مصائر ميشال عون والعونيين في مرآة اطوار "المجتمع" و"الشعب" المسيحيين (2-2)

من "فكرة" الاحتلال البسيطة ولدت "الشيعة العونية" خارج الأبنية السياسية المستقرة

فانكفأت على نفسها واحلام قائدها المنفي والمتعاقد مع "الأمة" على الاخلاص

النهار/وصاح شرارة

الأحد 15 حزيران 2008

 حلقة ثانية واخيرة من هذه الرواية عن نشوء الحركة العونية ومصادرها ونشاطها ومصائرها. وهي تتتبع اشكال العلاقة الصوفية بين الفرقة او "الشيعة العونية" ومجتمعها وقائدها الملحمي اثناء رئاسته الحكومة العسكرية وبعد نفيه الى فرنسا وعودته منها.

 

كان ما افترضه رئيس الحكومة الانتقالية العسكرية العماد ميشال عون، مدخلاً الى التوحيد، ومنه الى التحرير، وتصوَّر فعلاً في هذه الصورة في أوقات خاطفة، قد ارتد على اللبنانيين شرذمة وشقاقاً. فقوّى الولاءات العصبية الداخلية، وحملها على طلب عون الأقطاب الإقليميين والدوليين المتنازعين من غير تحفظ.

طائفيات جديدة

 

انحاز الشيعة والدروز والسنة وشطر من المسيحيين الى قياداتهم "الجديدة"، المولودة من أعوام طويلة من المنازعات السياسية والعسكرية والاجتماعية (أو الجماعية) الحادة، ومن اختبارات التهجير والاقتلاع والهجرة والانخراط في سياقات حياة طارئة وعسيرة. ونشأ أو تبلور صنف مختلف من الطائفيات طوى سابقاتها الفطرية والمطمئنة الى كياناتها الأهلية الموروثة والنوحية (نسبة الى نوح النبي، على قول كاتب سوري). وينزع هذا الصنف من الطائفيات الى بناء أجسام مرصوصة، قامت عصبيتها المجتمعة والواحدة مقام الهوية السياسية الإلزامية. وتضافر على التوحيد العصبي والإلزامي ضم مرفق عسكري وأمني مستقل الى الجسم الأهلي، وإلى قيادته السياسية، ونزول الجسم الأهلي "بلداً" واحداً ومتصلاً، أو النازع الى الوحدة والاتصال، وإضمارهما بنداً من بنود "برنامج" الجسم هذا، أو رغبة من رغباته. فالحروب والمجابهات العريضة جعلت بؤر السكن المنتشرة في ثنايا الكتل المذهبية والطائفية الكبيرة أهدافاً "عسكرية" وسياسية سهلة تتبادل الجماعات الأهلية، وأجهزتها العسكرية والأمنية، "الردود" والتهديد من طريقها، وبواسطتها. فتوالى "سقوط" البؤر هذه، من الدامور والكرنتينا والعيشية وبرج حمود والنبعة والقاع (1975 – 1976) الى الشوف المسيحي (1983). وبين هذا وتلك عدد كبير من البلدات والمدن، على طريق الساحل الجنوبي وفي البقاع الشمالي والغربي، سوّاها النزوح والهجرة على خلقة جديدة، وسحنة مختلفة. وساق نازحيها ومهاجريها الى مواطن جديدة، في المتنين وكسروان (فيما يعود الى المسيحيين)، وفي ضواحي جنوب بيروت وبعض احياء غربها (فيما يعود الى المسلمين الشيعة).

 

فاضمحلت، في خضم الجماعات النازحة والمقيمة "الأصيلة" وفي دوامة حركات النزوح وتجارب الإقامة المضطربة، المراتب الوسيطة المحلية والقرابية. ونزعت الى الذوبان في الجسم الطائفي المجتمع والمنكفئ على "بلد" متصل واحد. وحلّ محل "البلاد" (بلاد جبيل، بلاد كسروان...). فأتمت الحروب، على نحو فظ، ما بدأه سكن المدن ونشوء المكانة عن العمل والتعليم. وتولت المنظمات العسكرية، والمرافق الاجتماعية والخيرية، المركزية، رعاية القادمين المتساقطين من الأبنية البلدية المتآكلة، وسعت في دمجهم في الجسم الأهلي الجديد. ونافست الأبنية الكنسية على مهماتها وعملها. وتصدر الأجسامَ والكتل الأهلية قادةٌ هم "عطاء" ("كاريزما" على المعنى الحرفي) السماء الى الجماعات والدول، و"نصرها" و"عونها"، على ما هتفت الحناجر، وهزجت الأناشيد من قبل ومن بعد. وتربع القادة، على مقادير متباينة، في سدة أجهزة بيروقراطية ومتخصصة، عسكرية وأمنية وإدارية ومالية واقتصادية وإعلامية كبيرة وقوية. فأشرفوا من علٍ على جماعاتهم. وطلبوا "الوصاية" عليها، والتحرر من القيود التي تقيد بها الفروقُ والمنازعات والأعراف القيادةَ السياسية. فتُلزمها التحكيم والموازنة بين الكتل. وتدعوها الى اعتبار الاختلاف بين المصالح والوظائف والأدوار الاجتماعية. واتصل القادة وهم على هذه الحال، بـ "روح" جماعتهم من غير وسيط، ولا حاجز. وكانت "الروح" هذه، في معظم الأحوال، العبارة عن جمهور الجماعة العامي، وسواقط مراتبها الاجتماعية والوظيفية المتوسطة، وترسبات التساقط والانهيار اللذين أصاباها جراء النزوح والهجرة القسرية والاقتلاع والإقامة القلقة. فتسلط القادة على جماعاتهم باسم عوامها وجماهيرها المولودة من الحروب والمنازعات الكثيرة. وقاموا منها مقام الآباء والجنرالات والمرشدين والمعيلين والبطاركة والمشرعين و "المفكرين"، على قول حسن البنا، صاحب "الأخوان" (أو على معنى قول له بألفاظ أخرى). ودمجوا الأدوار والمهمات كلها في القائد الواحد. وطلبوا إطلاق يدهم في دوائر الحياة كلها، من غير استثناء ولا قيد أو حسبة. ودعوا جماعاتهم الى التصديق والتسليم.

 

الجيش/ الحزب و"مجتمعه"

لا شك في ان الحرب المقيمة والمزمنة والجامحة، الخارجية او الأهلية، هي المعرض أو السياق الأمثل لإنشاء ما سماه الخمينيون عن اختبار ودراية "مجتمع الحرب". و"مجتمع الحرب" هو البنية التحتية لهذا الصنف من القادة الملهمين، ولـ"شعبهم" و"دولتهم". وإذا كان موسى الصدر، "إمام" شيعة لبنان (1966 – 1979)، سباقاً الى الإرهاص بمثل هذا "المجتمع"، ثم حذا حذوه (على فروق كثيرة)، أو ابتدع مثاله الخاص، بشير الجميل، فلا شك في ان الحزب الخميني الشيعي ("حزب الله") هو "شيخ" ومقدَّم من أنشأوا "مجتمعات حرب"، وبلغ في مسعاه رتبة التمام. ولكن ميشال عون، يومها، كان لا يزال بعيداً من المثال الحزب اللهي عملياً، ومن الافتتان به ذاتياً، على نحو ما كان المثال نفسه بعيداً من تمامه، ويتلمس طريقه الى التمام. وما "أنجزته" الحرب اللبنانية – السورية في 1989، وهي واقعة في سلسلة وقائع طويلة ومتعرجة من المعارك والصدامات والاشتباكات لم تبلغ خاتمتها وقد لا تبلغها، يقتصر على وضع "المحرر" العسكري، وجمهوره الوليد معه، اللبنات الأولى لتمثاله وصورته الآتيين.

 

فلم تخيِّب عثرات الحرب التي شاءها من ابتدأ يسمي نفسه، ويسميه أنصاره، "القائد" ويلصقون صوره على المصفحات وناقلات الجند، آمال "الشعب" المسيحي. وهذا جماعات. فمنها الشباب "الإصلاحي" والطالبي، وجمهور بشير الجميل العازف والمستكين منذ اغتيال بطله الأسطوري. ومنها جماعات حزبية، كتائبية وقواتية، ناشطة أشعرتها مبادرة قائد الجيش الى قتال القوات السورية بعطالتها وتبطلها السياسيين. فأحد روافدها خليط من نازحي الشوف وساحله والشريط الجنوبي الذين حمّلوا التبعة عن معاناتهم الى "عهد" أمين الجميل والسياسيين القاعدين و"القوات اللبنانية"، والكنيسة المارونية، معاً. ولا ريب في ان رافداً آخر حمل معه يساريين سابقين أو حاليين، وأصحاب أفكار "نقدية" ومتعلمين ينشدون معالجة تقنية أو تكنوقراطية للمسائل المزمنة، ويذهبون، على ما ذهبوا هم إليه، أو ذهب "إخوتهم" المتقدمون عليهم سناً، عشية "ظهور" بشير الجميل، الى ان المعالجة التقليدية والهادئة و"الطائفية" لا ثمرة منها. وقبل الجماعات هذه كلها، وبعدها، خرج من صفوف الجيش نفسه ضباط مسيحيون من رتب مختلفة حسبوا، على خلاف التقليد العسكري اللبناني الذي لا يستثني رئيس الجمهورية فؤاد شهاب (1985 – 1964) نفسه، ان الاحتراف العسكري، ومكانة الجيش، يؤهلان العسكريين الى تقدم صفوف من يطلبون التغيير والإصلاح، ويسعون فيهما، وإلى تولي الحكم باسمهم، وباسم خلاص الوطن وإنقاذه.

 

وجهر العميد الركن (يومها) فؤاد عون هذا الرأي، وصاغه مذهباً وعقيدة، وسوغه في كتاب – برنامج وسمه بـ"ويبقى الجيش هو الحل". وتابعه على رأيه ضباط كثر آخرون حملوا الجيش على ما لم يحمله عليه قبلهم ولا بعدهم غيرهم من زملائهم ورفاق سلاحهم. فإلى ميشال عون، تعاطى كبار الضباط الموارنة، وعلى وجه التخصيص مدراء المكتب الثاني وبعض ضباطه، السياسة، أي استمالة رجال السياسة أو تخويفهم، وإلزامهم مواقف يرونها مؤاتية أو ثنيهم عن أخرى، وتهديدهم في مصالحهم الانتخابية أو خدمة المصالح هذه جزاء ولائهم وتأييدهم سياسة دعوا الى تأييدها. وفي أحوالهم هذه كلها، كان العسكريون يخدمون سياسة رئيس منتخب، أو سياسة قطب برلماني أو أهلي. ومسوغ الخدمة هذه عملي أو ذرائعي وليس إيديولوجياً. وخرج بعض الضباط عن السلك، وقاتلوا في صفوف المنظمات الأهلية العسكرية. وبعضهم كان "ركناً" فيها. وخالف فريق ميشال عون، والرجل نفسه، المعايير هذه كلها. فدعوا إلى مبايعة السلك العسكري. وناطوا به خلاص الدولة والوطن وإصلاحهما. وتذرعوا الى دعوتهم بذرائع عامة ومعيارية. فعارضوا "رذائل" رجال السياسة، وفسادهم وأنانيتهم وتقاعسهم، وقعود الكنيسة وأساقفتها وانكفاءها على نفسها، ولهاث اصحاب المصالح "الضيقة" وراء مصالحهم الخاصة – عارضوا هذا كله بـ"فضائل" السلك العسكري، ووطنيته ونزاهته وتضحيته.

 

فقرّبوا الجيش، والحال هذه، من "الحزب" الوطني المقاتل، والأداء العسكري من الأداء السياسي والحركي. وأقبل عسكريون، من لفيف قائد الجيش وأركانه المباشرين أو من دائرة أوسع، على الدور المقترح عليهم إقبال المؤمنين والمريدين. وبدا اضطلاع قائدهم، في المحنة الحالكة التي خيمت على لبنان واللبنانيين، بدور "المقاوم" والمحامي عن الدولة والوطن، وعن "البلد" المسيحي، استجابة أمينة لحقيقة المهمة المنوطة بالجيش، وتصحيحاً أو تقويماً لنكوصه السابق وضعفه. فأيقظ اضطلاعه هذا عصبية عسكرية أو "جيشية" سرت في أهالي العسكريين وفي بلادهم ومناطقهم. وحرص "القائد"، وهو نحا نحو الشخصنة من غير حذر ولا تحفظ، على النفخ في العصبية هذه، وإعمالها، وإعمال تماسكها ونصلها في "الحروب" الكثيرة، الميدانية والمعنوية السجالية، التي خاضها. وكان إنشاؤه "أنصار الجيش"، ودعوته الشبان الى الالتحاق بما يشبه منظمة شبابية وجماهيرية (على قول يساري وتنظيمي)، إجراء أراد به توسيع دائرة العصبية "الجيشية" الى جيل أبناء العسكريين. وأراد دمج الأبناء المتحدرين من منابت متواضعة عموماً في "طبقة" شباب مشتركة، يلتقي فيها هؤلاء بمتحدرين من منابت أكثر يسراً، متوسطة ومتعلمة، تحت لواء الجيش.

