسيحية في لبنان. إذ إنّ الخطاب السياسي العوني جذب إليه مجموعات شبابية واسعة من التيارات السياسية التاريخية الفاعلة في المجتمع المسيحي، وحظي بتأييد واسع في البيئات والقواعد الشعبية لهذه التيارات. ويمكن القول إن "الحالة العونية" استطاعت أن تفرغ الكثير من الأحزاب والقوى السياسية المسيحية من مضمونها ومحتواها على صعيد الحجم الشعبي والأطر والفاعلية التنظيمية. ذلك أنّ مجموعات كثيرة من مناصري هذه الاحزاب والتيارات وكوادرها الفاعلين، التحقوا بـ"الحالة العونية" التي لم تكن مجموعاتها متجانسة ولا متشابهة في مصادرها السياسية والاجتماعية، ولا في توجهاتها الفكرية، ولا في أطرها التنظيمية الفضفاضة. وهذا ما كان يُشكّل عامل قوة وحيوية في نشاطاتها المختلفة والمتنوعة. وكان الرابط الذي كان يجمع بين مجموعات الحركة العونية، أقوى بكثير من الروابط السياسية -الاهلية التقليدية، ومن السجالات والعلاقات القائمة في المجتمع المسيحي وغير المسيحي أيضًا. فالمبادرات العفوية والموضعية النابعة من خيارات المجموعات والأفراد واختباراتها والتفاعل في ما بينها، وابتكار أشكال التحرّك والتنظيم، شكّلت خروجًا على مألوف الحركات السياسية اللبنانية المعروفة. وهذا ما جعل هذه الحركة السياسية بعيدة عن الدوغمائية والعقائدية والبراغماتية والمحسوبية والاستزلام والنفعية السائدة في العمل السياسي، وأدّى الى مدّها بالزخم في مجتمع مسيحي مكبوت ومقموع وخائف في حقبة الاحتلال السوري الطويلة.

 

ومما جعل هذه الحركة السياسية غير مسبوقة أيضًا، هو حركتها ونشاطها في إطار المبادىء الأساسية لمفهوم الوطن والمواطن وحريتهما، وتحت عنوان عام وأساسي قوامه مفهوم الحقّ الطبيعي في الحراك أو التحرّك السياسي الذي لا يخضع للترخيص والمراقبة في الدول التي تطبق شرعة حقوق الانسان ومبادئها. وقد يكون هذا كله ما حمل الاستاذ منح الصلح على القول ذات مرّة عن الحركة العونية، إنّ "هؤلاء القوم أعطوا أفضل ما عندهم وفي نفوسهم".

 

لكنّ المفجع في الأمر أنّ عودة العماد ميشال عون من منفاه الفرنسي الى لبنان في 7 ايار 2005، ذهبت بتجربة "التيار الوطني الحر" أثناء غيابه، ادراج الرياح والأهواء الشخصية لمُلهم هذه الحركة. فالكثير من المجموعات والكوادر الناشطة والتي تكوكبت وصنعت تجاربها في هذا التيار العريض، قامت بحركة عكسية أو معاكسة للحركة التي استمرّت طوال عقد ونصف العقد من السنوات في غياب العماد ميشال عون، فراحت تنفضّ عن التيار وتخرج من صفوفه حائرةً خائبة، لتعود الى الجماعات والتيارات السياسية التي كانت قد خرجت منها في الوسط المسيحي اللبناني.

 

بين 1991 و2000 عاشت الحركة العونية منعطفات وتحولات كثيرة، يمكن اليوم اختصارها في العناوين أو المحطات الرئيسة التالية:

 

- 1991 – 1992 كانت مرحلة توزيع البيانات وكتابة الشعارات على الجدران، في خفاء الليالي والخوف، فيما كان الاحتلال السوري، عبر وزير إعلامه اللبناني ميشال سماحة، يمنع إذاعة أغنية لفيروز، لأنها ترمز إلى مرحلة العماد عون.

 

- في 1992 قمنا بأوسع مقاطعة للانتخابات النيابية، فبلغت نسبة المقاطعة 87 في المئة.

 

- شهد عام 1993 بدايات النشاط الطالبي العوني الواسع في الجامعات والمدارس الثانوية، فأصبحت هذه البؤرة الأساسية للاحتجاج السياسي على الاحتلال السوري.

