الطريق الى الانتحار

اعداد: ادغار بو ملهب

 

تناقضات العماد ميشال عون

تعددت الآراء حول ظاهرة العماد عون وانقسمت بين اقسى المؤيدين وأشد المعارضين ورأيت نفسي في الفئة الثانية محتارًا مذهولا من تنكر المجتمع الذي انتمي اليه لتضحيات كبيرة قدمتها احزاب الجبهة اللبنانية خلال فترة الحرب ولما كان من الصعب الدخول في حوار عميق مع مؤيدي الجنرال ولي بينهم اصدقاء كثر وذلك كونه يمثل بالنسبة اليهم المنقذ الذي انتظروه طويلا بعد سنين طويلة من المعاناة والقهر ومن الصعوبة بمكان ان يتقبلوا اي انتقاد للقائد المنقذ الذي لا يخطئ حتى لو لم يفهموا بعض مواقفه وبعض تحالفاته.

 

وحيث انني اهوى السياسة واتابعها ما قيد لي ان املك معلومات كثيرة تتعلق بهذه الشخصية الجدلية رأيت انه من واجبي ان اكتب عن بعض الحقائق والوقائع التي قد تكون جارحة ومحبطة للآمال لكنها بالتأكيد حقائق دامغة لا بد من ان تقال وتصل الى الوجدان حيث ان "الحقيقة يجب ان تقال مهما كانت صعبة" هكذا علمنا بشير وهكذا سيكون... وانني اذ اوجه هذا البحث الى الاصدقاء اولا وبخاصة الى العونيين من بينهم لا لشيء الا لاعلاء مستوى الحوار فيما بيننا بحيث ننتهي من اللغة الخشبية ومن التخوين كما من التجريح الشخصي الى لغة العقل حيث نناقش الفكر واسلوب العمل السياسي لنخلص الى نتائج عملية وواقعية اثبت من خلالها الاسباب التي جعلتني لا اكون في صفوفكم لا بل اكثر من ذلك جعلتني اكون في موقع الخصومة معكم ويهمني في هذا المجال ان اؤكد على الاحترام الكامل للتيار الوطني الحر سيما المناضلين من بينهم الذين تشاركوا مع مناضلين آخرين شرف مواجهة النظام الامني اللبناني السوري وما تأتى عن ذلك من تضحيات وعذابات شتى.

 

ولاضفاء المصداقية على المعلومات الواردة في هذا البحث استعنت بعدد من الكتب سيما كتاب "من ميشال عفلق الى ميشال عون" للكاتب الاستاذ فايز القزي وهو احد اصدقاء الجنرال من اواسط الثمانينات حتى اليوم وباني علاقة الجنرال مع سوريا اواسط الثمانينات كما كان الممّثل الشخصي للعماد عون في الحوار الذي دار في تونس بين العماد عون والقوات اللبنانية بعد اندلاع حرب الالغاء وكان الدكتور توفيق الهندي ممثلا للقوات في حينه.

 

كما استعنت ببعض المعلومات الواردة في كتاب سيرة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير "السادس والسبعون" في جزئه الاول الممتد من عام 1986 إلى عام 1992 ، دعمه مؤلفه الصحافي أنطوان سعد بمقابلات مع سيد بكركي وانطباعات له شخصية .1990- ومدونة كما يتضمن الكتاب تقييم الكنيسة لاحداث عامي 1989 كما يحتوي البحث على معلومات كثيرة وردت في مقالات ومواقع الكترونية وكتب عديدة اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتب كل من الاساتذة:

 

- روجيه عزام (مؤسس المكتب المركزي للتنسيق الوطني المؤيد للعماد عون ( “Liban L’instruction d’un crime”)

- ايلي سالم (وزير خارجية ثم مستشار الرئيس امين الجميل) "الخيارات الصعبة"

-آلان مينارغ "اسرار الحرب اللبنانية"

-بول عنداري "هذه شهادتي"

- سركيس نعوم "ميشال عون حلم ام وهم" ...

 

تعريف

 

ميشال نعيم عون رقمه العسكري 58020 ولد في حارة حريك في 30 ايلول 1935 ماروني متأهل من ناديا سليم بناته ميراي وكلودين وشنتال كان آمر فصيلة في فوج المدفعية الثاني العام 1959 آمر بطارية في فوج المدفعية الثالث العام 1964 عين بعد ذلك قائد كتيبة مدفعية في العام 1976 ثم قائد لواء الدفاع وقطاع عين الرمانة –بعبدا في العام 1980 ثم قائد اللواء الثامن في العام 1983 وتم تعيينه في العام 1984 قائدًا للجيش على اثر حركة 6 شباط التي اطاحت بالعماد ابراهيم طنوس وادت الى انقسام الجيش بين جيش مسيحي في المناطق الشرقية وجيش مسلم في المناطق الغربية.

 

ومع بداية الحرب كان العماد عون من الضباط المقربين من حزب التنظيم وهو الحزب الذي اسسه رئيس جهاز المخابرات في عهد الرئيس سركيس جول بستاني وترأسه الاستاذ جورج عدوان وهو قاد بعض المجموعات المقاتلة من الجيش والميليشيات في معارك تل الزعتر ضد الفلسطينيين (كتاب روجيه عزام ص 502 ) ثم تقرب من الشيخ بشير الجميل من خلال صداقته لاحد ابرز مفكري حزب الكتائب في حينه الاستاذ انطوان نجم الذي وضع الىجانب العماد عون بعض الخطط واوراق العمل لصالح بشير ونستطيع ايجاد بعض هذه الوثائق في كتاب آلان مينارغ "اسرار الحرب اللبنانية".

 

واستمرت علاقة العماد عون بالقوات اللبنانية بعد بشير سيما في مرحلة الوزير الراحل ايلي حبيقة وكان جليًا تدخل العماد عون لانقاذ الوزير حبيقة من داخل مبنى الامن في الكرنتينا المطوق من قبل الدكتور سمير جعجع وذلك اثر طلب سوري مباشر عبر اتصال اجراه اللواء حكمت الشهابي بالعماد عون وقد ذكر الاستاذ روجيه عزام ذلك في كتابه في الصفحة 448

نقلا عن العماد عون وذلك في حديث مباشر بينهما كما ورد في الكتاب.