فمالت "قاعدة" قائد الجيش السياسية والاجتماعية، على رغم خليط مصادرها، وكثرة المصادر هذه وضعف تجانسها، الى غلبة الفئات المتواضعة و"الشعبية" (على معنى الفقيرة والكادحة) فيها وعليها.

 

"البطريرك" المصلح

يتفق هذا كله مع سيرة قائد الجيش، وفريقه القريب، وخط السيرة البياني، الاجتماعي والثقافي. وهو يتفق كذلك مع "الحكاية" المسيحية اللبنانية الذاتية، وروايتها "تاريخ" لبنان على وجهي "انتقال" و"صعود" ينتهيان الى "خلاص". ولم يمش رئيس الحكومة الانتقالية العسكرية على خطى سلفه الأسطوري، كميل شمعون. وهذا، على قول عبدالله خوري لمحمد ابي سمرا، "شخص عادي استطاع، في حياته ومماته، ان يكرس نفسه بطريركاً سياسياً على المسيحيين". فهو اقتصرت "ولايته"، أو كرامته وتطويبه، على مذهبه أو مذهب أنصاره، على انتسابه البنوي الى السيدة العذراء، السيدة العجائبية وسيدة الآلام. وحسِب الخلف، على قدر ما يرتضي خلافة، أنه مصلح ديني، ومجدد كنسي ولاهوتي. فيروي عنه بعض أنصاره أو مريديه السابقين انه يدلي، في مجالسه الخاصة، بآراء "لاهوتية". ويقول أن "رؤياه" تقضي بـ"تطوير المسيحية". فهو داعية "إصلاح" (على مثال لوثري أو كالفيني ربما يتصل بمنزع قومي أو أهلي استقلالي) لاهوتي نواته تناول مفهومي "المحبة" و"المجتمع"، و"تطويرهما" على نحو ينجم عنه تداعي الكنيسة المارونية، وانهيارها، وعزل بطريركها أو التحاقه بـ"الرؤيا" الجديدة. والحق ان المذهب هذا يستأنف منزعاً "نبوياً" ألح على عدد لا يستهان به من أقطاب "الشعب المسيحي"، وحملهم على تنصيب أنفسهم "بطاركة"، على معنى مجازي وسياسي.

 

واستئناف قائد الجيش السابق، ورئيس تكتل "الإصلاح والتغيير" النيابي، (والماسوني السابق؟) المنزع او التقليد هذا يخرجه من المجاز والسياسة، على معناها الأبوي و "البطركي" الشمعوني، الى "الحقيقة". وعلى رغم حذره في محاوراته والصحافي الفرنسي فردريك دُمون ("رؤيتي للبنان"، دار صادر، 2007)، لم يمسك نفسه عن القول: "اننا مسيحيون بالمسيح، وليس من خلال الإكليروس، لأن الأمر ليس محصوراً فيهم". فيرفع طرفاً من الستر عن "رؤياه" اللاهوتية. ولكنه لا يلبث ان يستدرك: فالإكليروس، أي جسم الكنيسة يلابس "موروث... الطائفة"، وهذه "مصدر غنى في شكل أو آخر للمسيحية"، على ما يقول مراعياً "شعبه" الانتخابي وقومه وأهل ملته.

 

وعندما أنهى إليه السفير البابوي، في تموز 1990، قلق يوحنا بولس الثاني من مآل معاندة قائد الجيش الوساطة العربية، وأثر المعاندة في "المجتمع" المسيحي ووحدة لبنان وتماسك الكيان، وناشده الاستقالة، سأل ميشال عون السفير: ممن الرسالة. فلما أجابه انها من البابا، قال: "قل للبابا انه رئيس الكاثوليك في العالم، وأما في لبنان، وفي الشرق الأدنى، فرئيس المسيحيين هو أنا" (عن كارول داغر). والمصلح و"المغيّر" ("حارس الثورة"، على قوله اخيراً) لا يقف إصلاحه وتغييره وثورته على السياسة والمجتمع والكنيسة والدين، فيتخطاها الى ركن التربية، على معناها الإنشائي (أي الخلق). فأسر الى محادثته، في ختام حربه على القوات السورية، ان إصلاحه يتناول ستة فصول: 1) فصل العلاقة بين الزوجين وتنظيم الأسرة، 2) وفصل التربية الرياضية والعناية بالغذاء، 3) وفصل الإنسان والمجتمع 4) وفصل علاقة الإنسان بالوطن والدولة، 5) وفصل النظام السياسي والواجبات الوطنية، 6) وأخيراً فصل الإنسان والدين. ويقضي أحد البنود الإصلاحية بإحياء طوائف الحرف والأصناف (وربما يجهل قارئ الكتب "عن" الإسلام، أي عون نفسه، ان نظام الحرف والأصناف جزء من التصوف وطرقه).

 

ولابس "نظام" الأفكار هذا "الجبهة" السياسية والاجتماعية المختلطة التي مشت وراء عماد الجيش ورئيس الحكومة الانتقالية وأيدته، و"الحروب" العسكرية والسياسية والأهلية والديبلوماسية التي انفجرت أو تجددت في سياق تصدي الرجل الى زعامة "البلد" المسيحي والدولة معاً، على نحو ما لابست اشتباه الموقع الرئاسي (الماروني) وترجحه بين معيار قيادة الطائفة وبين موجبات رئاسة الدولة "الميثاقية". ولم يكن تخليص مذهب سياسي وطني، أو عقيدة سياسية وطنية، دأب الرجل وفريقه (وهذا أفرقاء على عدد المسالك التي سلكها، والوجهات التي التمسها، والفئات والجماهير التي خاطبها واستنهضها، والدول التي استمالها وقاتلها). والأرجح ان التخليص هذا لم يكن دأب جمهوره، أي "جبهة" أجزاء الجماعات التي تابعته على محاولاته واختباراته. فالخمسة وعشرون شهراً التي قضاها قائد الجيش رئيساً على حكومة انتقالية عسكرية حفلت بالحروب والعداوات والمراهنات والتوقعات (والأوهام، على قول بعضهم).

 

ولعل العداوات، وإرثها، هي أوضح ما جنته الشهور هذه: عداوة الاستيلاء السوري، وعداوة حليفه الدرزي وحليفه الآخر الشيعي وحليفه الثالث الشمالي السني والجنوبي (وليس البيروتي، "الصديق") وعداوة "الأخ" الماروني القريب، وعداوة الطاقم السياسي المحلي المتحفظ عن السياسي الطارئ والمستعجل والثائر على تقاليد السياسيين ومساوماتهم، وعداوة "الإكليركيين" الموارنة وكنيستهم المحافظة والمتواطئة مع السياسيين العاجزين، وعداوة الصفوف العربية المنقسمة على الرأي في الاستيلاء السوري انقسامها على بدائله المحتملة والمتوقعة، وعداوة الدول الكبرى المترددة والخائفة من انهيارات غير متوقعة في شرق أوسط (او أدنى) حافل بحوادث غير متوقعة في وقت انقلاب تاريخي من عالم اثنيني القطب الى نظام عالمي ("اميركي") جديد.

 

صناعة "الشيعة" العونية

لكن الحروب والعداوات الكثيرة هذه ولدت، من وجه آخر، "صداقات" وروابط وولاءات غير قليلة ولا ضعيفة، على رغم ضعف تماسكها وتناغمها. وحرص "القائد" على خروجه من الحكم الجزئي الذي ترأسه، وتسنمه تسنم الحراب، على نحو يتيح له ربط ما أخفقت إنجازاته وخسائره في ربطه ربطاً ايجابياً وفاعلاً. فأخرجته القوات السورية المستولية، من بعبدا واليرزة. وشفع لها التواطؤ الأميركي والإسرائيلي باستعمال سلاح الطيران في قصف "قصر الشعب".

 

وسوغ إلحاح الياس الهراوي، الرئيس الذي خلف رينيه معوض بعد اغتياله وأقام نحو السنة رئيساً في ثكنة عسكرية بالبقاع، على السوريين في التخلص من "محتل" القصر الجمهوري، إجراء العملية العسكرية وراء ستارة لبنانية لم تستر شيئاً (فكانت خسارة القوات السورية 600 الى 800 قتيل، نظير آحاد من الجيش اللبناني "الشرعي"، قرينة على حقيقة القتال والمقاتلين). وأشادت الحكومة بالعملية، وبصلاحياتها الجديدة الناجمة عن الطائف وتوزيعه السلطات. وتصدر الإشادة وزير الدفاع الجديد، وهو أحد مستشاري ميشال عون وموفديه الى دمشق، ورقيب دمشق على وليد جنبلاط (معاً). وسكتت "القوات اللبنانية" في ختام حربها وقوات ميشال عون، وإثخانها في الجيش الوطني، وشقها صفوفه، وغنيمتها منه عتاداً بلغت قيمته 400 مليون دولار، عن دخول القوات المستولية "البلد". واقتصرت بكركي على تنديد خجول بالعملية نفسها. وكانت أقرت نائب زحلة على رئاسته. وأظهر "نواب الأمة"، غداة إقرارهم اتفاق مدينة الطائف السعودية، نزولهم عن صلاحيات الرئيس الى "ثلاثي رئاسي" مشتبك الصلاحيات من غير قطب داخلي مرجح، انصياعاً و"إذعاناً" (لفظة أثيرة في مصطلح التنديد السوري) يليقان بفوتهم، وانقضاء 18 سنة على وكالتهم وتكليفهم الانتخابيين.

 

وانصرفت القوى الدولية، المنشغلة بغزو قوات صدام حسين دولة الكويت، عن المحاماة عن دولة لم يعد يدري احد السبيل الى رعايتها. وتوسط "العرب" في صلح داخلي، وإصلاحات دستورية، وتجريد من السلاح، وجلاء سوري، وتعهدوا مراقبة البنود هذه وإنفاذها، قبل ان يتخلوا عن وساطتهم وعهدهم، ويسكتوا عن إطلاق اليد السورية في اللبنانيين ولبنانهم. وتصور هذا، وحقل الأنقاض الذي أدى إليه وتخلف عنه، في صورة تراث العاصفة التي ضربت البلد وأهله ودولته. ورأى إليه "البطل" الخاسر، وجمهوره، ثمرة الخيانات والأنانيات المسمومة التي أحبطت مسعاه الإنقاذي. ولكنه استقى (منه) براهين لا تحصى، ولا تفنى، على وحدة العدو، وكثرة أقنعته، واتصال وجه واحد ولئيم وراء الأقنعة.

 

ورسم الأمران، وحدة العدو وكثرة الأقنعة، ميدان "المعركة" الآتية والمديدة. وآذنا بجبهاتها و"مقاتليها" وموضوعاتها. فـ"البطل" الذي تضافر "الكل" على خيانته، والتخلي عنه، واجتمعوا على حربه وهزيمته ونفيه (وهذه سابقة في تاريخ الجمهورية ذكرت بعضهم بمنفى فخر الدين المعني، ثم بمنفى يوسف بك كرم)، مطلق اليد والفكر واللسان في التصدي لأعدائه الكثر، وفي تأليب الفئات والجماعات والطبقات على الأعداد هؤلاء. فهو، أو ينبغي ان يكون بؤرة التقاء روافد الاحتجاج والتنديد والمعارضة والثأر كلها، على تفرقها واختلافها، على نحو ما كان، هو وجمهوره و"شعبه" و"بلده"، ضحيتها. فسقوطه، أو "صَلْبه" جزاء صلابته واستقامته، على قوله تورية لمحاوره الفرنسي، هو برهان تواطؤ الميليشياوي الماروني والدرزي والشيعي، وآكل الجبنة والفاسد، والسياسي ابن "المترجم" على أبواب السفارات، والإكليركي طاعم رغيف العامي ومشتهي بنات رعيته (وعلى هذا فزلة لسان سليمان فرنجية ليست زلة) والسوري والأميركي و"العربي"، عليه. ويأتلف "الشعب" و"البلد" العونيان من "ضحايا" هؤلاء ومعارضيهم، على مثال جبهوي وشعبوي وخطابي (نسبة الى خطيب العامة الرومان ورقيبهم على الأشراف) معروف ومجرب. فعلى الضحايا، وجماع الضحايا هم الشعب الحقيقي الذي يواعده "البطل" من المنفى، القيام "رجلاً" واحداً على "جلاديهم" وأعدائهم ومستغليهم، على نحو ما هؤلاء واحد. وهذه مهمة شاقة وثقيلة.