- بين 1993 و1995 توسّع النشاط العوني إلى النقابات المهنية، فخضنا المعركة النقابية الأولى الناجحة في نقابة الأطباء، وفزنا برئاستها بشخص الطبيب فائق يونس. أما في نقابة المهندسين فترسّخ حضورنا، وأوصلنا الاستاذين حكمت ديب وسليم الشمالي إلى عضوية مجلس النقابة. وفي هذه المرحلة أسسنا ايضًا "المنبر الوطني" الذي أعدّ ونشر الكثير من الأبحاث والتقارير والمذكرات التي تشرح توجهاتنا ومواقفنا، وأرسلها الى منظمات وهيئات سياسية محلية ودولية. وعلى الصعيد التنظيمي أوجدنا ما سُمّي "المنسقية العامة" لـ"التيار" برئاسة اللواء نديم لطيف. أما الإطار العام الواسع الذي ضمّ القوى السياسية المعارضة للاحتلال السوري، فكان "المؤتمر الوطني" الذي شاركنا فيه إلى جانب "المعارضة الكتائبية" وروجيه اده، حزب الوطنيين الأحرار، ومجموعات الكتلة الوطنية. وقد عقد هذا "المؤتمر" خلوات في باريس في حضور العماد عون.

 

- في 1996 خضنا معركة مقاطعة الانتخابات النيابية في لبنان.

- سنة 1998 عشنا منعطفًا سياسيًا أساسيًا تجلّى في مشاركتنا في الانتخابات البلدية، وكانت هذه مشاركتنا الأولى في ما يُسمّى الأجسام التمثيلية الوسيطة. وقد كُلّفت مع نبيل لحود وإلياس أبو غصن الإدارة الميدانية لمشاركتنا في الانتخابات البلدية. وأذكر أنني وضعت تقريرًا عن هذه التجربة خلاصته اقتراح بعدم إقحام "التيار" في زواريب المناطق والعائلات، وقد كرّرت هذا الرأي في مناسبات لاحقة مماثلة.

 

- في 6 شباط 1999، كانت الإطلالة العلنية والتنظيمية الأولى لـ"التيار الوطني الحر" من فندق "ألكسندر" في الاشرفية، حيث أعلن عن مسؤولي المناطق والأقضية والقطاعات، وأعلنّا رسميًا عن التنظيم الذي ضمّ 22 هيئة نقابية ومهنية وطالبية ومناطقية، ليشكّل رؤساء هذه الهيئات الجمعية العامة أو الهيئة العامة التي كانت برئاسة اللواء نديم لطيف. وإلى جانب هذه الهيئة تشكّلت هيئة سياسية من 12 عضوًا برئاسة الاستاذ يوسف سعدالله الخوري، وكان دورها متابعة الشؤون السياسية والرقابة على عمل الهيئة العامة. وكانت الهيئتان تجتمعان دوريًا بالتنسيق الكامل مع العماد ميشال عون.

 

- في 7 آب 2001 دُهم المقر الرئيس لـ"التيار الوطني الحر" واعتُقل معظم كادراته على أيدي أجهزة سلطة الوصاية السورية. فأعقب ذلك إعادة "كودرة" ثابتة وسريعة للجسم التنظيمي لـ"التيار".

 

- في 2002 و2003 خاض التيار المعركة النيابية في المتن الشمالي بحضور لافت وأساسي داعمًا السيد غبريال المر. ثم خاض "التيار" أيضًا المعركة النيابية في قضاءي بعبدا وعاليه عبر مرشحه حكمت ديب، بكثافة عدديّة لمناصريه، وتنظيم قلّ نظيره.

 

طوال هذه الحقبة من النشاط والمنعطفات والتحولات، لم يكن عدد كوادر "التيار" الأساسيّين والفاعلين والمنظمين يتجاوز الـ300 شخص، ويمكن تسميتهم النواة الصلبة الأساسية في الجسم العام لحركتنا السياسية النضالية.

 

"التيار الوطني الحر" جمع في صفوفه ناشطين وناشطات من فئات متوسطة وما دون المتوسطة والشعبية. والجهد المضيء الذي بُذل كان كثيفًا ومضنيًا في ظروف صعبة من المطاردات والملاحقات والاعتقالات اليومية للناشطين الذين كان عليهم متابعة نشاطات وشؤون كثيرة: "التأطير، التنظيم والكودرة" وصوغ البيانات والمواقف السياسية والإعلامية وتوزيعها، بالإضافة إلى إحياء ندوات ومحاضرات وإقامة اجتماعات أسبوعية وإطلاق نشاطات مختلفة منها التظاهرات في مناخ من القمع والمطاردة اليوميين، وكذلك متابعة شؤون المعتقلين والسجناء من "التيار" مع محامين ومع أهاليهم. وفوق هذا كله كان على الناشطين تأمين معيشة عائلاتهم ورعايتها في جوّ من الخوف الدائم والدهم والاعتقال.