 

1988 العلاقة مع سوريا - مرحلة 1986

 

في هذه الحقبة كان العماد عون قائدًا للجيش محاطًا بمجموعة من الضباط الاوفياء سيما العميد الركن فؤاد عون الذي كانت له مهمة تدوين المشروع الذي يطمحون اليه فكان كتاب "ويبقى الجيش هو الحل" (صدر عام 1988 ) عبارة عن مشروع سياسي وعسكري انما بادارة عسكرية بحتة وقد يكون لغياب الادارة السياسية للمشروع الاثر الاكبر في فشله كما ان هذه الحقبة شهدت اتصالات ووعود وعهود بين قائد الجيش والسوريين عمل على انضاجها مجموعة من الوسطاء كان ابرزهم الاستاذ فايز القزي(بعثي سابق) ، ويظهر بوضوح في كتاب الاستاذ القزي "من ميشال عفلق الى ميشال عون" الصادر عام 2003 ان للاستاذ القزي دور كبير في بناء العلاقة بين الجنرال والسوريين على خلفية قناعته بان الجنرال يحمل مشروعًا لبناء الدولة وقد كان لصديق الاستاذ قزي الوزير البير منصور دور كبير في التأسيس لهذه العلاقة ويروي الاستاذ قزي قصة اول اجتماع مع عبد الحليم خدام على الشكل التالي:

 

 " فلم نخرج من الجلسة الاولى للقاء عبد الحليم خدام الا وكان البير منصور يحمل تكليفًا باستطلاع برنامج عون السياسي ليعود في الاسبوع اللاحق يحمل تصور عون الشفهي للعلاقة مع سوريا ومشروعه السياسي الخارجي والداخلي وقد نقل ذلك بصحبة محسن دلول الى  بلودان".(فايز القزي-"من ميشال عفلق الى ميشال عون" ص 141(ويظهر بوضوح من خلال الكتاب ان ابرز مشاريع العماد عون هو القضاء على الميليشيات وان كان هذا الهدف هو اساسي لبناء الدولة انما الثغرة كانت في اعتبار الميليشيات هم المشكلة بذاتها فيما الميليشيات هم نتاج المشكلة الاساسية للبلد الا وهي تركيبته الطائفية والتوازنات فيما بين الطوائف كما علاقته الملتبسة بمحيطه العربي والاسلامي كما دوره في الصراع العربي الاسرائيلي فالعمل على حلّ المشكلة الاساس كان سيؤدي حتمًا لانهاء دور الميليشيات فيما الغاء الميليشيات دون حل سياسي كان نوعًا من الانتحار وما يدل على هذا المشروع ما ورد في كتاب القزي:

 

" خرجنا (فايز القزي والبير منصور) من لقاء عون بقناعة مشتركة واحدة هي ان استمرار الميليشيات المسيحية والدرزية هو الترجمة العملية لنجاح مشروع الفرز الطائفي اهم اركان المؤامرة الاسرائيلية على لبنان". (فايز القزي-"من ميشال عفلق الى ميشال عون" ص 146)

 

وفيما كان عون يسعى لاتفاق شامل مع السوريين (بحسب رواية القزي) يتضمن الغاءًا للميليشيات كان السوريون يحاولون الاستفادة من العماد عون للتخلص من عدوهم اللبناني الشرس الا وهو ميليشيا القوات اللبنانية فنقرأ في كتاب الاستاذ القزي ما يلي:

 

"لم يتأخر السوريون في الكشف عن نواياهم حيال هذه العلاقة (مع العماد عون) فبدأت دمشق تلوح بالموافقة على دعم الجيش وقائده في صراعه مع الرئيس امين الجميل ومع القوات اللبنانية.

 

غير ان هذه العلاقة التي استغرقت جلسات ولقاءات متتالية لترسيخ دعائمها والداعية الى ضرب القوات اللبنانية فقط او كمرحلة اولى لم يقتنع عون بجدواها وطالب بالتفاهم مع السوريين على المشروع السياسي الكامل والبديل معتبرًا ان مصير القوات ودورها على الساحة اللبنانية مرتبط بعلاقة جلية مع الميليشيات الاخرى المتواجدة على الارض ...

 

وبدأت فعلا مرحلة الحوارات المكوكية: وعود من دمشق بتقديم كل الدعم ضد الرئيس الجميل والقوات اللبنانية مقابل عهد يقطعه عون بالغاء القوات اللبنانية والتضامن السياسي مع سوريا وكانت وعود من عون شاركت انا في نقلها الى دمشق تحمل تضامنًا مع دورها الاقليمي وخصوصًا تجاه اسرائيل...

 

استمر هذا الجدل شهورًا كان خلالها السوريون يتمسكون بانهاء دور القوات اللبنانية في المنطقة الشرقية تمهيدًا لبسط سلطة الدولة على كامل التراب اللبناني وفقًا لمشروع سياسي يتم البحث فيه والتوافق حوله في مرحلة لاحقة ولم يكن مشروع الحل واضحًا فلا عون ولا السوريون يفصحون الا عن مرحلته الاولى وهي ضرب القوات اللبنانية. (فايز القزي- "من ميشال عفلق الى ميشال عون" ص 159-160)

 

تجدر الاشارة هنا الى ان الجيش اللبناني كان يتلقى مساعدة شهرية بقيمة 500000 $ من المملكة العربية السعودية تسلم مباشرة الى العماد عون من خلال رجل الاعمال رفيق الحريري ما مكنه من تأمين التقديمات الاجتماعية لجنوده في فترة اقتصادية صعبة (كتاب روجيه عزام ص 467)

 

ولتحقيق مشروعه قام العماد عون بحملة تعبئة منظمة لنفوس ضباطه وجنوده ضد من اعتبر انه يأخذ دورهم معتمدًا على تجاوزات كانت تحصل من وقت لآخر حيث التداخل الجغرافي المشترك لعب دورًا اساسيًا في هذا الامر فيما كانت الوية الجيش المتواجدة في بيروت الغربية تتماهى مع الميليشيات ما لم نقل انهم كانوا جزءًا منها ولم يكن من حضورمستقل للجيش الا في المناطق الشرقية وان كان قد بقي للجيش اللبناني من دور فذلك مرده الى استراتيجية مسيحية تقوم على الحفاظ على دور الدولة ومؤسساتها في مقابل استراتيجية الوحدة مع سوريا والذوبان في المحيط العربي ومنطق الجيش الانعزالي ونتابع القراءة حول هذا الموضوع في كتاب الاستاذ القزي:

 

"...كّثف عون ندواته ولقاءاته مع الضباط الكبار والصغار واعتمد نهجًا وطنيًا في تعبئة النفوس مركزًا على مشروع وحدة المؤسسة العسكرية وتقدمها وتفوقها على جميع الاشكال والتنظيمات شبه العسكرية في كافة المناطق اللبنانية تمهيدًا لوحدة البندقية في ظل شرعية قوية وعادلة.