 

وفاقم ثقلها للوهلة الأولى خسارة الرجل بيد "أهله" قبل خسارته بيد عدوه السوري، وفوق خسارته هذه، وتركه "البلد" المسيحي أشلاء وأنقاضاً. ولكن ثقل الخسارة، وضعضعتها صفوف المسيحيين (والمسلمين ومشتركهما)، كانا، من وجه آخر، مواتيين مواتاة عميقة وقوية دمج دوائر أو كتل الناس الذين تحلقوا حول "المحرر" و"المصلح" في شيعة متماسكة، أو فرقة مرصوصة. فالمشاعر والولاءات والمصالح التي بعثتها أو أيقظتها الملحمة العونية لم تتماسك يوماً على رسم أو مثال سياسي مجتمع أو مؤتلف. وكان تنقله بين الضباط والجنود وأهاليهم والطلاب والمهجرين و"السابقين" المناصرين والحزبيين والمقاتلين، على مللهم ومذاهبهم، وبين التقنيين والمهنيين الجامعيين ورجال الأعمال في لبنان والمهجر وكبار الموظفين وصغارهم واليساريين، وتقلبه بين هؤلاء وأولئك، كان هذا يدعوه الى التأليف بينهم تأليفاً شيَعيَّاً أو ملياً باطنياً (وليس هذا على المعنى المذهبي أو الاعتقادي المعين والمعروف، فالشيعة هم الجماعة المشايعة صاحب دعوة، مثل الفرقة المصدقة صاحب رأي أو مقالة).

 

ولا شك في ان نواة الفرقة (أو الجماعة أو الشيعة) العونية، طوال المنفى تقريباً، هي ميشال عون نفسه، أو شخصه وما يُفترض في شخصه أو "جسده"، الحي والرمزي أو الصوفي، ان يختزنه من حوادث التاريخ المسيحي (اللبناني) القريب والبعيد، ويؤذن به آتياً ومستقبلاً. وهو خرج من بين أنقاض قصر بعبدا، ومقر اليرزة، مجلّلاً بالغبار والتراب، "ممسوحاً بزيت النجاة العجائبي"، أعزل ومجرداً من السلاح الظاهر. وكان خروجه على هذه الشاكلة، نقيض دخوله الحكم، ورئاسة الحكومة الانتقالية (على رغم ضمورها وصور اجتماعاتها الكئيبة)، على رأس جيش أعده ليوم كريهة وتحرير من "الاحتلالات" كلها، وأولها ورأسها الاحتلال السوري، وبدده في منازعات متناسلة ولا ضابط لها. ولكنه خرج على نقيض دخوله – ومنطق الأسطورة والملحمة هو منطق انقلاب الأضداد بعضها الى بعض وولادتها بعضها من بعض على غير مثال – وعلى رغم تبديده جيش الدولة الوطنية في حروب طوعية ومستدرجة، حاملاً ومحملاً نفسه "أمانة" الشعب اللبناني. وهو كان دخل الدولة، ولبس عباءتها أو تلبسها، على هذه الصفة.

 

ولكن المحن، وتضافر الخيانات، ملأت الصفة الشكلية والصورية بالمواقف والحوادث والشواهد التي تحقق حمل الأمانة، على الزعم الأسطوري والشيعي. وتنطوي نواة الأسطورة التي صاغته الشيعة العونية، واستبقها الرجل نفسه في أفعاله وخطبه، على نطفة حقيقة. ويحسن بالمراقب تصديق النطفة هذه، وحملها على محمل الجد، إذا لم يشأ التسليم لتعليل الحوادث المتعرجة والمبهمة، ماضياً وحاضراً وآتياً، بواسطة خطة خفية ومحكمة (على نحو تسليم ايلي محفوض، وعلى قدر أقل، وأكثر تخصيصاً، الياس الزغبي). فخروج "البطل" حياً من تحت أنقاض القصر، أعزل، وتوجهه الى المنفى، بينما "شعبه" ينوء بالأنقاض، والمنظمات العسكرية الأهلية، والاحتلالين، و"بناء الدولة"، والسياسات السورية العروبية والإيرانية الإسلامية، والشقاق الفلسطيني – السوري والمفاوضات الإسرائيلية والعربية – الخروج على هذا النحو يطلق يد "البطل" في تعاقده مع "الأمة". فهو يتصدى لخلاصها وإنقاذها وتحريرها من منفاه على شرط ان توكل "الأمة" إليه وحده حمل أمانتها وعهدها، وأن تطلق يده من غير رقيب ولا حسيب في تصريف حمل الأمانة وسياستها. و"الأمة" في المعرض هذا هي النواة العونية المقيمة على عهد جنرالها، واسمه (الصوفي) ومعناه. وأول واجباتها، أو فرائضها، الاقتصار على العهد والصفة والمعنى، والإقلاع عن السؤال عن (ماضي) خبره و (آتي) أحواله.

 

الداعية الإمام

ومن المنفى، وبواسطة ما لا يحصى من الاتصالات الهاتفية، الخاصة والعلنية والخلوية على وجه الخصوص، كان ميشال عون مع أنصاره وبإزائهم، المتكلم والخطيب والمجيب والمتصدي والراد والمفند والمواسي والناصح والمذكر والمتوعد. فهو، على شاكلة الدعاة و"الأئمة"، متعاقد مع "الأمة"، على قول انطون سعادة النهضوي القومي والفاشي. وهو ضمير الأمة والشعب، قبل ان يدريا ومن غير ان يدريا. وإليه وحده يعود النفخ في الهمم، وتأويل الحوادث والعلاقات التأويل "النبوي" والمؤدي الى النصر الأكيد.

 

ففي سياق الحوادث السياسية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، المحلية والإقليمية، سرعان ما خبا نجم العماد، وذوى ظلمه وانحسر. وانصرف اللبنانيون، على رغم "نكباتهم" الى تدبر أمورهم. وما بقي من الملحمة، على معنيي الشجاعة والدمار، لم يكن في وسعه ان يغذي حركة سياسية ولا كان في وسع بقايا الشباب والطلاب والحزبيين السابقين والعسكريين والموظفين والمهجرين وأصحاب المهن الحرة، الاضطلاع بعمل سياسي متماسك. فاختار القائد والرئيس المنفي، ومعه فريقه "المختار"، صيغة الشيعة أو الفرقة، تنظيماً، وتضم الشيعة إليها أشياعها على معيار واحد قوامه التصديق والإخلاص. وهي تمحو الفروق والتفاوت بين المشايعين، على مثال بولسي وكنسي اول لم يغفل عنه قارئ الأناجيل والرسائل. وتصدر الشيعة عن صاحب دعوتها، ومتكلمها ومفتيها في الشؤون والشجون كلها. وهو يصدر عن "علم"، أو عن "عرفان" يجمع الأضداد، ويؤلف بين المختلف من طرق لا يعلمها احد غيره.

 

ويتنقل "علمه" بين ذرى المعاني الشاهقة، وبين صغائر التفاصيل التافهة والسخيفة. ويجمع الاستدلال والحساب المدقق، والتخطيط المتأني، الى الحدس، والنظرة التقريبية، والتلمس المرتجل والمتسرع. وهو يزعم، على الدوام، السير على بصيرة ودراية وتدبير.

 

فكانت سنوات المنفى الأولى مصهر الشيعة العونية ومختبرها. فحول "فكرة" الاحتلال وصورته البسيطة (الاحتلال احتلال وقسر خارجي، وإذعان الداخل ميل ناجز مع القوة، ولا شيء خارج البديهيتين) بنى جنرال المنفى وأنصاره جسماً صغيراً ومرصوصاً من الناشطين و"الرهبان" والناسكين. ويصف العضو السابق في "هيئة" التيار "التأسيسية" (الحلقة الثالثة من بعد 3 سنوات على عودة العماد ميشال عون الى لبنان"، "النهار" في 18 أيار 2008) الشيعة العونية وأحوالها، في الأعوام العشرة الأولى من قيادة عون تياره، وصفاً لا شك في دقته ولا في أمانته. فالرجل البالغ من العمر فوق الـ35 عاماً، والمتزوج ووالد طفل وصاحب عمل، يروي ما كان عليه في النصف الأول من التسعينات. فيقول: "كان نشاطنا متواصلاً ومحموماً. صلات واتصالات واجتماعات، شعارات على الجدران ومناشير...

 

كأننا نعيش الزمن مضاعفاً أو نلهث خارج الزمن العادي، وفي حال من سكر الفتوة والشباب مطلقين العنان لحلمنا الكبير: إزالة الاحتلال السوري وتحرير لبنان. وحملت المطاردات والاعتقالات الاعتباطية، والتحقيقات وعذاباتها الجسدية والمعنوية (من التهديدات المستمرة (و) الاتصالات الهاتفية المفاجئة (و) مواعيد مراكز المخابرات (و) الإهانات (و) الساعات الطويلة من ضجر الانتظار وقنوطه ومذلته"، حملت معظم افراد الكتلة من الشيعة (نحو 1500، بحسب إحصاء أحد اوائل ناشطيها) على التخلي. فبقي من الكتلة نحو 200 أو أقل بقليل. وفي أثناء 1990 – 1994 تفرق معظم من انضووا في "المكتب الوطني للتنسيق المركزي". ومعظم من بقوا واستمروا ينشطون هم من قدامى أنصار الجيش. فأنشأوا مجموعات، تعد المجموعة الواحدة نحو عشرة ناشطين. ونشطوا إما مستقلين وإما على علاقة بأحد أقطاب المغامرة القريبة (من ضباط متقاعدين، أو قضاة أو موظفين أو أساتذة جامعات) في الجامعات والنقابات والتظاهرات والنوادي.

 

وتوسل خروج قائد الجيش السابق على الأبنية السياسية  المستقرة بجمهور غير جمهور الزعامات العائلية التقليدية، وغير جمهور السياسة عموماً. واستعمل العمل السياسي الجديد طرقاً لم يعتدها المسيحيون من قبل، على ما يلاحظ احد أوائل العونيين. فهم لم يسبق ان كانوا في صفوف "المناضلين" والمنديين بالسلطة والحكم وأجهزة القمع. وقلما كانوا ضحاياها. ولم يسبق ان اقتصرت حركة سياسية مسيحية على الطلاب والشباب والجامعات والثانويات، وبعض النقابات المهنية والجامعية. وكانت هذه "القطاعات" سنداً للحركة السياسية، أو للعمل السياسي. وتصدر الحركة والعمل السياسيين على الدوام "أهل وجاهة"، على هذا القدر أو ذاك. وهم اشخاص لابسوا حياة اجتماعية محلية ومهنية وإدارية رفعتهم بعض الشيء فوق أقرانهم، ووصلتهم بكتل عائلية، أو بكتل حزبية – عائلية، على ما هي الحال عموماً. فدخلوا "المعترك" الانتخابي من هذا الطريق.

 

وكانت بينهم وبين "الدولة" السياسية والإدارية والأمنية، أواصر ووشائج كثيرة. فهم أبناؤها، وهي "أهلهم". ولا "يناضل" الواحد (ضد) اهله. والسياسة على هذه الشاكلة بعيدة من "المعترك" النضالي الجديد الذي خاضه الشبان، المسيحيون في معظمهم الساحق، تحت لواء "الحرية والسيادة والاستقلال"، ووراء جنرال سابق منفي تقتصر خطابته على حضانتهم، من وجه، وعلى التنديد بالاحتلال والإقطاع السياسي والكنيسة اللذين جاءا به، ونصباه سيداً على "المسيحيين"، من وجه آخر. فصقل العملُ السياسي الجديد، خارج السياق السياسي المعروف وهو سياق حزبي – عائلي أو أهلي، قوة احتجاج، او حركة احتجاج، من معدن لم يسبق للتيارات المسيحية الأخرى، في اثناء الحروب الملبننة وقبلها، ان اختبرته. وكانت الأحزاب والقوى المسيحية الأخرى، وفي مقدمها الكتائب و"القوات"، ترزح تحت وطأة الأحوال التي تخلفت عن الحرب. وعلى رغم ان ميشال عون كان "حاكم البلد" المسيحي قبل استيلاء القوات السورية وأعوانها عليه، بدا الإستيلاءُ الفصلَ الأخير من فصول السيطرة الكتائبية – القواتية، وثمرة هذه السيطرة. ولم يشفع للحزبين، أو القوتين السياسيتين، إسهام ناشطيهما في التظاهر والتنديد بالاحتلال. فعادت الصدارة النضالية والإعلامية الى قوة الاحتجاج الجديدة.