 

شهادات للتاريخ... ـ الجزء الثاني

محمد أبي سمرا ، الجمعة 2 أيار 2008

لمناسبة مرور ثلاث سنوات على عودة العماد ميشال عون من المنفى في 7 أيار 2005 ينشر موقع “nowlebanon.com” نقلاً عن صحيفة "النهار" تحقيقًا يُلقي الضوء على ما آلت إليه أمور "التيار الوطني الحر" وما طرأ عليه من متغيرات خلال الأعوام الثلاثة الماضية التي تلت عودة عون إلى لبنان، ويتضمّن سلسلة شهادات ستنشر تباعًا لبعض قدامى كوادر "التيار" المعترضين تنظيميًا وسياسيًا على سياسات "التيار الوطني الحر" المتّبعة منذ العام 2005 وحتى الآن. بعض أصحاب هذه الشهادات جاهر، داخل صفوف "التيار" وخارجها أيضًا، بمعارضته سياسات الجنرال العائد وتوجهاته الجديدة، لذا سوف تُنشر شهاداتهم بأسمائهم الصريحة. أمّا البعض الآخر من الذين هُمّشوا وأزيحوا ولا يزالون على صلة تنظيمية وسياسية بـ"التيار" فقدّموا شهاداتهم راغبين عدم نشر أسمائهم الصريحة، لذلك سوف تُنشر شهاداتهم من دون ذكر أسمائهم، أو سوف يتمّ الإضاءة عليها ضمن مجموعة شهادات أخرى.

 

أثناء حملة الدهم والاعتقالات الجماعية الواسعة التي تعرّض لها "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" في 7 و9 آب 2001 (أسفرت العملية عن اعتقال نحو 120 من كوادر قيادة "التيار" العليا والوسطى، ونحو 80 آخرين من "القوات")، وقامت القوى الأمنية المسيطرة حينها بإقفال مقرّنا، فعقدنا اجتماعًا في منزلي في قرنة الحمرا، ليلة 9 آب، ضمّ نحو 200 ناشط من "التيار" للتداول في آخر المستجدّات. أذكر هذه الواقعة – المنعطف، المشهود لها في تاريخ حركتنا ونشاطنا السياسي، لكي أشير الى الشجاعة والجرأة اللتين حملتا محطة الـM.T.V التلفزيونية ومديرها غبريال المر على فتح المحطة لبثّ يومي مباشر دفاعًا عن المعتقلين وقضيتهم، مما حمل السلطة، لاحقًا، على الانتقام من الـM.T.V بإقفالها وإسكات صوتها.

 

بعد حملة الدهم والاعتقالات تلك، ونتيجة المشاورات مع العماد ميشال عون في فرنسا، إستقرّ الرأي في "التيار" على أن يُعيّن عون قيادة ظرفية وموقتة، باسم "الهيئة التنفيذية"، مهمتها لملمة صفوف "التيار" وتسيير شؤونه في ظلّ الأوضاع التي نجمت عن حملة الاعتقالات. واذا كان هذا الاجراء قد أغضب بعض الناشطين الأساسيين الذين قدّرت موقفهم وملت الى رأيهم، فإنّ الظروف العامة في "التيار" لم تكن تسمح آنذاك بإجراء انتخابات تمثيلية فعلية، لذا عيّن الجنرال عون اللجنة التنفيذية الموقتة على النحو الآتي: إلياس الزغبي للتوعية، حكمت ديب للنشاطات، عبدالله خوري للتعبئة والتنظيم، ميشال شدرليان للعلاقات العامة، جورج حداد للاعلام، جبران باسيل للشؤون الإدارية، وفادي بركات لشؤون حقوق الإنسان ونقابة المحامين.