 

فتكرست ظاهريًا اشكال العداء لكل الميليشيات خصوصًا القوات اللبنانية بسبب التواجد الجغرافي المتداخل المشترك وراحت تأخذ شكل الصدام الكلامي طورًا والمناوشات العسكرية احيانًا وبالرغم من ذلك فقد استمر عون متمسكًا بموقفه الرافض لانهاء دور القوات اللبنانية واعلن ذلك بشكل حاسم لدى المؤسسة العسكرية فرجح الموقف الذي يعتبر القوات كسائر الميليشيات والمسلحين الآخرين يزيلهم مشروع سياسي وطني واحد يشمل لبنان كله".

(فايز القزي-"من ميشال عفلق الى ميشال عون" ص 161)

 

لكن جدية العلاقة مع السوريين كانت مرتبطة بدعم السوريين لوصول عون لرئاسة الجمهورية فالعماد عون وضباطه كانوا يسعون للوصول الى السلطة حيث يمكنهم تنفيذ مشروعهم ولو كلفهم ذلك تنازلات ووعود للسوريين ولكن فاتهم ان السوريين في مكان آخر وهم ان سعوا للقضاء على القوات اللبنانية فذلك لا يعني ابدًا تسليمهم البلد لمن لا يؤمن بأن لبنان هو القطر المسلوخ عن سوريا وهنا ظهر العسكر اللبنانيون كهواة سياسة في مواجهة احد ابرز الشخصيات السياسية المخضرمة في القرن المنصرم حيث تمكن الرئيس حافظ الاسد من التلاعب بهم فأخذ منهم كل ما يريده مقابل لا شيء ويتابع الاستاذ قزي:

 

" استقرت العلاقة بين عون وسوريا على شبه تفاهم وشبه مشروع نتيجة الوعود المتبادلة التي لم تتحول الى عهود وفي فترة من الزمن كانت تقع في ارتجاج موزون يتعالى طورًا ويهبط احيانًا ولكنه بقي في حدود التعامل الجاد دائمًا والامل شبه المترجم الى الواقع احيانًا اخرى وكدنا نقتنع بأن العلاقة باتت شبه مكتملة وان القليل من الوعود التي اوحى بها عون وأخرجناها نحن كوسطاء بصيغة عامة تكفي للحصول على الموقف السوري الايجابي المؤيد لسلطة عون السياسية من دون البحث في تفاصيل العلاقة وبقيت الضبابية السياسية دائمًا هي المناخ الغالب على العلاقة بين عون والسوريين وكأنها الصيغة المرتجاة من الطرفين وان كنا قد مررنا بمراحل واوقات حسبنا اننا بلغنا الهدف في هذا السباق المحموم لا سيما مع نهاية ولاية امين الجميل.

 

وكان لمحسن دلول دور اساسي برعاية هذه العلاقة فبواسطته اجتاز عون تجربة خطف طائرة الهيليكوبتر الى حمانا من قبل الضابط ماجد كرامه الموالي لوليد جنبلاط من دون ان تسقط الوعود السورية لعون دون ان يتورط عون في حملة عسكرية مجهولة ضد المختارة، لكن اعلان ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية فاجأنا ولم نع خطورته وأبعاده الا عندما أعلنت سوريا تأييدها له وطلبت منا اقناع عون بالتضامن مع موقفها". (فايز القزي-"من ميشال عفلق الى ميشال عون" ص 162)

 

وحيث ان الاستاذ القزي تحدث عن وعود ورسائل بين الجنرال والسوريين دون ان ينشر تلك الرسائل ما يضفي نوعًا من الضبابية على تلك الوعود ما يجعلنا نعتمد على مصادر غير قريبة من الجنرال لنطلع على مضمون تلك الرسائل بانتظار ان تنشر من قبل الجنرال او الاستاذ القزي او من قبل السوريين انفسهم وبانتظار ذلك نقرأ للاستاذ جوزف حداد رئيس "جبهة الشعب" القريبة من السوريين في مجلة الشراع الاسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 2006 بأن اللواء غازي كنعان اطلعه على رسالة خطية موجهة من العماد عون \05\29 للسوريين يتعهد فيها الجنرال بإنهاء حالة القوات اللبنانية على الساحة المسيحية وبسط سيطرته على المنطقة الشرقية وبعدها الانطلاق من الشرقية للعمل على ضبط إيقاع المنطقة الغربية.

 

كما نقرأ للكاتب بول عنداري في كتابه "هذه شهادتي" ص 272 رسالة موجهة من الجنرال الى الرئيس الاسد وجهها صيف عام 1988 ، اكتفي بايراد بعض ما جاء فيها دون تعليق حيث ان كلماتها تعبر عن نفسها:

 

"انني عسكري، وبهذه الصفة فانني اتمنى ان يعتبرني القائد الكبير حافظ الاسد ضابطًا صغيرًا في جيشه (...) وانا قد عايشت الازمة واقدر كل التقدير ما قدمته دمشق للبنان عامة وللمسيحيين خاصة وواجبي اذا ما حظيت بتأييدها فوصلت ان ارد لها الجميل.انني اتفهم مصالح سوريا في لبنان واسلم بأن امن لبنان من امن سوريا وعلى هذا فأنا مستعد لان اقدم اي تعهد يطلب مني لضمان امن سوريا في لبنان وانطلاقًا منه ان سوريا تخشى ان يفيد العدو الاسرائيلي من الخاصرة الضعيفة في لبنان ومن حق سوريا علينا ان نوفر لها اسباب الطمأنينة وان نشرع وجودها العسكري في لبنان لمواجهة اي اعتداء محتمل عليها كذلك انا مستعد لعقد اي اتفاقات امنية اضافة الى تمتين العلاقات المميزة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية كلها. اعرف بحكم موقعي ان لسوريا خصوما يناهضوها ويشاغبون على امنها في لبنان وفي هذا المجال انا مستعد لان اقطع دابر جماعة عرفات ومستعد لان ارسل جماعة العراق الى دمشق معلبين في صندوق السيارة".