 

ولكن "البلد العميق" (على قول قومي أوروبي) كان في موضع آخر. فالجماعات الطالبية والجامعية والمهنية جزء من "مجتمع" تضرب جذوره في ارض اهلية متجددة، على رغم غلبة الطبقات الوسطى عليه. ولا ريب في ان الاستيلاء السوري على لبنان واللبنانيين، واستتمام الاستيلاء غداة 13 تشرين الأول 1990، بعث "الوطنية" البلدية في صورتها الأهلية المسيحية، وجمعها في "البلد" المسيحي وعليه. واقتضى ذلك فيما اقتضى نسيان التاريخ السياسي والاجتماعي اللبناني، أو اختصاره في حوادث قليلة وهزيلة يعود معظمها الى الملحمة والأسطورة العونيتين. وتولى إمام الفرقة، وهو عالمها وشيخها وقطبها، رواية التاريخ، ماضياً وحاضراً وآتياً. وبنى التنظيم على الشاكلة "القطبية" أو "الإمامية" هذه. فيقول الناشط العكاري السابق (الحلقة الثالثة) ان الزعيم المنفي كان يصر، تنظيمياً، على الاقتصار على "تواصله اليومي، الهاتفي أو بالفاكس، بكل كوادر التيار على انفراد، منقلاً اتصالاته بينهم، من واحد إلى آخر، من دون تنسيق، ومن دون ان يطلع هذا أو ذاك على مضامين اتصالاته بهؤلاء أو أولئك".

وضاح شرارة     

 

 

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

مصائر ميشال عون والعونيين في مرآة أطوار "المجتمع" و"الشعب" المسيحيين

استئنافاً لأدوار بشير الجميّل صنع الجنرال صورته في الحروب للوصول إلى الرئاسة

شهادات للتاريخ – الجزء السادس   - النهار

وضاح شرارة ، الاحد 8 حزيران 2008

 

فيما يلي حلقة أولى من رواية  سياسية - حربية للظروف والعوامل المتشابكة التي أدت الى ولادة "الحركة العونية" في نهايات ثمانينات القرن الماضي، ولمساراتها ومصائرها اللاحقة التي تجتمع في ثلاثة فصول: رئاسته للحكومة العسكرية (العهد)، والمنفى، والزعيم السياسي الأهلي والبرلماني الطامح الى رئاسة الجمهورية.

 

في ختام تحقيق مستفيض ودقيق في وقائع "عهد" قائد الجيش اللبناني الأسبق ورئيس الحكومة العسكرية الانتقالية (22 أيلول 1988 – 13 تشرين الأول 1990)، ومقدماته وذيوله المباشرة، تخلص كارول داغر، صاحبة التحقيق ("رهانات الجنرال"، 1992، بيروت، إف إم آ للنشر، بالفرنسية والعربية) الى ان لميشال عون في أعقاب "عهده"، وغداة منفاه الفرنسي، وجهين، وجه "ضمير اللبنانيين الحي" طوال سنتين كاملتين كان في أثنائهما صورة "كرامتهم الوطنية"، مسيحيين ومسلمين، وعَلَماً ظاهرًاً على استوائهم "شعباً" مجتمعًاً ومتماسكًاً، ووجه "الانقلاب العسكري واغتصاب السلطة على الطريقة اللبنانية"، وفي ركابه الحسابات المتوهمة، والرهانات الخاسرة، والسرابات المتهافتة، والخطابة الشعبوية، والتوقعات المنتشية، والمغامرات والمقامرات، والكارثة في المحصلة الأخيرة. وبإزاء الوجهين هذين، ليست الصحافية الماهرة والمتحرية في حيرة من أمرها. فهي تزكي الوجه الأول، وتحمده، وتتمنى له التوفيق والدوام. وتقصد بتزكيتها وحمدها وأمنيتها "الشعب" اللبناني الذي تلمح قسماته المتماوجة في ثنايا الوقائع والحوادث العونية.

وتدين الوجه الثاني إدانة قاسية وقاطعة، وتدعو الى البراءة والتخفف منه، ومحاسبته، هو وعوامله وأبوابه، الحساب العسير والقاسي. وإذا لم تنكر كارول داغر تكلفة الوجه الأول الباهظة، فعذر التكلفة هذه هو إفضاؤها الى تخليص اللبنانيين، على ما حسبت في 1992، من شيعهم و "أحزابهم" العصبية والأهلية، وانتسابهم الى معنى وطني جامع. وكان "قصر الشعب" ببعبدا، في أثناء الحرب على قوات الاحتلال "العربي" السوري وقتال بعض الفصائل العروبية واللبنانية وجهر الاعتراض على بعض بنود الطائف، مسرح الانتساب هذا وميدانه الرمزيين. وأما الوجه الثاني فلا عذر له ولا مسوغ. وانتهاؤه الى "الكارثة"، وإضماره الثمن نفسه في حال استئناف النهج الانقلابي، إدانة مستوفية الشروط وناجزة.

 

ولما كانت وقائع "العهد" العوني قريبة زمنًاً، يوم كتابة التحقيق ونشره، ولم يكن الفصل الثاني من الوقائع والحوادث هذه، وهو الفصل الفرنسي، جاوز سطوره الأولى، لم تباشر كارول داغر النظر في علاقة الوجهين واحدهما بالآخر. ولا يستقيم تناول الفصل الثالث (2005 – 2008)، في ضوء الفصلين الأولين، "العهد" (أو المملكة) والمنفى، من غير النظر في علاقة ولادة أو توليد الشعب اللبناني عن يد "القابلة" السياسية والتاريخية المفترضة، وهي ميشال عون، بتوسل عون الى غايته بوسائل الانقلاب والاغتصاب والاحتيال والشعوذة. والحق ان الوقائع والحوادث "العونية"، منذ 1992، تحمل على تناول وجوه جديدة غير الوجهين اللذين بدا، قبل عقد ونصف العقد، أنهما يلخصان على نحو واف تنازع الرجل وأفعاله ومقالاته. ففي المنفى ولد باني التيار السياسي، وراعي تماسكه، ومرشده اليومي، ومستثمر "رأس المال" السياسي والمعنوي في الحركة التي يتعهدها. وهو ولد في خضم ملابسات سياسية محلية وإقليمية، ودولية، وتغيرات عاصفة، كان لبنان من مسارحها الأولى. وخلف باني التيار ومرشده "الزعيم" السياسي الأهلي والبرلماني، المتصدر كتلة نيابية راجحة، والمنافس على منصب رئاسة الجمهورية في ظرف أزمة وطنية وكيانية عميقة، والشريك في مبادرات يومية تترتب عليها نتائج مباشرة تصيب اللبنانيين في مصالحهم وأفكارهم وأحوالهم. والرجل، في أحواله السياسية هذه كلها، ليس وحده، بديهة. وعلى خلاف الفصل الثاني، ومثال الفصل الأول، تندرج أفعاله وأقواله في سياقة عامة وعريضة، وتتردد أصداؤها في أفعال أنصاره وحلفائه وخصومه وأقوالهم. فهو، على هذا، جزء من "جسم" سياسي واجتماعي عريض، يؤدي عنه، وعن أحواله المفترضة، ويحتسب حاجاته وانفعالاته في أدائه هذا.

 

ويستجيب "الجسم"، المائع الحدود والمتقلب أو المتغير، سياسة الرجل وأفعاله وأقواله، على أنحاء تتفاوت وضوحًاً وعبارة. ودعا الفصل الثالث ميشال عون الى إرساء دوره أو عمله، واستثماره طوال 15 عاماً، على بنية من المعاونين والمشيرين والمنفذين والوسطاء، انعقدوا تدريجًاً على مراتب ودوائر، متفاوتة ومتنافسة ومتخاصمة على هذا القدر أو ذاك، يقوم هو منها مقام واسطة العقد وناظمه ما استطاع الى ذلك سبيلاً. والبنية البيروقراطية والتقنية هذه وجه أساس من الوقائع والحوادث "العونية" في فصلها الثالث الجاري. فتتصل الفصول الثالثة، فصل "العهد" وفصل المنفى وفصل الزعامة والإدارة، من طريق الرجل نفسه وأطواره السياسية. ولكنها لا تقتصر عليه، ولا على أطواره. فهو، وأطواره وجمهوره وبنيته البيروقراطية والتقنية، جزء من أطوار ومصائر سياسية واجتماعية لبنانية هي مناط الاهتمام في المرتبة الأولى. وأما الرجل نفسه، على  الوجه "النفساني"، إذا جازت العبارة، وهو وجه تتناوله تعليقات صحافية كثيرة تتحرى انعطافات الرجل وتقلباته و "مناوراته" وحساباته ونواياه وعلاقاته بحاشيته، فهو قد يكون موضوعًاً روائيًاً ممتعًاً ولكنه ليس موضوع الملاحظات هذه.

 

 

ومن يقتفي الوقائع والحوادث "العونية"، ومنعطفاتها البارزة الأولى، لا يشك في انتسابه الى تقليد أهلي مسيحي، يرى الى المسيحيين اللبنانيين، وإلى جماعتهم، نواة لبنان الأولى، معنى ومرتبة وتاريخًاً، وحرزه الحريز. وتترتب على الصدارة هذه حقوق ثابتة، واقعية ودستورية، ترجمتها هي صلاحيات رئاسة الجمهورية في الدستور، قبل "إصلاحات" اتفاق الطائف، والأعراف التي فسّرت هذه الصلاحيات. فناطت استقامة التفسير ودوامه بعوامل "حقيقية" مثل ثقل المسيحيين الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي، وعلاقات الدولة اللبنانية بالجوار الإقليمي والشطر الغربي من المجتمع الدولي. وإلى العوامل "الحقيقية" هذه، تولى من ينوب عنهم، على صفتهم، المناصب العسكرية والأمنية والتعليمية والديبلوماسية التي تضطلع بالتفسير العملي للصدارة الرئاسية. ولم يكن الترتيب هذا ثمرة قرارات وقوانين ونصوص، أو "إرادات" على قول عثماني، بل توَّج وقائع سياسية واجتماعية محدثة هي من نتائج التوسع الغربي، ثم من نتائج استواء البلدان والأمم، والممالك والمسالك، عالماً متصلاً وواحداً معاصراً. وأول الوقائع المحدثة هذه، وأثقلها في الميزان، نشأة مجتمع – وعلاقات مجتمعية ناجمة عن التجارة والصناعة والمهنة والتعليم والثراء والجمعيات الطوعية – داخل الجماعات والبلدان، ولا ينطوي الرأس الحاكم عليها، ولا يستوفي معانيها في رئاسته أو ولايته الجامعة والواحدة. وتأخر دخول المسلمين، في الدول الوطنية المتخلفة عن الولايات العثمانية، المجتمع هذا بعض الوقت. وصار الدخول هذا، والمصالح والحصص المترتبة عليه، محل منازعة أهلية لم تهدأ على رغم بلوغ "المتأخرين" ابتداء المساواة تقريباً مع "السابقين"، وعلى رغم انتفاء معوقات قسرية وسياسية بوجه المتسابقين والمتنافسين. وأدى دوام الروابط الأهلية، وغلبتها على العلاقات المجتمعية والسياسية والحقوقية، وتغذية "الدول" الجديدة الإقليمية لها، وإعمالها في أحلافها الداخلية ومنازعاتها وعداواتها، الى تجددها وانبعاثها في أدوار وحلل جديدة، "قومية" أو دينية ومذهبية نشطة. ولم يطو استقرار الصراع "العربي" – الإسرائيلي على نزاع فلسطيني – إسرائيلي بعد عقود من بدايته، صفته العربية، ولا قطع موارده الإسلامية. فأضعف الانفجار هذا ودوامه، مُسكة الدولة الوطنية ولحمتها، وسوغ استمالة جماعاتها الأهلية الى "محاور" إقليمية ودولية تتباين معالجاتها للنزاع، وسياساتها فيه.

