ليس دفاعاً عن "النهار"

بقلم/أيمن جزيني

9/2/2009

ملحق النهار

 

يسع المرء ان يجزم بانتهاء مفاعيل زيارة النائب ميشال عون لسوريا بعد تهجمه على صحيفة "النهار" وتهديده، على مثال حليفه الامين العام للمنظمة الخمينية السيد حسن نصر الله بقطع الايدي والالسن، ومطالبته بإحالة رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة والنائبين سعد الحريري ووليد جنبلاط على القضاء بتهمة الاساءة الى العلاقة مع سوريا والتي زعم طويلا معاداتها، اهلاً ونظاماً.

 

فإرث صحيفة "النهار" الاعلامي وما أرسته من تنوع ثقافي وسياسي، لم يحولا دون استهدافها. ولم يشفع لها تاريخها المديد في حماية الحريات الفردية والسياسية وتكريس حق الاختلاف من ضمن صون السلم الاهلي وتعزيزه. وغالباً ما اثارت الصحيفة اشكالية لدى القارئ بسببٍ من قدرتها على الجمع بين اليمين واليسار، وبين الليبيرالية والاصولية. فالجريدة التي قدّمت مديرها العام النائب جبران تويني والكاتب والمفكر سمير قصير شهيدين من أجل استقلال البلد وحريته، صارت عرضة لألفاظ اقل ما يقال فيها انها سوقية ونابية، ولا يخفف من وطأتها القول إن الاناء ينضح بما فيه.

 

والحال هذه، هل يمكن تخيّل المسرح السياسي اللبناني من دون عون؟! بالتأكيد لن يكون مسرحاً، بل حاضرة سياسية تليق بلبنان. وحكماً سينخفض منسوب التوتر لدى اللبنانيين.

 

إطلالات عون وتصريحاته موسومة دائماً بالعصبيّة، حتى ليخال متابعه أن نبرة الصوت المرتفعة وإيماءات التوتّر إنما تتوخّى تأنيب المُشاهد، وكأنّ هناك خلافاً بين الإثنين. فالرجل لا يتورع عن التهديد بالويل والثبور ما لم تكن الامور على منواله واهوائه.

 

في حملته الاخيرة، اطلق الجنرال الكثير من المفردات تحمل معاني عصيّة على العقل والفهم في آن واحد. وبدا انّه يطلّ علينا من موقع عسكري أو أحد الأزقة، أو أي شيء، لكنّه يصدر من مكان ليس سياسياً البتةً. في السياسة، المسألة أبسط من ذلك بكثير: كيف يقول إن المطلوب هو بناء دولة، فيما يغفل كلّ ما يطال أزمة الديموقراطيّة التي تسبّب بها إقفال مجلس النواب والهجوم والسيطرة بالسلاح على بيروت ومناطق في الجبل، والعزوف العام عن السياسة بمعناها العلمي، لصالح سياسات عابرة وجزئيّة وتتركّز في الأحياء والعصبيّات الأهليّة؟!

 

تحت هذه العناوين يمكن إدراج ما لا حصر له من عناوين سياسيّة تطال أساس البلد وتركيبه، لكن يبقى أننا انتهينا مع ميشال عون إلى سياسي من نوع عناصر التعبئة في الأحزاب الشموليّة والتوتاليتاريّة. وصار يمارس الإقناع في قضايا عامّة من دون شرح الآليّات ولا التوجّهات، وعلى قاعدة الفرض والأمر.

 

تفسير هذا التردّي السياسي لا يكتمل من دون التوقّف عند اقتراحه "استراتيجيّا دفاعيّة" ودعوته إلى "نشر المقاومة الشعبيّة". لم يذكر التاريخ سابقة واحدة عن تعايش أو وجود مقاومة وجيش في دولة واحدة، اللهمّ إلا إذا كانت التجربة الإيرانية ألهمته إلى ما اقترح، وخصوصاً بعد زيارته طهران.