 

إستمرّ الوضع التنظيمي لـ"التيار الوطني الحر" على هذه الحال حتى الانتخابات النيابية الفرعية في بعبدا – عاليه في ايلول 2003، والتي سبقتها انتخابات المتن الشمالي الفرعية في العام 2002 حين جسّدت الانتخابات معركةً وطنيةً شاملة في مواجهة الاحتلال السوري ورموزه المحلية، وعلى رأسها ميشال المر صاحب الحجم الاكبر في المتن الشمالي، اضافةً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي، وسائر المنظومة التي ما إن عاد الجنرال عون من منفاه الفرنسي في 2005، حتى تحالف معها مجسداً دور ذئبة روما المرضعة لهؤلاء جميعًا.

 

أما بعد انتخابات بعبدا – عاليه، فقد انتبهنا في "التيار" إلى أنّنا اكتسبنا من خلال هاتين المعركتين الانتخابيتين استقطابًا واسعًا وكثيفًا يستدعي إعادة الهيكلة التنظيمية لصفوفنا كي تتمكّن من استيعاب الطاقات الجديدة وتنظيمها وتنشيطها وتركيز حضورها، وصولا إلى إطلاق الحيوية النضالية والسياسية والخروج من التعب التنظيمي. وأنا بصفتي مسؤول التعبئة العامة في "التيار" نقلت إلى الجنرال عون هذه المسألة. وأثناء التواصل معه قال إنّ التشاور جار لوضع ترتيبات جديدة تؤدي إلى إعادة هيكلة "التيار" وإطلاق نشاطه، واتفقنا حينها على تشكيل مجموعات مهمّتها طرح الأفكار والاقتراحات حول الإطار التنظيمي، وجمعها وتحليلها وتنسيقها وتبويبها وبلورتها. وبناء على هذا الاتفاق تشكّلت، بالتشاور مع الجنرال، نحو 18 مجموعة باسم "مجموعات الاستشعار" (نحو 300 شخص) التي راحت تجمع الأفكار والاقتراحات والتجارب وتصوغها كتابة، لإرسالها إلى العماد عون لدراستها. لكن قبل إرسال عُصارة هذا العمل إليه في باريس، فاجأنا العماد بإرساله إلينا قرارًا بمشروع تنظيمي كامل وجاهز، يُعيّن بموجبه 220 كادرًا في مواقع "التيار" التنظيمية كافة، من مسؤولي المناطق والهيئات النقابية المهنية والعمالية والطالبية والإدارية كلها، بالإضافة إلى مساعديهم.

كان القرار غريبًا ومفاجئًا، وضاربًا عرض الحائط بكلّ ما اتفقنا عليه، وكذلك بنشاطنا وجهدنا التنظيمي اللذين بذلا في "التيار" كله وفي "مجموعات الاستشعار"، لنكتشف أنّ غاية إعداد الاقتراحات والمناقشات لم تكن أكثر من إلهائنا وصرف انتباهنا عما كان العماد عون يطبخه في باريس مع أقاربه من أمثال آلان ونعيم عون وجبران باسيل، لتعيين الهيئات التنظيمية في "التيار" كأننا لم نكن سوى مطية لإيصال حاشيته التي أطبقت على مفاصل "التيار الوطني الحر" تأمينًا لتغطية المرحلة المقبلة، وما سوف نشهده من التفاف على الغاية النبيلة التي تأسّس لأجلها.

 

حصل تململ في صفوف "التيار" آنذاك. أنا ومعظم الناشطين في "التيار" في منطقة المتن الشمالي، سجّلنا اعتراضنا على القرار التنظيمي الجديد، فجمعنا تواقيع أكثر من 30 كادرًا في المنطقة وأرسلناها إلى العماد عون، ثم اتصلنا به وقلنا له إنّ المشروع لن يمر. لكن الاعتراضات كانت كثيرة ومتباينة بين ناشطي "التيار" في الكثير من المناطق. وهي تراوحت بين الاعتراض من دون الجهر به علنًا وبالأسماء، وبين التململ الحائر والصامت. وهؤلاء المعترضون سرعان ما تبينوا أنّ خطوتنا العلنية في الاعتراض كانت صائبة، لذا راحوا يغادرون صفوف "التيار" في مراحل متلاحقة، فشكّل خروجهم نزيفًا مستمرًا منذ ذلك الحين حتى الساعة، مرورًا بمرحلة عودة العماد عون من المنفى سنة 2005. وهكذا صار الهيكل التنظيمي لـ"التيار الوطني الحر" كناية عن جماعة عصبوية تأتمر بأوامر عمادها، وقوامها إطار ديكتاتوري ركيزته إطلاق الأوامر والأحكام وتنفيذها، واحتكار الإطلالات الإعلامية المحصورة بالحاشية الضيقة.