 

فكانت الدولة اللبنانية – ورأسها المسيحي الظاهر، ومجتمعها المستقل بنفسه عن الرأس الحاكم وموازين القوة الأهلية، وروابطها بالعالم الغربي، وتحفظها من السياسات العربية ومساوماتها وجموحها – محل منازعات عصبية لا تهدأ، تتشابك فيها علل الداخل الأهلية والوطنية بالعلل القومية والإقليمية و "الحروب" الدولية. وحمل هذا التقليدَ الأهلي المسيحي على اعتبار مكانة الرئاسة الأولى وصلاحياتها المسألة السياسية الأولى. فأعلى السياسيين شأناً، وأرفعهم مرتبة، هو أشدهم دفاعًاً عن مكانة الرئاسة. فكان كميل شمعون وبيار الجميل وبشير الجميل وقبلهم إميل اده "انبياء" القضية اللبنانية، على قول احد محاوري محمد ابي سمرا في الحلقة الأولى من ملف "الاحتفال" بعودة العماد السابق من منفاه الى "المملكة". ولا يعتد الاصطفاء هذا، أو التطويب، لا ببشارة الخوري ولا بفؤاد شهاب، على رغم تحصيل الأول الاستقلال، وإخراج الثاني لبنان من "عثرة" 1985. وتتصل "النبوة" نفسها، أو البطولة، بـ "البطل" المؤسس فخر الدين المعني الثاني، بحسب المحاور نفسه. ويصلها آخرون تارة بمار مارون، وتارة ثانية بمار يوحنا مارون، صاحب الكنيسة وجسمها ورسومها وأنظمتها، وتارة ثالثة بالبطريرك الدويهي، مدون "تاريخ الأزمنة" بالعربية، على ما ذهب إليه مطران مطرانية دمشق المارونية السابق، حميد موراني. وخلطُ السياسة المدنية والتاريخية بالكنيسة والمعتقد والآباء قرينةٌ على غلبة الكيان الأهلي على الكيان السياسي. ولا يقدح في الاصطفاء هذا انقطاع ذرية إميل اده السياسية، ولا اضطرار كميل شمعون الى التشاغل بحرب ملبننة مبكرة في الهزيع الأخير من ولايته، أو ترك بيار الجميل الطموح الى الرئاسة، ووأد "حلم" ابنه الرئيس الشاب في مهده. فالتقليد الأهلي يستثني من التطويب من ارتضوا قيود "صيغة 43 (19)"، أو "لبنان الـ43"، على ما كان بشير الجميل وصحبه يقولون. ويعيب هؤلاء على الميثاق الوطني اللبناني هجنته. فالموازين "الميثاقية" تكبح فعلاً تحلل المراتب والأجسام الأهلية وانهيارها، وتَحول دون الاحتكام الى المعايير المجتمعية المحدثة، وتقيد توحيد سياسة الدولة العامة على وجه ملزم. والسبب في الحال هذه هو ان حل المراتب والأجسام الأهلية، والاحتكام الى المعايير المجتمعية، وتوحيد سياسة الدولة العامة على وجه ملزم، "يظلم" المسلمين فوق ما "يظلم" المسيحيين. فعرى المسلمين الأهلية والعصبية هي مصدر قوتهم الأولى في المنازعة على المراتب والرئاسات. وإبطال المصدر هذا، أو إضعافه وتقييده، يرجح كفة المسيحيين، وهم الأسبق الى موارد القوة الاجتماعية. ولا يضيرهم الامتثال لإلزام التوحيد السياسي والوطني، وهم رواده، وروابطهم بالأجسام الأهلية، القومية والدينية، ليست بذات شأن.

 

فكان "لبنان الـ43" صنو القيود على استتمام الدولة الوطنية والتوحيد السياسي الوطني، وعلى بلوغ الحريات الفردية والسياسية والاقتصادية الليبرالية مداها، ونهوض التمثيل السياسي عليها. وعلى هذا، نشأ داخل التقليد الأهلي المسيحي رافد "نقدي" أو "مراجِع" (ريفيزيونيست) عريض عزا الى "الميثاق"، وقيوده وموازناته الأهلية، وإلى طاقمه التقليدي، تآكل كلا القوة المسيحية وقوة الدولة ومناعتها معاً في آن. وإذا كان مرجع الرافد "النقدي" هذا هو منشئ الكتلة الوطنية، والرئيس الانتدابي الذي أقر معيار 6 و6 مكرر في اقتسام الإدارة والمناصب، وخصم التيار الدستوري الميثاقي، اميل اده، فالفرق بين المرجع وبين مقلديه وتلامذته عريض. فهو استبق التعدد اللبناني، وأنكره، وتوقع له الأزمات القاسية، واقترح علاجاً لبناناً صغيراً ومتجانساً يغلب فيه المسيحيون غلبة لا مساومة عليها، ولا يعوق إنجازهم الدولة والمجتمع اللذين يتوقون إليهما معوق. وأما هم فألفوا أنفسهم في لبنان المولود من "الميثاق". وحسبوا ان تسلمهم السلطة، وإمساكهم بالصلاحيات التامة التي يخولهم إياها حرف الدستور، ويوكلها إليهم قبل حرف الدستور مفهوم الدولة الخالص، والمجرد من المساومات "اللبنانية"، في مستطاعها إطاحة "لبنان الـ43"، وبناء دولة عصرية وحديثة. وحسبوا ان دولة مثل هذه، والمجتمع الحر والمزدهر الذي تضمنه وتكفله، حريّان باستمالة نخب المسلمين ولو بعد حين، وبتقوية عرى حلف بين هذه النخب وبينهم هم يناصب العداء الطاقم التقليدي والبالي الذي انتظر هبوب الإعصار الفلسطيني، ولم يفعل شيئاً يصده أو يحول بينه وبين تصديع لبنان واللبنانيين. وعلى رغم اندماج المشروع التحديثي المسيحي أو "الماروني" (وهو نواته مارونية ولكن اصحابه من معظم الطوائف الأخرى) في جسم أهلي، أو "قومي" – ملي، قبل بلوغه عتبة وطنية جامعة مفترضة، لم يراع أصحاب المشروع، وهم يدعون نخب المسلمين الى محالفتهم والعمل معهم، روابط النخب هذه بجماعاتها الأهلية، وغلبة الروابط الأهلية العصبية على المنازع التحديثية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وبالأحرى السياسية. فالتحديث، وعوامله وعمومه، قوة ترفد الجماعة السباقة إليه، وتعزز مكانتها وريادتها. ولكنه، من وجه آخر، يوسع الهوة بينها وبين الجماعات الأخرى المتحفظة عنه، ويقوي روابط الجماعات العصبية هذه بإزاء المكانة والريادة اللتين حازتهما الجماعة السباقة. فترتد المكانة والريادة الاجتماعيتين على القيادة السياسية الوطنية ضعفًاً وإنكارًاً، وتماسكًاً عصبيًاً يبطل طموحها الوطني. ويودي التماسك العصبي، وتقدمه منازع التحديث وموجباته، باستقلال النخب عن أجسامها الأهلية، ويصدع قواسمها المشتركة، ويلحقها بسياسة الأجسام هذه، وبقياداتها المستحدثة والعامية "الثورية". وفي آخر المطاف، وهو مطافات كثيرة على عدد الجماعات الطائفية الكبيرة أو الكثيرة، يتهافت الطموح الوطني، ويقع في اسر النعرة الأهلية وقيدها.

 

 

والأرجح على الظن ان سيرة الضابط الشاب فالمكتهل ميشال عون، السياسية والاجتماعية، مرآة الترجح والاضطراب اللذين أصابا سيرة الجماعة الأهلية الأوسع في علاقتها المعقدة والمتناقضة بالجماعات اللبنانية الأخرى، وإطارها المشترك. ولا شك في ان الترجح والاضطراب بلغا ذروة من ذرى احتدامهما مع الهجمة الفلسطينية، "الفدائية" والمسلحة، غداة سنة 1967 وهزيمتها، وانبعاث وطنية الفلسطينيين في سياق جر مصر الناصرية وسوريا البعثية والمملكة الأردنية المحافظة، وجيوشها وقياداتها، أذيال الخيبة والانكسار. ففي 1969، أحجم الرئيس شارل حلو عن لجم انتشار مسلحي المنظمات الفلسطينية وناشطيها – والمسلحون والناشطون هؤلاء هم، في آن، مقاتلون ومحرضون سياسيون ومؤطرون وعيون وأرصاد وجباة وعابرو منظمات ودول ومنقّلو ولاء... في البلاد اللبنانية، ومواطن المسلمين خصوصاً. وتخلى عن كف توليهم اللبنانيين، افراداً ثم كتلاً، من دون دولتهم الوطنية. وعندما انفجرت، جراء الإحجام هذا، أزمة سياسية في قمة الدولة، امتنع الرئيس، ومعه معظم طاقم "الـ43"، من تبصير اللبنانيين عمومًاً، والمسلمين منهم خصوصاً، بما يستتبعه رضا شطر منهم، معظمه مسلم، باقتطاع المنظمات الفلسطينية المسلحة، السياسية والأمنية، حمى ومعقلاً لهم في لبنان، ويؤدي إليه من انقسام أهلي وسياسي لا بد ان يفضي الى تصديع الدولة وانهيارها. وذهب الشطر من اللبنانيين هذا الى ان "حصته" من "الميثاق الوطني" تقضي على الشطر الآخر بالإقرار بحقه في حضانة "الشعب" الفلسطيني و "مقاومته"، وإحصانهما بالدولة اللبنانية، وبحصانتها الدولية، من "العدوان الصهيوني". ورضخ "لبنان الـ43" للاقتطاع الفلسطيني (واللبناني والعربي)، ولإحصانه بالسيادة والحصانة الوطنيتين والدوليتين، والخاليتين من الحلقة العربية المفترضة وسيطة. وكان الرضوخ المزدوج هذا الإيذان بأزمة "الميثاق" العامة. وكان اتفاق الطائف، غداة عشرين عاماً من حروب الأهلين، جواب الأزمة هذه و "حلها". وهما، الجواب و "الحل"، ما لم ينفك الأهل المسيحيون، ورؤساؤهم، من التنديد بهما. ولم يرتضهما قادة الجماعات الأهلية الأخرى، من دروز وسنّة وشيعة، ومن وراءهم من قادة عرب على رأسهم "القيادة" السورية الأسدية وحليفتها القيادة الإيرانية (على لسان علي خامنئي في 1986)، إلا جواباً وحلاً موقتين على طريق "ديموقراطية عددية" عتيدة. فيتولى العدد، والكثرة والتضامن الآلي والانقياد لأمر "مرشد"، إذابة طائفية الجماعات القليلة، والمنقسمة على نفسها والمهزومة، في حامض "الأمة" المرصوصة البنيان.

 

وأذنت أزمة "الميثاق" العامة بخروج التيار "النقدي"، أو "المراجع"، عن طوق "لبنان الـ43". وكانت سنوات 1969 – 1973 (اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة ببيروت وخروج "الشعب اللبناني – الفلسطيني"، على ما لم يكن سمي بعد، متظاهراً ومنكراً على "الدولة"، أي على راسها وجيشها "المسيحيين" إحجامهما عن حماية "الشعب" الضيف وقادته و "ثورته") كانت السنوات هذه مختبر التيار هذا وتبلوره، في قيادة بشير الجميل. والسنوات عينها هذه مهدت، على قدم وساق، لانفجار الحروب اللبنانية (- الفلسطينية – العربية). وانصرف بشير الجميل – ومعه وحوله فريق قريب يبلغ العشرات من السياسيين والتقنيين وكبار الموظفين والحزبيين والضباط والأمنيين والرهبان والمقاتلين والصحافيين والجامعيين – الى شحذ أداته السياسية والعسكرية المستقلة عن الحزب اللبناني والمسيحي الكبير الذي أنشأه أبوه، "الشيخ بيار"، قبل نحو أربعين عاماً (يومها)، وتولى رئاسته "العليا" مذذاك. والأداة السياسية والعسكرية هذه، وهي توجها إنشاءُ "القوات اللبنانية" في النصف الثاني من السبعينات، مزجت الاستقلال عن حزب الكتائب اللبنانية، من وجه، والخروج فعلاً وحقيقة من صفوف الحزب نفسه وناشطيه وأنصاره وهيئاته، من وجه آخر. وعلاقةُ التيار "النقدي" المزدوجة بالمؤسسة الأم، وجمعُ الخروج على الحزب الى الخروج أو الولادة منه، قرينة على مشكلة تكوينية ومزمنة تعانيها الحركات السياسية "المتمردة" أو "الثورية". فحزب الكتائب نفسه نشأ حزباً طرفياً، شبابياً وعامياً (على خلاف مناصب العائلات و "أعيانها") ومدينياً وإصلاحياً. وناصب الطاقم السياسي المسيحي التحفظ، إن لم يناصبه العداء السافر. وتعاظم دوره السياسي والتنظيمي والانتخابي على أنقاض دور الطاقم السياسي المسيحي، في الدائرة التي رسخت قدم الحزب و "ماكينته" فيها.