 

وبافتراض ان هذه التجربة هي النموذج الذي يدعونا إلى اتّباعه، فهناك يخضع الباسدران والباسيج والجيش للدولة، بغضّ النظر عن طبيعتها الدينيّة وشخص مَن يقوم مقام السلطات برمّتها. ثم ان الدعوات اللبنانية المختلفة والمتعاقبة لتبني استراتيجيا دفاعية تتوخّى، فقط، تقوية الدولة وإسقاط منطق الميليشيات المسلّحة. ذلك ان عرض القوّة لدى فريق من اللبنانيين، قد يستدرج عرضاً مماثلاً لدى فريق آخر.

 

عندها، يسعُ أيّاً كان أن يدرك ان البلد أصبح برمّته مسلّحاً تحت عنوان المقاومة وحماية الذات والقلق من الآخر، الأمر الذي يرشح اجتماعنا على الانفجار في لحظة تَعارض أو تَناقض داخلي، أو متى انعقدت تناقضات الوضع الداخلي من الخارج.

 

الأكثر مدعاةً للإستغراب ان "الاستراتيجيا" الخلاّقة تصدر عن شخص كان ذات يوم قائداً للجيش وشنّ حرباً تحت عنوان "تقوية الدولة وقيامتها" في وجه فريق مسلّح رفع آنذاك أيضاً شعاراً يتماهى في التسمية والمضمون مع ما يرفعه "حزب الله" - أي المقاومة - وإن اختلف الخصم.

 

يسع المرء أن يتفهّم سائر تقلّبات عون وإدراجها تحت خانة المصالح السياسية وتعقيداتها، لكن ما يبقى عصيّاً على العقل هو نزوعه المستمرّ إلى تأبيد سطوته الشخصية، واستثماره حضوره وجماعاته التي يمثّلها في سياق تعزيز وجود سوريا وقوتها في لبنان.

 

لقد سبق لعون أن "توّج نضاله" من أجل الدولة، بأن سأل كيف وصل النقيب الشهيد سامر حنّا حرب إلى سجد حيث أطلق "حزب الله" النار على طوّافة للجيش اللبناني، وكأنّ القاعدة هي الشرعية للحزب والاستثناء للجيش. ولم يسعفه الحديث إثر ما حصل في 7 أيّار، إلا القول بأن القاطرة عادت إلى سكّتها الصحيحة، مغفلاً مقتل أكثر من 55 لبنانيّاً.

 

كما ان التسابق على القتل والاغتيال، ونصبهما نظيراً للفاعليّة السياسيّة لقوى 14 آذار، لم تحفز عون على أي تساؤل أو موقف سياسي، بذريعة ان الكشف عن هذه الجرائم هي من مسؤوليّة قوى أمنيّة في عينها، مُغفلاً ان كلّ ما لدينا وفي غالبيّته، هو من بديع صنع الوصاية المديدة للنظام السوري واستخباراته، والتي استمرّت 29 عاماً.

 

الجنرال الذي أطلق على سلاح "حزب الله" تسمية "سلاح الفتنة"، قبل أن يجمع الله الشتيتين، يرفض حتى تحرير مزارع شبعا ديبلوماسيّاً، إنما يريد إسترجاعها عسكرياً، علماً انه أوّل القائلين بضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية للمحافظة على لبنان. وهو حالياً يضطلع بكلّ سياسة مناقضة لتفاهمه مع القس بات روبرتسون أحد أكبر المدافعين عن يهودية إسرائيل.

 

الارجح انه لم يعد من جدوى في مناقشة جنرال "حرب التحرير" للحؤول دون انسياقه في التسورن السياسي الذي حسم في الانتساب اليه من خلال مهاجمة صحيفة "النهار" والدعوة الى احالة السنيورة وجنبلاط والحريري على القضاء. كما لم يعد هناك من منطق مشترك معه تقاس السياسة عليه او تنسب نتائجها اليه.

صدقية عون لم تعد قضية ذات شأن في البلد، والامر تبعاً لذلك لا يستحق من ايّ كان ان يصر عليه، ففي مثل هذا الالحاح ما يبعث على الكآبة والملل. ولئن أصبح ولاؤه لسوريا واقعاً قضى الله فيه أمراً كان مفعولاً، فإنه يسع المرء ان يطلب من الجنرال حلّ بعض المسائل العالقة مع سوريا دولة ونظاماً.