 

عشية انتخابات بعبدا - عاليه الفرعية، بدأ ظهور السيد إبرهيم كنعان في خضم التحضير للمعركة الانتخابية. وجاء حضوره هذا بمعية الأستاذ حكمت ديب، وقد فوجئ وقتها ناشطو "التيار" بظهور كنعان غير المعروف من قبل بحضوره في حركتنا ونشاطاتنا، بينما كان الرجل يتردّد على البيوت السياسية كلها في المتن الشمالي، طامحًا في ولوج باب النيابة. وحين لم يحالفه الحظ مع أيّ من تلك القوى، انتقل بعدّته المادية إلى كنف "التيار الوطني الحر". لذا قمت بمعارضة قوية داخل "التيار" لسلوك إبرهيم كنعان وحضوره وسخائه المالي داخل "التيار" حيث أراد أن يفتح بازارًا سياسيًا. وهذا ما حاولت إفهامه له شخصياً، قائلاً إن "التيار" غير مدرج في لوائح البورصة التي يحاول مع بعض أقارب العماد عون إدراجه فيها، عبر السخاء المالي. فنحن قيمة إنسانية ونضالية وتاريخية لا تُعرض في البورصات. وهكذا راحوا يهدّدوننا بأنهم سوف يوصلونه إلى النيابة، قائلين إنّ سبب رفضي سلوكهم هو عدم اختياري أنا شخصيًا للترشيح إلى المقعد النيابي. غير أنّ الذي يحلم بمقعد نيابي عبر تزكية العماد ميشال عون ورغبته، حيث تلعب الولاءات والاستزلام في هذه الدائرة، لا يقوم بمعارضة تنظيمية في داخل "التيار" منذ ما قبل الانتخابات، بل يسكت ويستكين ويوالي ويستجيب وينتظر متحيناً الفرص. هذا مع العلم أنّ العماد عون نفسه كان يقول ويردّد انّ اللجنة التي عيّنها وضمّتني آنذاك في أواخر العام 2003، كانت تضمّ أبرز مرشحي "التيار" لانتخابات الـ2005.

 

ظاهرة إبرهيم كنعان في 2003، صارت هي السائدة بين مرشحي جماعة عون في انتخابات 2005 النيابية العامة، بعد عودة الجنرال الى لبنان. إذ إنّ أثناء التحضير لهذه الانتخابات أقيم في الرابية بازار نيابي، ضرب عرض الحائط ببديهيات ما ترقى إليه القوى المقاومة سلميًا للاحتلال السوري.

 

أنا الذي كنت أحاول المشاركة في صوغ أطر تنظيمية تتناسب مع مرونة النضال والنشاط السياسي لـ"التيار الوطني الحر"، اكتشفت في أواخر العام 2003 النازع الديكتاتوري في سلوك العماد عون وتصرفاته. ومع رفاقي في المتن الشمالي سجّلنا اعتراضنا العلني في نهايات ذلك العام نفسه. وهنا أذكر من وقائع الاتصالات مع العماد عون آنذاك، أنه قال لي ولرفاقي المعترضين، حرفيًا: "أنتم لا تمتلكون ثقافة متمكّنة في الديموقراطية. فالرئيس الأميركي، في أفضل الديموقراطيات، يتّبع مبدأ تعيين إدارته الجديدة". وعلى ما أذكر كان جوابي له الآتي: "الرئيس الاميركي يُعيّن مستشاريه فقط، حضرة الجنرال، وبعد أن تحصل مشاورات بينه وبين الكونغرس الذي يوافق على التعيين. لكنّ الرئيس الاميركي لا يُعيّن الكونغرس. أما أنت فقد عيّنت الكونغرس والمستشارين والوزراء، جنرال، من دون الرجوع الى أية هيئة أو الاستناد إلى أي ضوابط. لذا نحن لن ننفّذ، جنرال". وفي نهاية الاتصال قال: "مرقلي هـَ الموضوع، وبعدين منعمل اللازم"، فجاوبته بأنني أعتذر، لأنني لست من المساومين.