 

ترشيح السوريين لسليمان فرنجيه كان بمثابة الضربة القاضية لطموحات العسكر فاستلام السلطة كان اساسيًا في مشروعهم وقد وضعوا الخطط اللازمة لتنفيذ ذلك لا بل اكثر فقد ابلغوا من يعنيهم الامر انهم من سيتسلم السلطة بعد انتهاء ولاية الرئيس الجميل فنقرأ في كتاب "ويبقى الجيش هو الحل" عن الخطة لاستلام السلطة وعن الطريقة "الغير شكل" (العبارة وردت في الصفحة 252 ) التي ستعتمد فقد ورد في الصفحة 254 ما يلي:

 

"(...)كيف ستكون تجربة الجيش الجديدة لجعل 23 ايلول 1988 بداية حل(...)؟

 

أ-احترام الولاية الرئاسية الحالية حتى الساعة 24 من تاريخ 22 ايلول 1988 مهما تكن الصعوبات والضغوط.

 

ب-عدم اجراء انتخابات رئاسية للحيلولة دون مجيء رئيس تسوية واطالة عمر الازمة ست سنوات اخرى والاستعاضة عن ذلك بتشكيل قيادة سياسية جديدة باحدى الطريقتين:

 

-الاولى على طريقة 18 ايلول 1952 اي ان يشكل رئيس الجمهورية حكومة عسكرية قبل انتهاء ولايته يسلمها السلطة والكاملة.

 

-الثانية ان يشكل الجيش قيادة عسكرية سياسية تتسلم السلطة عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، او في اي وقت تخلو فيه سدة الرئاسة، او تشكل حكومة انتقالية من السياسيين، او حكومة او حكومات امر واقع.

 

ج-في حال تقرر بشكل جدي اجرء الانتخابات الرئاسية يجب العمل على ايصال رجل عسكري يحظى بتأييد الجيش ومحبته وثقته وعند تعذر وصول هذا العسكري دعم مرشح غير عسكري ولكن يحظى بثقة الجيش ويتعهد باتباع الحل المقترح وترك يده حرة لتنفيذ هذا الحل" يظهر بوضوح من الخطة الموّثقة ان الض?باط قد اخذوا قرارهم بالقبض على السلطة فلم يحصل في التاريخ اللبناني ان جاهر الجيش بنيته لاستلام السلطة فالمعلوم ان الجيش يخضع للسلطة السياسية ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول تكليف الرئيس الجميل للعماد عون بترؤس حكومة عسكرية انتقالية فهل كان ذلك بارادته؟ ويكفي ذكر الحادثة التالية لتبيان القرارالمتخذ بالقبض على السلطة فقد ورد في كتاب "الخيارات الصعبة" لمستشار الرئيس الجميل 515 ما يلي: - آنذاك الاستاذ ايلي سالم في الصفحات 514

 

"دخل عون الى مكتبي وقال لي انه عازم على تسلم السلطة اذا لم يجر انتخاب رئيس، لانه لا يستطيع ان يعرض الجيش للفوضى التي تنشأ في اعقاب ذلك، سألته: كيف ستفعل ذلك؟ فقال: سأستولي على القصر الجمهوري وجميع المكاتب الحكومية في المنطقة الشرقية. ثم اضاف يجب ان يظل الجيش موحدًا وان تبقى الشرعية في ايد امينة، سألته: هل يذكر لي ذلك كي انقله الى الرئيس، فقال،اجل اذا شئت ذلك.وحين قلت ذلك للرئيس بدا غير قلق وكان رده:"لن يجرؤ على ذلك" دليل اضافي على نية الجنرال بالقبض على السلطة كان مساهمته في تعطيل الانتخابات الرئاسية وان كان للقوات اللبنانية الدور الكبير في منع انتخاب الرئيس فرنجية على خلفية العلاقات السيئة بينهما الا ان واجبات الجيش كانت تقضي بتأمين الظروف الامنية الضرورية لتلك الانتخابات لكن تقاطع المصالح مع القوات في شأن معارضة وصول فرنجية حدى بالعماد عون لارسال اثنين من كبار ضباطه هما عادل ساسين وفؤاد الاشقر لمقابلة الدكتور جعجع ونقل الرسالة التالية:

 

" اطلب ما تريد لكن اوقف الانتخابات. فرد جعجع "سلموا لي على الجنرال وقولوا له خلص ما يعتل هم".

(سركيس نعوم :"ميشال عون حلم ام وهم" 1992 ص 49)

 

لكن فات الاثنين ان سوريا كانت قد رشحت الرئيس فرنجيه ليتلهوا بمعارضته بينما هي تفاوض الاميريكيين على مخايل الضاهر فيما كان العماد عون يراهن على الخلاف الاميريكي السوري وعلى قدرته على منع اي عملية انتخابية لا يكون هو الرئيس بنتيجتها كما كان خياره الآخر باستلام الحكومة الانتقالية جاهزًا متى سقط خيار التسوية مع السوريين فكان ان ارسل فايز القزي مجددًا الى سوريا ونقرأ في الصفحة 169 من كتاب القزي ما يلي:

 

"غادرت منزل رفيق الحريري في دمشق لمقابلة ابو جمال مترددًا بنقل الرسالة الاخيرة له من ميشال عون بأنه يتطلع الى التفاهم معهم على موضوع الرئاسة حتى وان كان هذا التفاهم مخالفًا للأميريكيين وعندما سمع ابو جمال هذا الكلام مازحني "ريتك جيت قبل ساعة فلقد تأخرت وتم الاتفاق مع الاميركان على ترشيح مخايل الضاهر" وأضاف هذه المرة:"نرجو ان ينضم الجنرال الى الاتفاق فان كان صادقًا بوعده لنا بالتأييد حتى ضد الاميريكيين فان اضعف الايمان ان يقف الى جانبنا وقد توحد الموقف".

 

مرة جديدة رأى العماد عون نفسه في مواجهة الخيار السوري في مرحلة من التقارب الوثيق بينهما فوقف محتارًا بين مواجهة سوريا وقطع العلاقة معها فيسقط مشروعه لتولي رئاسة الجمهورية وبين التماهي معها ودعم مرشحيها الرئاسيين فيسقط مشروعه السياسي فاختار الخيار الاول في سابقة معبرة حيث اصدرت قيادة الجيش بيانًا عنيفًا عارضت فيه الاتفاق الاميريكي السوري حاسمة فيه تحول الجيش الى حالة خاصة مستقلة بذاتها وغير خاضعة للسلطة السياسية في خطوة متقدمة للقبض على السلطة انما من خلال حكومة عسكرية يصح فيها كل قول الا ان يقال انها كانت وليدة الربع ساعة الاخير فنقرأ مرة جديدة في كتاب الاستاذ قزي في الصفحة 178 ما يلي:

 

"ذهبت توًا بعد زيارة الحسيني الى مقابلة العماد عون وبلغته الحوار وعندما عرضت له تصور الحسيني له رئيسًا للوزارة ينهي كل اشكال لمحت في عينيه بريقًا كنت المحه كلما كان على وشك اتخاذ قرار او موقف كبير وشعرت انه واثق ومطمئن للنتائج ولا ادري حتى الآن مدى تأييد الايحاء الذي تركته لدى الجنرال موافقة الحسيني المسبقة على فرضية استلامه رئاسة الوزارة.