 

ولعل علة الخلاف الأولى هي حمل النخبة المتحزبة "الميثاق" والميثاقية على الصراع والنزاع (على قول شيوعي أممي مأثور في الحلف السياسي)، وإرادتها تحصين التعاقد السياسي والوطني بقوة الكتلة المسيحية، ورعاية هذه القوة ومدها بأسباب التماسك والفعل. فلبنان، أي الدولة الوطنية المتمتعة بالسيادة على أراضيها ومواطنيها وبالاستقلال عن الدول الوطنية و "العربية" الإقليمية، إنما انتزع انتزاعاً من الجوار العثماني والإسلامي أولاً، ثم من "الداخلية" السورية والعروبية، ثانياً، وعلى مضض. وخلَّف انتزاعه، على الشاكلة هذه، في الجماعات غير المسيحية، وفي حواشي جماعات مسيحية، انعطافاً الى "الأرحام" الأهلية المشتركة والمفترضة. فلا يسع المسيحيين اللبنانيين، على هذا، إلا تعويض التحفظ العروبي الإسلامي والداخلي عن السيادة والاستقلال اللبنانيين والكيانيين من طريق تحصين حيز لبناني صرف قوامه "المجتمع المسيحي"، وبنيته الاجتماعية وسكنه وعاداته وتقاليده وهيئاته الكنسية والتعليمية، ومراقبة الدوائر المشتركة، السياسية الانتخابية والإدارية والعسكرية والتعليمية، التي يتقاسمها و "الجناح" الآخر. ويحتاج التحصين الملح هذا الى أداة سياسية قوية وفاعلة، ساهرة ومتحفظة. وتخالف طبيعة الأداة السياسية هذه، ومثالها الحزبي المركزي والقيادي، "الرخاوة" و "المساومة" اللتين زرعتهما "الميثاقية" في نفوس السياسيين المسيحيين التقليديين، من دستوريين وأعيان مناطق مختلطة وطامحين إلى مناصب رفيعة، رئاسية أو وزارية، يقتضي بلوغها مجاراة كبار الناخبين المتفرقي الأهواء والولاءات. فمن هذا الوجه، تولى حزب الكتائب اللبنانية "مراجعة" عملية ونشطة لـ "ميثاقية" مستكينة ومطمئنة، معلنة أو مضمرة، سرت في صفوف مسيحيين كثر. وكانت أداة "المراجعة" الحزب نفسه، وبنيانه وجمهوره وطريقة عمله وأفكاره وأحكامه في لبنان والمشرق والعلاقات الإقليمية وصياغته لتاريخ الجماعات في الدوائر هذه.

 

وتوج الأداة مفهومُ الحزب عن رتبة الرئاسة أو القيادة والزعامة. فالرئيس يتصدر مراتب الحزب وهيئاته صدارة ملتبسة. فهو القطب الأول و "المؤسس" وصاحب الدعوة وحامل لوائها، على مثال الحركات السرية والثورية الخارجة على سلطة محافظة وتقليدية، أبوية وميراثية. وعلى هذا، يبادر الرئيس القائد الى "تكوين" الهيئات، أو الى التصديق على مقترحات الهيئات والمجاميع الوسيطة. ولكن الحزب السياسي، أي الكتائب اللبنانية في هذا المعرض، ليس حركة سرية ولا ثورية خارجة. فهو يلابس المجتمع العريض، ودوائره ومراتبه وطبقاته ومنازعاته وميوله ومصالحه، ملابسة قريبة وحميمة. وتحضر المرافقُ الاجتماعية هذه دوائرَ الحزب وهيئاته حضوراً راجحاً. فالقائد، بسحنته الملهمة والرهبانية وقسماته المشدودة، سياسي منتخب وتمثيلي، ومتعقب أو "معقب معاملات" ومصالح جزئية، وصياد أصوات وحليف لوائح. فقيادته أو زعامته الكاريزمية، أو الخارجة عن الهيئات وتقاليدها ومحافظتها الأبوية والميراثية، دفاعية فوق ما هي هجومية، على خلاف "طبائعها". وعلى رغم غلبة الوجه الدفاعي على الزعامة الحزبية والجماهيرية الكتائبية، و "الميثاقية" المعلنة، أضعف المنزع الزعامي الكاريزمي، وتبييته الخروج على السنن والأعراف المشتركة المستقرة والموروثة، حظوظها في رئاسة الدولة. فشفع باستقرار الرئيس الكتائبي أمين الجميل في الرئاسة، على النحو الذي استقر عليه، تخففه من الزعامة وثوبها ومنازعها وبرنامجها. فخلف شقيقه، بشير الجميل، وهو التمثيل الخالص على الزعامة وخروجها على السنن والأعراف، بعد مقتل بشير بيد "قومية سورية". فكأن "القائد المؤسس" أورث ابنيه وجهي رئاسته الحزبية والأهلية، الوجه "الميثاقي" التقليدي والوجه الزعامي والكاريزمي. فتعاقبا على الرئاسة في وقت خاطف تعاقباً يكاد يكون رمزياً. ولكن إمضاء الابن "الميثاقي" مدة ولايته، على خلاف شقيقه الكاريزمي و "المراجِع"، لا يرجح كفة "الميثاقية" التقليدية على الكفة الأخرى، ولا يحسم تقابلهما أو تنازعهما. فلولا "إنجاز" بشير الجميل وحلقاته – من خروجه على حزب أبيه الى إنشائه "القوات" وقيادته أعمالها العسكرية ومقاومتها الحلف الفلسطيني – اللبناني – السوري، وتحالفه مع الدولة العبرية، واستمالته بعض الدوائر الأميركية والعربية المحافظة – لما قيض على الأرجح لشقيقه "الدستوري" ان يتسنم الرئاسة، ويبقى طوال ولايته فيها. وفي الأثناء، لم يبق من لبنان "الميثاقي"، ومن دولته ومجتمعه، شيء كثير. فخسرت الرئاسة، خارج العمارة الدستورية والسياسية السابقة وقبل اتفاق الطائف، دورها مفتاحاً لعمل هيئات الحكم وناظماً. وقوضت الحروب معظم أركان الاستثناء اللبناني. ومصدر الأركان هذه الأول هو نواة المجتمع وعلاقاته. وأخرجت الجماعات الأهلية من انضوائها السياسي الوطني والتعاقدي، وأضعفت الكتل الاجتماعية الوسطى والوليدة التي وصلت بين الجماعات الأهلية، وشبكت بينها، وعوّل سياسيون لبنانيون (ولا يزالون) على دورها في لحم ما تقطّع وتنابذ.

 

و "ولد" ميشال عون ولادته السياسية، وولد أنصاره ومحازبوه ومريدوه وجمهوره ولادتهم العامة والمشتركة، من المحن هذه، ومن ذيولها. فهو رافد من روافد بشير الجميل ولجنة دراساته الاستراتيجية التي أنشأها قائد "القوات اللبنانية" في صيف 1980، ممهداً الطريق الى تسلمه السلطة بوسائل لم يكن دارياً بعد على وجه الدقة بمسالكها. ودعا مؤسس "القوات اللبنانية" العقيد في الجيش اللبناني الى الاشتراك في اجتماعات لجنة معاونيه ومستشاريه المقربين والخلَّص بناء على بلائه في قتال مجموعة فلسطينية مسلحة على رأس سرية كان يقودها بخلدة، في 1973، إبان الاشتباكات بين المنظمات الفلسطينية وبين الجيش في أعقاب اغتيال قوة اسرائيلية القادة الفلسطينيين الثلاثة (في نيسان 1973). وفي 1975، قاتل الضابط المسلحين الفلسطينيين بصيدا وتل الزعتر. وعندما شل القتال اللبناني – الفلسطيني، والاقتتال اللبناني، الجيش، بعد ان شارف الانفراط، توجه ضابط المدفعية الى بشير الجميل من طريق وسيط وثيق الصلة بالجميل هو انطوان نجم، أحد أبز "المنظرين" الكتائبيين، وداعية الفيديرالية والتحالف مع الدولة العبرية رداً على انخراط شطر من المسلمين في الحروب الفلسطينية المحلية والإقليمية والدولية. وهو راعي تخطيط الجميل الابن لبلوغ السلطة العليا. ولم تحل مخالفةُ ميشال عون انطوان نجم الرأي في الفيديرالية بينه وبين المضي على علاقته به وبفريق بشير الجميل. وبالغ العسكري في التستر على روابطه بالفريق "الاستراتيجي" المتحلق حول المرشح المضمر الى رئاسة الجمهورية. وهو كان يعد العدة الى بلوغ قمة الهرم القيادي العسكري في غضون السنوات القليلة القادمة (وبلغ القمة هذه فعلاً في 1986)، ويعول ربما على مساندة الرئيس العتيد.

 

وليس هذا التعليلَ الوحيد ولا الراجح لانضمامه الى فريق الجميل الابن. فالعاملان الأولان هما وطنيته اللبنانية المسيحية وعسكريته النضالية والسياسية. ولا ينفي العاملان هذان طموح الضابط الماروني الى مصير قيادي عسكري أولاً، ومصير سياسي ووطني رئاسي من بعد. فيخلف (لم لا؟) رئيساً أخرج المنظمات الفلسطينية المقاتلة والقوات السورية "الرادعة" من "المساحة" الوطنية، وحرر الجماعات الأهلية من ارتهانها العروبي العصبي تحت لواء قيادة ثورية واحدة ودامجة. وشرط تحريره الجماعات الأهلية الأخرى من ارتهانها، تحريرُه أولاً جماعته الأقرب من قيود التقاليد والموازنات والمكانات والمساومات. وهو يحمّل أوزارَها جميعاً "الصيغة"، واستكانة السياسيين، ولا يستثني منهم والده "المؤسسي" ولا حزبه ومعظم قياداته وحلفاءه، الى دوران عقيم في حلقات مفرغة. ويشارك معظم رجال الكنيسة المارونية رجال السياسة الاستكانة والدوران في الحلقات المقفلة، على ما كان الجميل الابن يرى، وتابعه "جبرايل" (لقب ميشال عون في "لجنة" الجميل الاستشارية) على رأيه أو رؤياه. فالقيادة الثورية المرجوة قد تتوسل بالطائفة والجماعة الأهلية، وبعصبيتها، وقد تثير نعرتها، وتكتلها من هذه الطريق كتلة مرصوصة. ولكن غايتها لا تقتصر على الجماعة الأهلية، أو على تثبيت "حصتها" الحقيقية أو المفترضة. بل تتخطاها الى الدولة الواحدة والمندمجة. وفي هذا السبيل، على القيادة الثورية الخروج على المراتب المستقرة، السياسية والكنسية والاجتماعية الريعية، والعمل على هدمها وتقويضها، وشملها بتنديد واحد. وتناشد القيادة غير التقليدية "الشباب"، وتتوجه إليهم بالمخاطبة الحارة، وتدعوهم الى النهوض والسير تحت لواء "القيادة" الملهمة، وترك أهلهم وقراباتهم وأصدقائهم الى رابطة واحدة هي "القضية"، وإلى قائد واحد. ومثَّل بشير الجميل على مناشدته ودعوته بنهجه هو. فابن "شيخ" الحزب خرج على والده وعلى حزبه، وأنشأ على هامش الحزب السياسي حزباً مقاتلاً، وأعلن عزمه على مراجعة "ميثاقية" الحزب وسننه السياسية، وحذر من التحالف مع "الشيطان" (على قوله في إحدى خطبه بالأشرفية في 1974)، أي إسرائيل، قبل مبادرته الى إنفاذ تحذيره وموازنة الانخراط الفلسطيني والعربي في صف الجماعات الأهلية العروبية بانخراط عسكري وأمني إسرائيلي، وانتهاك بند جوهري من بنود "الميثاق" المضمرة.

 

وعلى رغم انتقال عماد الجيش الى رأس الدولة من طريق جهاز الدولة العسكري، وليس من طريق قيادة حزب سياسي وقاعدة حزبية أهلية وقوة مقاتلة خرج معظمها من القاعدة الحزبية هذه، فالقضايا والمسائل التي جبهت الزعامة العونية الطارئة تكاد تكون وتلك التي جبهت الزعامة الجميلية، من قبل، واحدة. ففي الحالين بدا الجمع بين قيادة التكتل الطائفي، وتوحيده على زعامة كاريزمية وتأسيسية تتعدى المراتب الوسيطة والهيئات المستقلة (الكنسية والإدارية والعائلية والاقتصادية)، وبين قيادة الدولة والمجتمع المركبين والمقتضيين التركيب عسيراً بل ممتنعاً. فقيادة التكتل الأهلي تحمل على سياسة تطرح معظم الترتيب "الميثاقي"، حين تستدعي رئاسة الدولة مراعاة موجبات الترتيب هذا. وكان العقيد ثم العميد فالعماد ميشال عون، في الأثناء، جلا نفسه ودوره في صورة العسكري اللبناني المقاتل على الجبهات المهددة، وأولها جبهة سوق الغرب، "قفل" الطرق والمسالك المؤدية الى بعبدا واليرزة والحازمية، وإلى خطوط بيروت الشرقية الخلفية، وجبهة إقليم الخروب الساحلية، حيث نكثت القيادة السورية السنية، على ما حسب أو قال الى "موفده" البعثي السابق فايز قزي، بوعدها، وقتلت عشرات العسكريين والمدنيين والمقاتلين المسيحيين. وعلى خلاف بشير الجميل، حملت الوظيفة الرسمية، أي الرتبة العسكرية، قائد الجيش الى رئاسة انتقالية وموقتة، ومنها الى زعامة أهلية وجماهيرية عريضة. وفي أثناء السنتين (والعشرين يوماً) اللتين قضّاهما رئيس الحكومة الانتقالية العسكرية في القصر الجمهوري "رئيساً" (أحد "رئيسين") وكيلاً، أو بالوكالة، قاد ثلاث معارك، على التقليل. 1) فسعى في انتزاع زعامة التكتل الأهلي من مقتسميها على مقادير وأنحاء متفرقة ومختلفة، وإلزام زعماء التكتل الإقرار له بالصدارة نزولاً على مبايعة الجمهور إياه. 2) وأراد التقدم على منافسيه على منصب رئاسة الجمهورية وزعامتها معاً وترجيح حظوظه، من طريق استمالة "الناخبين" في التكتلات الأهلية والطائفية الأخرى، على مثال قريب من نهجه في تأليب الجمهور المسيحي حوله، وحمل "الأعيان" و "الكبراء" على مبايعته بعد مشايعة الجمهور، أو العامة له. 3) وحاول، اخيراً، استدراج "الناخبين" الإقليميين والدوليين الى تأييده وتزكية ترشحه الى رئاسة مركبة ومعقدة تفترض، معاً، إجماعاً مسيحياً و "لبنانياً" عليه، وتفترض قدرته على التأليف بين الإجماع المزدوج هذا وبين مصالح "الناخبين" الإقليميين والدوليين المتنازعين والمتنافري المصالح.