 

ولن ينفع الجنرال بعد الآن الاستمرار في اللعب على الالفاظ، لتبرير نوازعه الشخصية. ذلك ان السؤال هل في إمكانه استرجاع البندقية التي قدّمها الامين العام لـ"حزب الله" الى رستم غزالي، المتهم والمدان بالجزء الوازن من الارتكابات في لبنان سرقة وقتلاً؟ وكيف يفسر للبنانيين ظاهرة شاكر العبسي الذي خرج من سجنه في دمشق وحل ضيفاً في مراكز "فتح الانتفاضة" التابعة للنظام السوري؟ وأين هم المعتقلون في السجون السورية؟ وكيف السبيل الى معالجة ملف الحدود مع الشقيقة من مزارع شبعا الى النهر الكبير؟

 

يمكن الجنرال ان يستغل غريزة القلق لدى المسيحيين في سياق عدائية مركزة ومبرمجة ضد الآخرين، وليبرر تحالفات تبدأ مع إيران وتنتهي مع النظام السوري، لكن يسع المسيحيين ان يسألوه عما قاله في واشنطن عام 2003 بدعوة من "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطية" عن ارهاب النظام السوري ومسؤوليته في تقويض لبنان وابنيته السياسية والدستورية والاهلية.

 

آنذاك لم يترك عون - وعن حق - شيئا إلا قاله في هذا النظام لجهة اغتيال سياسيين، وفرض الرقابة على الصحف، ونسف سفارات وقتل رجال دين، وتحويل لبنان حديقة لزراعة المخدرات ومرتعاً لجميع التنظيمات الارهابية وخاطفي الرهائن. لكن الابرز في محاضرته الشهيرة: اتهام نظام الاسد باتخاذ مزارع شبعا التي لا يريد حالياً استرجاعها ديبلوماسياً بل تحريرها، ذريعة لعدم نزع سلاح الاحزاب الموالية له من اجل ابقاء التوتر في الجنوب، فضلاً عن تشديده على انه إما ان ينتصر العالم بقيادة الولايات المتحدة على الارهاب، وإما يدخل في مرحلة من الظلامية والانحطاط، فيما يردد الآن وراء مرشد الثورة الاسلامية في ايران علي خامنئي عزمه على مواجهة واشنطن من بيروت مستنداً الى الـ 70 في المئة من المسيحيين.

 

في هذا المعنى، فإن قليلاً من التدقيق في ما ادّعاه عون ضد "النهار" وسياسين لبنانيين يمكن أن يقودنا إلى المعادلة الآتية: التحريض الذي أطلقة الجنرال السابق شمل ما هو أبعد من السياسة الوطنية التي يفترض ان تعقبها ممارسة يومية تسقط كل بقايا الاحتلال السوري للبلد. فالتحريض انما استهدف التعبئة للإستفادة الشخصية وتزخيم حضوره وصهره وزير الاتصالات على "الساحة" المسيحية. فلا كلامه عن الموقف من النظام السوري و"حزب الله" كان صحيحاً. ولا ادعاءاته عن التوريث السياسي كانت تملك حظوظاً من الصواب والسويّة في الممارسة.

 

والحق ان عون تفوّق على ناصر قنديل ووئام وهاب وكريم بقرادوني في تملّق النظام السوري وتبنّي سياساته والتصدي للمطالبين بذواء نفوذه والتنديد بهم، فضلاً عن تخوينهم.

 

كما ان عون لا يكلف نفسه عناء السؤال: ما هي ملامح أو قسمات السياسة التي تتوسل بالتفجيرات والحروب المتنقلة الى غاياتها؟

وظيفة الكلام ان يحفظ كرامة مطلقه وان يعبر عنه، لكن مع عون بدا ان فعله من طبيعة عكسية إذ لم يحفظ له ذلك، لا متكلماً ولا سياسياً، ولا تزال المهانة سمته، منذ كانت السياسة بالنسبة اليه سبيلا الى طموحاته ونوازعه