 

ولعل هذا المدخل الى السلطة الذي لم يكن متوقعًا من قبل الجميع كان في خلفية الجنرال ومن بدائله المحتملة والمدروسة".

 

ولعل ما حصل في تلك الليلة الاخيرة من عهد الرئيس الجميل سيبقى لغزًا معقدًا يحتاج فكه فك عقد بعض الالسنة سيما ان الرئيس الجميل كان من اشد المعارضين لتوزير العماد عون فكيف بتسليمه البلاد وقد وافق الرئيس الجميل وعلى مضض وذلك قبل يوم واحد من انتهاء ولايته على ما كان يقترحه الدكتور جعجع بتوزير الجنرال عون في حكومة مدنية وذلك لتفادي الصدام بينهما وتصريح الاستاذ كريم بقرادوني لبرنامج "حرب لبنان" الفصل السابع والذي عرض على قناة الجزيرة يؤكد هذه الواقعة لكن الابرز في هذا الاطار كان ما قاله رئيس جهاز المخابرات في تلك الحقبة العقيد سيمون قسيس للكاتب انطوان حول موافقة النواب المسلمين المقيمين في المنطقة الشرقية لدخول حكومة انتقالية مدنية (ورد هذا الامر ايضًا في كتاب سركيس نعوم "ميشال عون حلم ام وهم” ص 58)

 

كما يتساءل العقيد سيمون قسيس عن امرين : " لماذا غير الرئيس الجميل رأيه في غضون اثنتي عشرة ساعة في العماد عون؟ اذ بعد اكثر من شهر من النقاش مع الدكتور سمير جعجع حول ضرورة مسألة توزير الجنرال وافق قبل ليلة واحدة على اسناد وزارة الى العماد عون في الحكومة الانتقالية ولكن مع تعيين قائد جديد للجيش.وكان يرفض في السابق مجرد اقتراح اسمه فكيف يصدر قرارًا بتعيينه رئيسًا للحكومة الانتقالية ولماذا؟ ولماذا ايضًا وافق الضباط المسلمون على المشاركة في الحكومة الانتقالية ثم قدموا استقالاتهم؟ الم يكونوا يعلمون ان ضغوطًا ستمارس عليهم للاستقالة؟ انا اعرف الجواب على السؤالين ولكن الوقت لم يحن بعد لقول كل شيء، ثمة اوان لكل أمر".(انطوان سعد- "السادس والسبعون" الجزء الاول ص 167)

 

وبانتظار ان يأتي الاوان المناسب لتوضيح كيفية "اقناع" الرئيس الجميل بالموضوع يبقى الامر في خانة التحليل والاستنتاج لكن الواقع انه مع نهاية هذه الحقبة كان مشروع "ويبقى الجيش هو الحل" قد قبض على السلطة وان من خلال حكومة انتقالية كانت كافية في تلك المرحلة لبدء تنفيذ مشروع مكلف جدًا جدًا.

 

1989 حرب التحرير - مرحلة 1988

 

بدأت هذه المرحلة مع تسلم العماد عون لرئاسة حكومة عسكرية جمعت الى جانبه ضابطان مسيحييان وذلك بعد ان انسحب الضباط المسلمون المكونون للمجلس العسكري وبدأ عملية "تنقية الجيش" من الضباط "غير الموثوقين" وقد ابعد عن المواقع الحساسة الضباط المقربون من القوات اللبنانية ومن الرئيس الجميل بالرغم من ان العلاقة مع الدكتور جعجع في حينه كانت جيدة لكن المشروع المنوي تنفيذه كان يتطلب ضباطًا كاملي الولاء وقد صًنف الاستاذ قزي في كتابه الضباط المقربين من القوات بأنهم خارجون عن المناقبية العسكرية غير مدرك ان الجنرال عون كان ينتمي الى هذه الفئة في مرحلة سابقة وقد اورد القزي في الصفحة 183 ما يلي :

 

" ففي مجال تنظيم المؤسسة العسكرية اجرى تشكيلات فورية... اما داخل المؤسسة العسكرية فلم يكن الجنرال بحاجة الى اجراء الكثير من التعديلات بل كان يكتفي بابعاد بعض الرموز المناهضة له وذات اللون الفاقع وعلى الاخص الضباط الذين خرجوا عن المناقبية العسكرية وانحازوا في ممارسة عملهم العسكري الى القوات اللبنانية والميليشيات الحزبية او الرئيس امين الجميل شخصيًا...".

 

مع انقسام البلد بين حكومتين على اثر رفض المسلمين الانخراط والاعتراف بالحكومة العسكرية واعترافهم بحكومة الرئيس الحص تحرك العرب في محاولة لتسوية الامور وايجاد مخارج للازمة المتفاقمة فكان ان دعيت الحكومتين الى لقاء مع اللجنة العربية يعقد في تونس لكن اللافت هناك كان الاهتمام الكبير بالعماد عون ومرد ذلك الى دعم العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية له والتي توجت بلقاء مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ما جعل العماد عون يسقط في فخ الانتصار الوهمي ويبدأ مباشرة بعد عودته من تونس بتوجيه رسائل للعرب والاميريكيين حول قدرته على ضبط الامور على الارض وبالتالي تأمين الدعم له ولمشروعه غير مدرك ان الدعم الذي حظيه في تونس كان مجرد رسالة الى السوريين في حسابات المصالح الاميريكية وليس تأييدًا للعماد عون للسير قدمًا في مشروعه فاندلعت على اثر تونس اشتباكات بين الجيش والقوات بما عرف بمعركة 14 شباط وتحت حجة اشكال قواتي مع ضباط المغاوير في فاريا ونقرأ في كتاب القزي في الصفحة 199 ما يلي :

 