 

وتبدو المعارك المعقدة والمتشابكة والمتناقضة هذه مرآة تخبط "بطلها"، وترجحه بين أدواره أو أقنعته، بحسب استعارة جمال عبدالناصر من بيرانديللو الإيطالي. والأغلب على الرأي ان "البطل" المتخبط هذا هو، بدوره، مرآة تخبط أعمق يتطاول الى "الجمهور" اللبناني وجماعاته وفئاته، جماعة جماعة وجماعات "واحدة" أو مركبة. ويتطاول التخبط الى السياسات الإقليمية والدولية الوالغة أو المتورطة في السياسة اللبنانية ومنازعاتها. وبطل المعارك هذه (المسرحي) نحت صورته، وهي رأسماله الثمين إبان المعارك نفسها ثم في منفاه وبعد عودته من المنفى وسعيه في الملك، من طريق هذه المعارك وبواسطتها، وعلى شاكلتها. فشن الحرب على القوات السورية، بينما كان يعد العدة لشن حرب على "القوات اللبنانية" وقائدها سمير جعجع ("زميله" في لجنة بشير الجميل الاستراتيجية) في أعقاب مناوشات واغتيالات بادرت "القوات" الى بعضها. وعول في حربه هذه على نتائج سياسية توخاها وأرادها، فوق تعويله على موارده العسكرية الضئيلة قياساً على موارد القوات السورية. فحسب ان حرباً مثل هذه تخرج الجيش الوطني من غيبوبته وسكينته المهينتين، وترد إليه، وإلى قائده، كرامته ووظيفته الوطنيتين، وتؤهله الى الاضطلاع بـ "الحل"، على قول أحد معاونيه المقربين و "منظر" دوره، العميد الركن فؤاد عون، فإذا تولى الجيش حرب تحرير وطنية، تقدمت مكانته مكانة "القوات اللبنانية" ورتبتها.

 

 

"القوات" تجرجر أذيال الخيبات منذ اغتيال صاحبها ومنشئها، وتعتاش من فرائضها على "المجتمع" المسيحي، وتثقل كاهله، وتنافس خزينة الدولة على عوائدها. ويصبغ تورطها في أعمال وصفقات وتجارات غير مشروعة "مجتمعها" كله بصبغة الخروج على القانون، على ما كانت حال لبنان في "العهد" الفلسطيني. وهي لا تنافس الدولة على الجباية والقوة المسلحة وحفظ الأمن والعلاقات الخارجية وحسب، بل تناصب العداء معظم القوى السياسية والأهلية  الأخرى، وأولها القوة السياسية التي خرج منها رئيس الجمهورية، أمين الجميل، أي حزب الكتائب، ثم زعيم الشمال الماروني، سليمان فرنجية، الرئيس الأسبق والمرشح الجاهز الى الرئاسة. ويرهب "أمنها"، وصغار قادتها ومتوسطوهم، جماعات كثيرة من المسيحيين، حزبيين ومتعلمين ومثقفين مهنيين وموظفين وأصحاب مصالح. وإلى هذا كله، وهو كثير وثقيل، خسرت "القوات" تماسكها. وهي سوغت نشأتها بـ "توحيد البندقية المسيحية" (وكان ثمن التوحيد المرجو باهظاً، وبقيت عملية الصفرا، 1981، التي قادها بشير الجميل على "نمور الأحرار" جرحاً نازفاً). وتوالى على قيادة البندقية أعوان بشير الجميل الأقربون. وبعضهم شأن ايلي حبيقة، مد يده الى ساسة سوريا، وحلفائها و "عملائها"، وعاهدهم في "اتفاق ثلاثي" (1985) مع "أمل" والحزب الدرزي الجنبلاطي على "إصلاحات" دستورية تطيح الرئاسة اللبنانية المارونية وصلاحياتها، وعلى إجراءات انتخابية تلحق النواب المسيحيين بناخبين من طوائف أخرى... وعندما انقلب سمير جعجع على ايلي حبيقة، آوى السوريون هذا، وأعانوه على محاولة اختراق "البلد" المسيحي. واضطر الجيش، وقائده يومها ميشال عون، الى المحاماة عن "البلد"، وإخراج قوات حبيقة من مواقع دخلتها القوات الغازية. والحال هذه، أخفقت "القوات" في مهماتها المرسومة كلها، وتحولت، على خلاف مطمح قائدها الأول وشيخها، الى قوة تقليدية، تقتسم مع القوى السياسية الأخرى الريوع والعوائد، المادية والمعنوية، التي تتيحها الأحوال السائرة والثابتة. فلا تسوغ دوامها مهمة غير عادية يدعو التصدي لها الى التوسل بوسائل غير عادية وغير مشروعة، على نحو ما افترض منشئها وصاحبها.

 

وبدا التصدي للقوات السورية، وهي خلفت المنظمات الفلسطينية المسلحة على أراضي لبنان وأهله، استئنافاً لفعل بشير الجميل الاستثنائي حين أنشأ "القوات اللبنانية"، ثم قادها الى الفوز برئاسة الدولة في ظروف داخلية وإقليمية بالغة التعقيد. ولم يجهر قائد الجيش الاستئناف ابداً ولا أعلنه، وحرص على السكوت عنه سكوتاً مطبقاً، على ما يجدر بـ "الأبطال" وابتدائهم ما يبتدئون. فهو من غير "مرجع تقليد"، على قول الشيعة الإمامية الإثني عشرية، ولا إمام قريب وماثل يأتم به ويأخذ عنه، بل هو المرجع والإمام. واستئناف سياسة بشير الجميل (الأسطوري، في الأثناء، أي غداة 6 أعوام على اغتياله بيد "سوري" قومي – اجتماعي من الأشرفية) عَوْد على بدء "القوات" وأصولها، ونقض على انتسابها الى مؤسسها، وعلى مشروعية انتسابها هذا. وهذا يقوض أركان "الوجود" القواتي. وقاد الرجل حملته، أو حربه، غداة قرار "مجلس الوزراء" (الضباط الثلاثة) إقفال المرافئ غير القانونية، القواتية أولاً وحقيقة وغير القواتية أدبياً ورمزياً. فجمع "القوات" والمنظمات الأهلية و "الإسلامية" المسلحة والوصاية السورية  عليها في باب واحد، أو "سلة واحدة" على القول العامي. ووحَّد الفساد و "الخوات" والتسلط والتسلح والاحتلال والخروج على الدولة، سلطة ومرافق، والتقسيم والتمرد، في الباب الواحد هذا. وكان القرار الحكومي بعث بعض الروح في الجباية العامة والخزينة وسعر صرف العملة الوطنية بإزاء الدولار الأميركي. فبدا شعاراً لدولة مقتدرة و "عامة"، ولسلطة تمثل على إرادة وطنية وشعبية مشتركة، وتتعالى عن "الميليشيات" الطائفية والرعاية الاحتلالية معاً. وهذا ما لم ينسه ميشال عون لاحقاً، وإلى اليوم، ولم ينسَه أنصاره ومريدوه، ولا نسيه الذين رد إليهم تسلسل الحوادث الظاهر – من مبادرة بعض القادة العرب الى إحياء المداولة العربية في المسألة اللبنانية على حدة من السياسة السورية المقفلة، الى قرار استعادة المرافئ وحظر الجباية غير المشروعة، فانتعاش العملة الوطنية، فالتلويح بالمفاوضة على عودة المهجرين واستجابة وليد جنبلاط وبعض معاونيه (أولهم أنور الفطايري الذي قتل غيلة بعد اسابيع واتهمت السفارة الفرنسية – "الإيطالية" باغتياله) التلويح هذا –  رد إليهم الأمل في عودة بعض المبادرة الى اللبنانيين أنفسهم، وفي اجتماعهم على مقاومة التكتل الاحتلالي – الميليشيوي كلاً وجميعاً.

 

 

ومكّن لهذه السياسة في مشاعر جمهور عريض ومختلط (على هذا القدر أو ذاك) من اللبنانيين، المبادرةُ إليها من موقع "الدولة" الوطنية، والجيش الواحد والمختلط، ركنها المفترض. فمن يَصْلي القوات السورية ومطامعها في لبنان، الحرب ليس فريقاً أهلياً مسلحاً أرهقته الاشتباكات والعداوات المحلية، وباعدت بينه وبين الأهالي "التجاوزات" اليومية. وإنما هو جيش نظامي، لا يحتمي بالأهالي، ولا يتخذ منهم درعاً يحمي نفسه، ولا يثقل عليهم بالاقتطاعات والمصادرات المباشرة، وهو، الى هذا، على رغم اقتصار حكومته على ماروني وكاثوليكي وأرثوذكسي، ليس "طائفياً" خالصاً. فشطر غير قليل من الجنود وصف الضباط وصغارهم مسلم سني من أرياف طرابلس، ويقاتل في "السوريين" من قنصوه، هو أو أحد "إخوته" و "أبناء عمه"، من جبل بعل محسن بطرابلس، أو قصفوه في 1983 و1985 و1987، ودخلوا دياره عنوة، وجبوه وأهانوه هو المسلم السني السلفي أو المعتدل أو البعثي العراقي، أو أحد "شباب" روابط الأحياء، أو ابن العائلة. وما شكا منه الأهالي بطرابلس وأريافها، كانت شكاية الدروز أو الشيعة أو السنة، عدا المسيحيين، منه ببيروت أفدح وأمرّ. فبعد جلائها عن بيروت والجبل القريب، في 1982، عادت القوات السورية، تدريجاً الى الجبل بجوار بيروت، ثم الى بيروت نفسها. ولابست عودتها، وفي ركابها "أنصار" فلسطينيون، أعمال قتل وتهجير و "حروب" حلفاء وأخوة سلاح، واغتيالات، على مثال جار ومعروف. ومهدت انتفاضة الجبل الدرزي، ثم انتفاضة شباط 1984 ببيروت، وحروب الإقليم (1985) الطريق لها. ولم تخل العودة السورية من جديد "جهادي" إيراني. فكان تفجير تشرين الثاني 1983 الانتحاري، في مقري القيادتين الأميركية والفرنسية للقوات المتعددة الجنسية، الإيذان به. وتبعته أعمال (1985- 1990)، توجته بهالة من الإرهاب والانتهاك وَصَمَت بيروت، واللبنانيين والشيعة منهم، بوصمة لم تمحَ. ورعت السياسة السورية هذا كله. وأدرجته في باب "مقاومة" الاحتلال الإسرائيلي، وضبطته ضبطاً دامياً في ثكنة فتح الله (1987) والضاحية الشيعية. ونظرت بعين الرضا الى اقتتال شيعي داخلي طاف بمنازل الشيعة بالغازية والنبطية، قبل ان يحط رحاله الثقيلة بالضواحي الشيعية جنوب بيروت، ويدمر ويقتل المئات، ويرسي غلبة الحزب الخميني المسلح على "أمل" (1986 – 1988). واتصل القتال الأهلي الشيعي بقتال شيعي ("املي") – فلسطيني (1985 – 1989) تجول، بدوره، بين بيروت وبين المخيمات الفلسطينية بالجنوب، بصيدا والرشيدية بضاحية صور، وشتت قوة "أمل" العسكرية، واستنزفها، وأضعف دالة "فتح" وياسر عرفات على أنصاره.