ربما عليّ أن أذكر أنني كنت قد علمت مسبقًا أنّ الرجل كان يمهد السبل لعودته إلى لبنان، ضاربًا عرض الحائط بالأسباب كلها التي أوصلته الى التوهّج، كأنه لم يكن يرى في الجمهور العريض الذي استجاب إلى نداءه وحمل لواء قضيته الوطنية، أكثر من مطية للوصول. أقول هذا لأنه تبيّن لي من خلال معلومات وصلتني آنذاك من العاصمة الفرنسية في العام 1994، تفيد أنه كان يستقبل مسؤولين في النظام السوري، لتكون عودته على حساب القيم التي ناضلنا من أجلها وحساب المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. وفي هذا المجال لم يعد سرًّا ما أكّده مرارًا السيد فائز القزي عن الكثير من تبادل الاتصالات وتبادل التحيات التي قام بها بين القيادة السورية والعماد ميشال عون تأمينًا لعودته الى لبنان، وكيف أنّ الرئيس إميل لحود دخل على الخط عبر مبعوثين الى باريس، أتمّوا صفقة العودة.

 

في الاتصال الأخير بيننا أذكر أنني قلت للجنرال عون إننا كلانا "نتساوى في الكرامة، رغم تفاوت المسؤوليات بيننا، لكنني أستطيع القول إنك حوّلت شخصك إلى صنم، ودخلت إطار الصنمية، بدل أن تتفاعل. ورغم قوة نبضك التاريخي ونبض حركتك السياسية (وكان الجنرال يستمع من دون تعليق)، دعني أقول لك إنّ عبادة الناس لشخصك بدأت تحملهم على أن يُسمعوك ما تحبّ أن تسمعه من الكلام، لكنني أؤكد لك أن العبادة والتسليم الكامل لشخص واحد يعطّل دور العقل والمنطق والتفاعل الحر بين البشر، فكيف في حركة سياسية"؟!

 

حدث ذلك في أيلول 2004 وكنت منذ أواخر العام 2003 قد جمّدت نشاطي في "التيار" الذي رأيت أنه لم يعد سوى جماعة الجنرال عون أو التيار العوني بامتياز.

كنا نحو 30 من رؤساء الهيئات في المتن الشمالي، حين جمّدنا نشاطنا في "التيار الوطني الحر" في أواخر ذلك العام. أما إطار تفاعلنا فكان يشمل نحو 500 شخص على الأقل في هذه المنطقة. وهؤلاء خرجوا في معظمهم من صفوف "التيار" الذي تنكّر لهم من دون أن يرفّ لأحد جفن. وهذا دليل على القدر الكبير من قلّة المسؤولية السياسية والوطنية والتضحية بكل شيء على مذبح الأنانيات والوصولية والمصالح الشخصية وتعظيم النفس.

 

إذا نظرنا اليوم الى سلوك العماد ميشال عون السياسي ومواقفه العامة والشخصية كلها مقارنة مع بداية حركته سنة 1989، في ضوء المنعطف الكبير والخطير الذي أصاب "التيار الوطني الحر" منذ عودته الى لبنان سنة 2005، نستطيع أن نربط ذلك بتأزيمه الوضع اللبناني الراهن منذ نهايات سنة 2006. والرابط العميق بين هذين الوضعين المتباعدين زمنًا هو شخص العماد عون الكريم الذي يقوم على معادلة: أنا أو لا أحد.

 

فالرجل الذي تصرّف ويتصرّف بتيار شعبي، سياسي وتاريخي عريض لدى المسيحيين، على النحو الذي انتهجه العماد عون في تصرفه بهذا التيار العريض الذي يجسّد قلقًا على المصير وتوقًا إلى خلاص دستوري يضمن حقّ المسيحيين في الحرية والاستقلال والكرامة، ليس برجل سياسة ومسؤولية، بل هو رجل مقامرة. وفي هذا المنظور أجد أن لا "حرب التحرير" ولا "حرب الالغاء" كانتا خطأ، أو ناجمتين عن سوء التقدير - مع تأكيدي المطلق على الدور السوري المعتدي في تلك الحقبة - بل تُجسّدان حادثين كبيرين في سياق مقامرة متّصلة يقوم بها رجل يقول اليوم في نفسه: أنا آخر ما يهمني أن يرضى المسيحيون عني أو يغضبون مني، ما دام مليون شيعي يأتمرون بأوامري. ومن يسترسل على هذا النحو مع أوهامه وصورته العظيمة عن نفسه، وجب عليه أن يفقه ألا دور له في ولاية الفقيه سوى أنه أصبح يلي القرار ولا يصنعه.