"لم يعد العماد عون من تونس مزهوًا بالانتصار المعنوي الذي احرزه بوجه خصومه الداخليين في لبنان فحسب بل بوعد عربي قوي وايحاء اميريكي ايضًا برز اثرهما في القرارات التي بدأ ينفذها على الارض...". كما يبرز وبوضوح في كتاب "السادس والسبعون" للكاتب انطوان سعد خلفية معركة 14 شباط التي انتهت باقفال الحوض الخامس التابع للقوات اللبنانية في رواية للمطران ابو جوده : في الصفحة 210

 

"في الثالث من نيسان 1989 وعلى الرغم من القصف المتواصل على المناطق السكنية(حرب التحرير) توجه المطران ابو جوده الى قصر بعبدا بتكليف من البطريرك صفير لمقابلة العماد ميشال عون ....وكشف العماد عون ان بعض السفراء طلبوا منه استرداد مرفأ بيروت(الحوض الخامس) للموافقة على قرار اقفال المرافىء غير الشرعية." كانت تونس الفخ الاول الذي يقع فيه الجنرال ومشروعه فدخل في صدام مع القوات اللبنانية على خلفية وعود باقفال المرافئ غير الشرعية في المنطقة الغربية لكن العكس هو الذي حصل فكان تنصل من الاتفاق الذي كان الرئيس الحص جزء منه لكن الاخطر كان في معاودة الاتصال بين السوريين وعون بعد ان سدد ضربة موجعة لألد اعدائهم في لبنان ومرة جديدة توهم عون ان هذه العلاقة ستخدم مشروعه الا ان السوريين كانوا ينوون استخدامه للقضاء على القوات اللبنانية ووصل الامر بالسوريين الى توجيه رسائل متناقضة للجنرال مغزاها انهم يؤيدون وصوله لرئاسة الجمهورية لكن العقدة تأتي من جانب القوات اللبنانية ويبدو ان العماد عون تنبه للامر لكنه كان قد اصبح محاصرًا بغضب قواتي نتيجة لمعارك 14 شباط كما بحصار بحري من قبل حلفاء سوريا نتيجة قراره باقفال مرافئهم غير الشرعية فكان للفكر العسكري دوره في الخروج من هذه الدوامة بالهرب الى الامام عبر اعلان حرب التحرير في 14 آذار 1989 ونقرأ في كتاب الاستاذ قزي عن تلك المرحلة ما يلي:

 

" كنت (الاستاذ قزي) في تلك الفترة الممتدة من 14 شباط حتى 14 آذار كلما التقيت عون تعمد ان يفهمني مباشرة أو مداورة أن العلاقة مع سورية عادت اليها الحرارة باتصالات مختلفة يقوم بها اصدقاء عديدون لكن ذلك لم يحفزني على اعادة احياء وساطتي بل آثرت عدم السقوط في تجربة أخرى فأنا اصبحت متيقنًا منذ تسلم الجنرال السلطة ان العلاقة بين الرجل وسوريا مستحيلة كما يفهمها هو وكما يريدها السوريون لكن اصحاب الوساطات والمتبرعين كان عددهم يفوق بكثير حجم الحاجة او الطلب ومهما سقط منهم خلال التجربة كان الباقي وحده كافيًا لخلق الوهم بأن الوساطة كانت مستمرة، وكان لبعض الضباط المقربين من عون امثال فؤاد الاشقر وعادل ساسين الدور الاهم في ذلك نظرًا لعلاقتهم الخاصة مع ميشال المر الوسيط الحاضر دائمًا لاي مسعى تجاه سوريا.

 

كنت شخصيًا قد انقطعت عن زيارة دمشق التي لم تعد تبدي لي اي اهتمام بملف المهجرين ملفي الاساسي معها بعد انهيار الوساطة مع الجنرال عون.فاستنكفت عن زيارة دمشق لأشهر امضيتها في باريس وعيني وقلبي على هذه العلاقة المستحيلة وصادف أن جئت لزيارة لبنان فقصدت الجنرال عون الذي بدا لي في بداية آذار 1989 شبه مطمئن الى تبدل الموقف السوري السلبي تجاهه ولم افهم هذا الشعور الا لاحقًا فبعد بضعة ايام من لقائي الجنرال التقيت الصديق رياض رعد واقترح علي ان ارافقه الى دمشق لنسافر الى باريس من هناك مع السيد رفيق الحريري وبعد وصولنا الى منزل الحريري في دمشق انتظرناه طويلا ولم يحضر بسبب قيام الرئيس الاسد بافتتاح قصر المؤتمرات الذي شيده الحريري على نفقته.  وقدمه هدية لسوريا في بداية آذار 1989 لكن الحريري لم يعد ذلك اليوم الى مسكنه بل انتقل توًا الى عمان على ان يعود بعدها الى الشام وفي اليوم التالي ذهبت انا ورياض رعد الى المطار في دمشق حيث استقبلنا الحريري العائد بطائرته من عمان.

 

وعندما رآنا توجه فورًا نحوي وبحركة ودودة اصطحبنا الى سيارته وقادها بنفسه باتجاه منزله في دمشق،جلست الى جانبه ورياض رعد في المقعد الخلفي،قال:"لن اذهب غدًا الى باريس لقد غيرت برنامجي وذلك مفيد لأنك يجب ان تنقل رسالة الى صاحبك" ويقصد الجنرال ميشال عون وببسمته المميزة ولهجته الصيداوية المحببة والمفعمة بالأسلوب المباشر قال:"روح خبر صاحبك هالمرة الرئاسة الو". وروى لنا ان الرئيس الاسد اصطحبه بعد الحفلة الرسمية في قصر المؤتمرات الى غداء خاص استمر من الثانية ظهرًا حتى السابعة مساء دار الحديث خلالها عن الانتخابات الرئاسية في لبنان.وقد اكد الرئيس الاسد "ان ميشال عون افضل المرشحين المؤهلين للوصول الى سدة الرئاسة فهو بالاضافة الى صفاته الاخلاقية ومميزاته العسكرية لم يقبل قيام اي علاقة او اتصال بينه وبين الاسرائيليين".

 

بدا الحريري مذهولا مندهشًا بكلام الرئيس الاسد وثنائه على عون فسأله مستفسرًا اذا كان ذلك يعني ان سوريا ستؤيده في طموحه السياسي فأكد الرئيس الأسد كلامه للحريري قائ ً لا:"يمكنك ان تنقل هذا الكلام عن لساني" فنحن نعتبره افضل المرشحين.