 

فلم يكد عام 1987 يبلغ تمامه، ويهل عام 1988، حتى كان العلم (العربي) السوري يخفق على الأنقاض والحرائق والقتلى ببلاد اللبنانيين، بين طرابلس شمالاً وصور جنوباً، وبينهما كسروان والمتنين وزحلة وعاليه والشحار وجبال الشوف وساحله وشرق صيدا، من الهلالية الى مغدوشة فجزين، ومن إقليم التفاح الى صور وجوارها. واستعرت الحرب على القوات الإسرائيلية المحتلة، في معظم بلدات جنوب لبنان والبقاع الغربي، ولم تنقطع طوال العقد التالي، ولا بعض العقد الذي يليه، عقدنا. فصوّر إعلانُ الحرب على الحروب هذه كلها، وهي لم تكن "صغيرة" إلا في حسبان خطباء الحرب "القومية" الواحدة والممتنعة، صور لميشال عون انه يجمع تحت لوائه، ولواء حربه، ضحايا الحروب الفرعية الكثيرة، وهم معظم اللبنانيين، ويوحدهم وراء جيشهم، وعماده، على القوات والسياسة السورية، أولاً، وعلى الميليشيات الأهلية المسلحة، وفي مقدمها الميليشيا المسيحية المنافسة، ثانياً. ولم يكن التعويل على المساندة والمساعدة العربيتين، العراقيتين والخليجيتين في المرتبة الأولى، والفلسطينيتين (الفتحاويتين)، تخميناً. فما سمعه رئيس الحكومة الانتقالية بتونس، من اللجنة السداسية في رئاسة وزير الخارجية الكويتي، ومن ياسر عرفات نفسه، وما أسمعه هو اللجنة السداسية (أي "برنامجه": العلمنة، إنشاء محكمة عليا لمحاكمة الرؤساء، بسط سلطة الدولة على "بيروت الكبرى"...)، وما يعرفه من السياسة العراقية وبلّغه طارق عزيز موفده (أبو جمرا) الى بغداد، حمله على الظن ان قتال القوات السورية هو مفتاح بلورة جبهة وحلف شعبيين ووطنيين في الداخل، وإقليميين، لا تنكرهما الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية.

 

ولا يزال الرسم السياسي المختصر والبسيط هذا علماً "تاريخياً" وأسطورياً جامعاً يرفعه الرجل، وأنصاره ومريدوه، على حركتهم، ويلمون بواسطته شتات حوادثهم ومنازعهم وغاياتهم المتضاربة، ويسترون به ضعف خطتهم السياسية وافتقارها المفجع الى استراتيجية متماسكة تلم بأبرز أحوال اللبنانيين، وبمشكلات تعاقدهم وتجديده. فالحسابات والتقديرات والاحتمالات التي نجم عنها قصف القوات السورية وأفضت إليه، واختصرت الفقرات التي مرت ملابساتها العريضة، جزئية في أحسن الأحوال، ومتناقضة أو متدافعة في اسوئها. فقد تستميل الحرب على القوات السورية المحتلة، والعائثة فساداً ودماراً وضغائن في اللبنانيين وأرضهم، جماعات لبنانية، ومصالح عربية، كثيرة. وبدا، بعض الوقت (بين آذار 1989 وأيار – تموز من السنة نفسها)، أن تبادل القوات السورية والجيش اللبناني، المرابط بجوار بيروت ومنحدرات عاليه والمتن الجنوبي، القصف المدفعي، وتعمد القوات السورية، على خلاف معظم قصف الجيش اللبناني، قصف أحياء السكن ببيروت الغربية والمرافق والتجهيزات المدنية بشرق بيروت، لقيا صدى "طيباً" في صفوف المسلمين، وألّبا بعضهم على القتل والتدمير "الاستعماريين" "العربيين".

 

وارتسمت، على شاكلة ظلال طيفية، ملامح وطنية لبنانية مشتركة بإزاء عدوان وتسلط عربيين و "شقيقين". وتخللت الحوادث الحربية والعسكرية هذه اغتيالات تطاولت الى بعض وجوه السنة اللبنانيين. فأردت مفتي الديار اللبنانية الشيخ حسن خالد، ثم نائب البقاع الغربي، ناظم القادري، الى اغتيالات أخرى سبقت أو لحقت الاغتيالين البارزين. وأثبتت الاغتيالات هذه، وهي وقعت كلها بغرب بيروت بين عائشة بكار شرقاً وساقية الجنزير غرباً على بعد مئات الأمتار، ضيق الاستخبارات والسياسة السورية، غداة 6 الى 7 أعوام على "حوادث" حلب وحماه وحمص وأطراف جبل العلويين الدامية (1980- 1982)، بميل السنة اللبنانيين الى "قائد" لبناني مسيحي وماروني، وبرم السياسة هذه وبدوام أثر المواقف الفلسطينية والعراقية المناوئة وأصدائها في صفوفهم. وتستشعر السياسة السورية الأسدية ميول الجماعات المذهبية والطائفية داخل "البلاد" السورية نفسها، وبجوارها القريب، واللبناني على وجه الخصوص، استشعاراً حاداً وغريزياً، صادراً عن سياسات استيلائية و "استعمارية" من نمط سلطاني أميري أو مملوكي عثماني (ولعل هذا بعض تعليل تقريب حافظ الأسد "مثقفاً" لبنانياً مسيحياً يستشهده فقرات من ماكيافيلي في نهج الأمير المتغلب بالسلاح والحيلة على بلد ذاق أهله طعم الحرية، أو استشهده سطوراً من ابن خلدون في "عصبية الاستيلاء"، على ما روى كريم بقرادوني وروجيه عزام).

 

ولكن ثمرة السياسة الحربية والوطنية هذه تتضاءل بإزاء مترتبات وذيول لم تلبث ان أسفرت عنها، واعتورت الثمرة الوطنية ونهشتها. فحُملت المساندة السنية اللبنانية والفلسطينية والعراقية والخليجية، ولما تضع "حروب" المخيمات الشيعية (والسورية) – الفلسطينية أوزارها بعد، على انحياز الى جماعة مذهبية وطنية على أخرى. وعلى رغم محاولة السياسة الإيرانية، من طريق "حزب الله"، لجم "حروب" المخيمات هذه، والانتصار للفلسطينيين من غير مجابهة سياسة السوريين أو قتال أنصار "أمل"، بعثت فصول الحرب الطويلة والمتعرجة عصبية شيعية "وطنية"، أو بلدية، اغتذت من القيام على المسلحين الفلسطينيين، والثأر من تسلطهم السابق. وتبنى بعض وجوه العلماء الشيعة (أبرزهم رجل "الغارات" الفقهية السريعة والخفيفة على المواقع اللبنانية) قادة تيارات سنية متشددة، مثل سعيد شعبان على رأس "حركة التوحيد" الطرابلسية، وهو استمالته "الدعوة" الإيرانية الخمينية بعد هزيمته العسكرية. وعارضوا تيار السنّة المنعطفين الى الجيش اللبناني، وربما الى الفلسطينيين والعراقيين والخليجيين (الخارجين لتوهم من الحرب العراقية – الإيرانية الضروس)، بالقادة "المتشيعين"، أو الموالين لسوريا. وأثارت مضمرات حرب الحكومة العسكرية (على القوات السورية)، في "البلد" المسيحي، وجماعاته ودوائره، انقسامات تفوق حدتها ربما انقسامات "البلاد" الإسلامية. فحلفاء ميشال عون العرب والجدد هم انصاره، من غير شك، على السياسة الأسدية في لبنان وغير لبنان. ولكن حلفهم و "القوات اللبنانية"، وتسليحهم وتمويلهم إياها، سبقت حلفهم ورئيس الحكومة الانتقالية العسكرية. وهم يقدرون أن الحلف والتسليح والتمويل تتفق والحلف الجديد. فهم يحتاجون الى حليفين مسيحيين متحالفين على السياسة السورية، وليس الى حليفين يتقاتلان، ويضعف واحدهما الآخر، ويضعف اقتتالهما المعسكر الذي يجمعهما.

 

ولم يبعث تثاقل "القوات اللبنانية" عن قتال القوات السورية، وعن الامتثال لقيادة رئيس الحكومة الانتقالية والقتال تحت لوائه، الحلفاء "العرب" على الطعن في دور "القوات"، ولبنانيتها وكيانها، على ما يجاهر عماد الجيش اللبناني. وحين استبق الرجل حربه اللبنانية – السورية، أراد التمهيد لها بالسيطرة على "القوات"، وشن حرب خاطفة عليها، في 14 شباط (1989). فسبقت "القوات" الجيش الى ساحة انطلياس والجسر المفضي إليها، وعسكرت بعوكر وضواحي السفارة الأميركية. فصدت اللواء العاشر، وحالت بينه وبين النزول من المتن الى الأوتوستراد الساحلي، وبلوغ ضبية – انطلياس، وقطع إمدادات "القوات" من جونيه الى الكرنتينا، حيث المجلس الحربي القواتي. وأثبتت "القوات" دربتها الميدانية في حرب المدن والحركة، وتفوقت على الجيش. وعلى حين ظهر تماسكها، وتحلقها حول قيادة سمير جعجع، ومجلس حربه، بانت الشقوق في الجسم العسكري. فبعض الضباط المسيحيين كان ولاؤهم للقوة العسكرية الأهلية إذا أقدم الجيش الوطني النظامي على ضربها. فلم ير الضباط هؤلاء في حرب قائدهم على منظمة جماعتهم المسلحة تدبيراً سياسياً قويماً. وربما لم يبعد ميشال عون نفسه من مشاطرتهم رأيهم. فهو أمر، في 15 شباط، قواته بالمسير من المتن على عين الرمانة، معقل "القوات"، وحصارها. ونجحت القوات النظامية في اختراق سن الفيل، وإخراج "القوات" من المعركة. ولكن قائد الجيش أحجم عن إكمال المسير، وأوقف الهجوم الذي كان عوض بعض خسارته بأنطلياس والأوتوستراد الساحلي. فإلى الثمن الباهظ الذي كان ربما اضطر الى تسديده من الجنود، دعاه الى التوقف. فالمدنيون، وممتلكاتهم، هم "ميدان" الحرب المسيحية الأول. وكان البطريرك الماروني نصر الله صفير، تهدد قائد الجيش، إذا هو مضى على حربه ومهاجمته "القوات" ومعاقلها، وشرذمة "المجتمع" المسيحي وتكبيده الخسائر (بلغت تكلفة يومي 14 و15 شباط 77 قتيلاً و200 جريح، بحسب تقدير دونته كارول داغر)، بقرع أجراس الكنائس، ودعوة الأهالي الى الخروج وتطويق الوحدات العسكرية المقاتلة. فلم يخطئ "البطل" الحساب ساعتها، وحسب. فألب قوى مسيحية عليه، وخسر مساندة الكنيسة واستعدادها، وأنذر "القوات" بوشك مهاجمته إياها. ودعا الى التشكيك في خطته.

 

ولم يقتصر الأمر على هذا، ولا على هؤلاء (أي على السنة والشيعة اللبنانيين والحلفاء العرب). فلم يُرق لوليد جنبلاط وهو يرى الفلسطينيين المسلحين الذين قاتلوا في 1983، ثم في 1984 و1985 – 1986، جنباً الى جنب معه ومع المقاتلين الدروز، في سبيل "استعادة" بلاد الغرب، بين سوق الغرب ونهر الدامور ثم على الطريق الساحلية الى صيدا، وبشرق صيدا، الى القوم الدرزي والجنبلاطي وإلى مشايخ صيدا وقياداتها، لم يرق له ان يراهم، و "حلفاءه" الشيعة من "أمل" يستقرون ببلدان ساحل إقليم الخروب السنية والمسيحية، ويقيمون في منازلها، ويستغلون اراضيها، ويضعون يدهم على الهلال المسيحي (والدرزي جزئياً) حول صيدا وروابي الزهراني. وكان وليد جنبلاط يحمل الاستقرار الفلسطيني والشيعي هذا على ايذان بتوطين الفلسطينيين في لبنان، وبالسيطرة عليه من طريقهم، ومن طريق الشيعة. وبينما كان يُسرُّ خشيته هذه أو يعلنها مغمغماً، كان ميشال عون يذهب جازماً الى ان لا توطين في لبنان (على خلاف رأيه منذ عودته من الاغتراب)، وأن بلد التوطين المزمع هو... الأردن. وأراد الزعيم الدرزي حسم المسألة. فأمر، في الأسابيع الأولى التي تلت استيلاء القوات "الوطنية" على طريق الساحل، والإغارة على بلداته وتهجير أهلها الى الحزام وقتل من لم يستعجل الهرب. وإجلاء "القوات اللبنانية" والجيش اللبناني عنها الى جزين وجوارها (وكبدت "المعركة" الجيش اللبناني 45 قتيلاً بعد ان كانت القيادة السياسية والعسكرية السورية وعدت ميشال عون، قائد الجيش الجديد، بكبح رغبة جنبلاط في اجتياحه، على رواية فايز قزي)، أمر بهدم البلدات هذه، وإخلائها. فتوطين فلسطينيين وشيعة يأتمرون بأمر سوري، في ارض هي جزء من "البلد" الدرزي الصغير والقليل، على ما لم يفتأ وليد جنبلاط يقول في قانون الانتخابات طوال العهد السوري، لن يعدم التضييق على قومه وعليه، والحؤول بينه وبين أداء دور "الناخب المسيحي"، أو أحد الناخبين، حين يعود اللبنانيون الى "السوق"، ويبيعون ويشترون.