 

منذ سنة 1990 كان لـ"التيار الوطني الحر" رأي واضح وصارخ في سياسات "حزب الله". وهو كان ينفرد بهذا الرأي الواضح بناءً على منطلقات الفكر الكياني اللبناني لـ"التيار" منذ انطلاقه في مواجهة الاحتلال السوري. وطوال حقبة هذا الاحتلال كانت لـ"التيار" مواقف واضحة وصريحة من مسألة الفساد الذي كان مستشريًا في الطبقة السياسية الحاكمة والموالية للنظام السوري.

 

أما الانعطافة التي انعطفها "التيار" منذ عودة الجنرال عون سنة 2005، وتحالفه مع "حزب الله"، فجعلتاه حكمًا متحالفًا مع النظام السوري. وحين يُسأل العونيون اليوم عن هذا الأمر، وعن منحهم البراءة للنظام السوري مما حدث ويحدث في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تراهم يتحدّثون عن الفساد والتخريب اللذين حصلا في البلاد إبان الاحتلال السوري، محمّلين المسؤولية عن ذلك للرئيس رفيق الحريري والفريق السني في لبنان. وإذا كانت هذه الوجهة قائمة في التسعينات، فإنها أصبحت أكثر من واهية منذ سنة 2005، وهدفها الوحيد تبرير التحالف بين العونيين و"حزب الله"، ومنح البراءة لنظام دمشق.

 

لقد هيمن اليوم العامل الشخصاني والإطار الشخصاني على توجّه جماعة العماد عون. والشخصانية هذه بدأت في البروز منذ سنة 2003، وتضخّمت منذ ذلك الحين، حتى جرى اختزال "التيار" بأشخاص، منهم إبن أخت العماد عون ألان عون وصهره جبران باسيل. فمنذ سنتين وتحديدًا في 12 نيسان 2006 صرّح عون لصحيفة "السفير"، قائلاً: لو كان في "التيار" خمسة أشخاص مثل جبران باسيل، لكنت استغنيت عنه. وهذا يُشكّل إهانةً صارخةً على مساحة "التيار الوطني الحر" من لبنان إلى أصقاع المغتربات.

 

منذ سنة 2005 جذبت أضواء العمل العام والسلطة الجماعة العونية، من دون أن تدخل الى السلطة أو تتمثّل فيها. والنجاح الباهر الذي تحقّق لهذه الجماعة في الانتخابات النيابية الأخيرة، جعل البعض منها يعيش في حال انتظار ولوجه باب النيابة والوزارة والوظائف الحكومية الأخرى، معتبرًا أنّ دخول العماد عون الوزارة، من دون وصوله إلى الرئاسة الأولى، سوف يمنحه عددًا من الوزراء والمدراء العامين في الدولة، ولا بدّ أن تكون هذه المناصب من نصيب المحظيّين.

 

هذا من دون أن ننسى أن شريحة كبرى من العونيين الذين أوكلوا مصيرهم وتطلعاتهم وآمالهم الى العماد ميشال عون، تتمتّع بنوايا حسنة وطيّبة، فإن المستمرين اليوم في الدائرة المقربة من العماد عون، قرّروا تجيير ذواتهم وقناعاتهم ومصائرهم كلّها للعماد عون، من دون رأي ولا مساءلة، معتبرين أنّ الرجل ألمع وأذكى من الجميع، ويستطيع وحده التفكير عن الجميع واتخاذ القرارات عنهم وباسمهم.

 

أخيراً يمكن تقسيم الجماعات المستمرة في ولائها للعماد عون اليوم، إلى ثلاث فئات:

 

- فئة الوطنيين اللبنانيين المسلّمين، ببراءة وعلى السجية، زمام أمرهم وولائهم لشخص العماد عون الذي حمل لواء القضية منذ سنة 1989.

- فئة أصحاب المصالح والمآرب من المتسلّقين والوصوليين الموعودين بالنيابة والوزارة والوظائف الحكومية في الفئة الاولى.

- فئة كانت تسبح داخل إطار التضامن والتكامل بين العماد عون والرئيس اميل لحود، مشكّلة خيوط الربط بين الرجلين منذ سنة 2003. والفئة هذه هي من المتسلّلين بين الجماعات والمجموعات السياسية، وتحترف الخِدع والألاعيب مدعومةً من أجهزة مخابراتية وأمنية ومالية.

 

***عن موقع لبنان الآن