 

طبعًا كان هذا الكلام مفاجئًا لي و لرياض رعد الذي كان متعاطفًا دائمًا مع الجنرال عون رغم تأزم علاقته مع سوريا فلم ندخل الى منزل السيد الحريري بل عدنا فورًا الى بيروت حاملين رسالة رفيق الحريري مع تهنئته للجنرال بالرئاسة المؤكدة.

 

....وفي اثناء انتظارنا وصول السيارة لتنقلنا الى بيروت شعرت بيد تمسك بمنكبي من الوراء فالتفت فاذا بالعميد غازي كنعان يبادرني:"ولو بتروح على الشام،ولا تمر علي؟".اعتذرت منه مؤكدًا انني لم اكن في زيارة لدمشق بل في طريق العبور الى باريس وانا الآن عائد الى لبنان لتغير الرحلة ولم اطلعه يومها على رسالة الحريري الى الجنرال ولكنه اخذني جانبًا وحملني رسالة اخرى قال فيها:"لقد ارسلت مع شخص آخر الى صديقك الجنرال،ان يبقى متنبهًا متيقظًا ليوم الثالث عشر من آذار وقل له ان هذه المعلومة مهمة يستطيع هو ان يقابلها بمعطيات أخرى قد تتوافر لديه". وعندما اصررت عليه ان يوضح الرسالة اكثر قال لي :"أنت أخبره وهو يعرف ان القوات اللبنانية تحضر نفسها لمتابعة 14 شباط".عدت الى بيروت وتوجهت فورًا الى قصر بعبدا وأبلغت الجنرال تفاصيل الرسالتين كما سمعتهما.

 

ولم يكن احد سوى الجنرال قادرًا على اكتشاف الهدف الحقيقي من الرسالتين المتزامنتين، هل كان ذلك ايحاء بخطة ما تقضي بتلويح قبوله رئيسًا مقابل دفعه الى صدام مع القوات اللبنانية وتصفيتها بعد توقف معركة 14 شباط؟ ام كانت رسالة سورية الى اميركا بالتعاون مع عدوها ميشال عون لاقحامه في لعبة التصارع الاقليمي والمصالح الدولية؟

 

في هذا الوقت كان ميشال عون وبعد الصدام بينه وبين القوات قد وضع مشروعًا يعيد هيبة الدولة ولو نسبيًا تجاه الميليشيات وقد سربه الى سليم الحص عبر قنوات خاصة.وتم التوافق على اقفال المرافئ غير الشرعية التي كانت مصدرًا للشكوى المحلية والدولية وبوابة الحرب والجريمة.

 

بدلا من ان يفيق لبنان في 13 آذار على صدام بين الجيش والقوات كما رسم سابقًا وكما توقعته رسالة العميد غازي كنعان،قرعت الميليشيات والقوى في المنطقة الغربية طبول الحرب ضد ميشال عون اذ راحت قذائف متفرقة تتساقط يوميًا ابتدا ء من 6 آذار على مرفأي بيروت وجونيه دون ان يرد الجيش اللبناني على هذه القذائف حتى صبيحة 14 آذار،في هذا اليوم تساقطت فجأة قذائف مدفعية مجرمة على مستديرة الاونيسكو فحصدت عددًا كبيرًا من المدنيين الابرياء وجاء الرد سريعًا ومبرمجًا بقصف وزارة الدفاع حيث اصيب مباشرة مكتب الجنرال عون الذي بادر الى تسمية هذه الحرب ب "حرب التحرير" مختصرًا بذلك المسافات السياسية بينه وبين السوريين معلنًا انقلابه النهائي على هذه العلاقة التي بدت له ممكنة قبل ايام وبدت لكثيرين غيره انها واعدة ومتحققة حتى يوم الانفجار في 14 آذار وهي في الحقيقة والواقع علاقة مستحيلة.

 

لم يكن لميشال عون اي شريك او حليف في هذه الحرب لو لم تبادر القوات اللبنانية الى اللحاق بموقفه دفاعاً عن المنطقة الشرقية متجاوزة الآثار السلبية التي تركتها معركتها مع الجيش في 14 شباط".

( 214- فايز القزي-"من ميشال عفلق الى ميشال عون" ص 208)

 

على اثر اعلان حرب التحرير تأزمت علاقة الجنرال مع بكركي التي رأت فيها انتحارًا في ظل ميزان قوى مختل وفي توقيت خاطئ جدًا ودون تنسيق مع اي من الجهات الدولية التي 1990 سيما ما - كانت بمعظمها تعارض هذه الحرب وفي تقييم بكركي لاحداث سنتي 1989 يتعلق بحرب التحرير نقرأ التالي:

 

" وجاءت حرب التحرير وقد اعلنها دون استشارة احد من الناس.فاتصل غبطته بكل المراجع الدولية طالبًا النجدة فأجابت انها مع لبنان ووحدته وسيادته واستقلاله بحدوده المعترف بها دوليًا.وسأل غبطته بعد ذلك العماد عون-والمعارك حامية-علام يتكل لمواجهة الجيش السوري فأجاب:هناك وراء الخطوط السورية ثلاثة الاف مجموعة ستهب للمساعدة لاخراج السوري. وهي مجهزة تمامًا. ولم يتحرك احد.وكان خراب وقتلى وهجرة وتهجير.فكيف الامكان الموافقة على هذه الحرب وهي خاسرة مسبقًا لعدم تكافؤ القوى؟ افما قال السيد المسيح اي ملك يذهب لمحاربة ملك آخر بعشرة آلاف؟...وقيل بعدئذ:ليس المقصود دحر الجيش السوري بل لفت نظر العالم الى القضية اللبنانية وحمله على الاهتمام بها.واهتم العالم باسره: الولايات المتحدة والمجموعة الاوروبية والمجموعة العربية وحتى المجموعة الدولية.فقادنا هذا الاهتمام الى الطائف.حرب التحرير هي التي افضت بنا الى الطائف" (السادس والسبعون-الجزء الاول" ص 321)

 

تزايد العنف والهجرة وانسداد الافق دفع بالبطريرك الى السعي لمبادرة ما فكان ان دعى الى لقاء نيابي يعقد في بكركي وانتهى الى اصدار بيان يدعو فيه الى وقف لاطلاق النار فكانت المواجهة الاولى بين عون وبكركي فمنطق "الامر لي" لا يتقبل رأيًا آخر وشعار التحرير لا يقبل وقفًا لاطلاق النار فهل يجوز وقف اطلاق النار اثناء التحرير من الاحتلال؟

 

شعارات رنانة تحكمت بالناس التواقين الى تحرير بلدهم لكن ما يراه البطريرك لا يراه المواطنون المأخوذون بشعارات التحرير فالواقع انها كانت حرب استنزاف يتبادل فيها الطرفان اطلاق النار على الارض اللبنانية دون اي محاولة تقدم عسكري على الارض كما ان المناطق الشرقية محاصرة والمواد الاولية تكاد تختفي والهجرة المسيحية تتفاقم بالرغم من القصف المتواصل على البواخر فكان اجتماع بكركي المواجهة الاولى التي ستليها مواجهات اشد واعنف بين منطق العقل والحسابات الدقيقة وبين منطق الانتحار تحت شعار "الجيش هو الحل".

 

ونتابع القراءة في سيرة البطريرك عن تلك المرحلة :

" رأى البطريرك الماروني انه لا بد من محاولة اطلاق مسعى جديد يؤكد على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها سيادة لبنان واستقلاله وفي الوقت نفسه يفتح افقًا جديدًا.فدعا النواب المسيحيين الى اجتماع في بكركي في الثامن عشر من نيسان 1989 .شكل هذا اللقاء الاصطدام الاول بين البطريرك الماروني والعماد ميشال عون غير ان هذا الاصطدام لم يكن مباشرًا وفضل الجنرال ان يكون عبر النواب الثلاثة والعشرين الذين حضروا اللقاء.وقد تعرض بعضهم لتهديدات واستهدفت مكاتب بعضهم الآخر بالحجارة او بالحرق".

(الكاتب انطوان سعد "السادس والسبعون-الجزء الاول" ص 216)

 

" احصت صحيفة لوريان لو جور بعد ثلاثة ايام على انعقاد اجتماع الثلاثة والعشرين نائبًا مسيحيًا ثلاثة وعشرين تظاهرة معارضة في بكركي معظمها اتى من كسروان وقد اطلق المتظاهرون شعارات قاسية ضد النواب وهتافات مؤيدة للعماد عون .فرد البطريرك صفير بموقف رفض فيه اسلوب التعامل معه ومع النواب.وبعد ان جدد تمسكه بسيادة الدولة اللبنانية،توجه الى المتظاهرين بالقول :"نحن نعيش في بلد ديمقراطي هذا يعني ان كل فئة من الشعب يحق لها ان تعبر عن رأيها(...) بالفوضى تضيع الامم.وليس بالشعارات الغوغائية يعاد بناؤها.لا يحق لكم ان تملوا علينا رأيًا ايًا كان هذا الرأي.ونحن نعلم ما نريد".

(الكاتب انطوان سعد "السادس والسبعون-الجزء الاول" ص 221)

 

1000 قتيل، 3000 جريح و 300000 مهجر ومهاجر نتيجة لحرب التحرير ودمار لم يعرفه لبنان سابقًا ولم يتحرر شبر واحد فتدخل العرب وخلفهم الاميريكيون وطرحوا مبادرة من سبعة بنود تولى الموفد الجزائري تسويقها وبعد اخذ ورد وافق الافرقاء اللبنانيون على المبادرة العربية بما فيهم العماد عون وتضمنت البنود السبعة بندًا يتعلق بمنع ادخال السلاح الى المتقاتلين كما تضمنت بندًا يدعوا الى ذهاب النواب الى الطائف ليتفقوا حول مشروع حل قائم على معادلة الانسحاب السوري (مطلب المسيحيين) مقابل الاصلاحات الدستورية (مطلب المسلمين)

 

وذهب النواب المسيحيون الى الطائف بعد ان عقدوا اجتماعًا مع العماد عون كما لاقاهم النواب المسلمون وبدأت المناقشات وكان العماد عون يتابع تطور الامور من خلال المهندس داني شمعون الذي كان على اتصال مباشر بكل من النواب بيار دكاش وميشال ساسين المحسوبين على حزب الاحرار وتوصل النواب الى تسوية بين الاطراف المتنازعين تنهي القتال وتحل الميليشيات كما تنص على سلسلة من الاصلاحات الدستورية لمصلحة المسلمين وتنص ايضًا على جدولة الانسحاب السوري باتجاه البقاع في مدة سنتان من تاريخ اقرار الاصلاحات وترك امر الانسحاب النهائي للحكومتين على ان يجتمعا بعد سنتين ويحددا عدد الجنود ومدة بقائهم في لبنان.

 

طبعًا لم تكن تسوية الطائف هي المرتجى بل كانت الحد الادنى المطلوب لكن في ذلك الزمن ومع وجود سوريا واسرائيل والفلسطينيين وحراس الثورة الايرانية في لبنان كما مع وجود عشرات الميليشيات ومناطق النفوذ لم يكن بالامكان افضل مما كان فللمرة الاولى تلوح في الافق فرصة ليتنفس اللبنانيون الصعداء علهم يتمكنون من بناء دولة طال انتظارها وان لم تكن دولة الطائف على قدر الطموحات لكنها بالتأكيد افضل من الوضع الذي كان قائما .ًمعظم الافرقاء اللبنانيين كانت لهم تحفظاتهم لا بل معارضتهم الشديدة سيما عند الطائفة الشيعية وبالرجوع إلى أرشيف الصحافة لتلك الفترة، نجد اتفاق الطائف، في نظر معظم الأصوات الشيعية، "اتفاقًا مارونيًا، ومؤامرة خارجية، ونسخة منّقحة من اتفاق 17 أيار، ومجرد اتفاق لوقف النزاع المسّلح يمكن الالتزام به اضطرارًا، إنما ينبغي العمل بكل الوسائل المتاحة لإسقاطه أو تغييره...". هذا الموقف يظهر بوضوح من خلال تصريحات وبيانات لكل من  على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ نبيه بري رئيس حركة أمل آنذاك

 

 (النهار 1989 )؛ السيد محمد /11/ 1989/10/21 )؛ المجلس المركزي لحركة أمل النهار 3)

؛(1989/11/ 1989 )؛ السيد حسن نصرالله (النهار 5 /11/ حسين فضل الله النهار 4)

1989 )؛ الشيخ صبحي الطفيلي  أمين عام حزب /11/ السيد عباس الموسوي النهار 14)

.(1991/3/ الله آنذاك السفير 7)

 

وهذه عينة من المواقف الداخلية والدولية من الاتفاق مستقاة من عناوين لصحيفة النهار في تلك المرحلة وبالامكان قراءتها على الموقع الالكتروني للتيار الوطني الحر على العنوان التالي :

 

http://www.tayyar.org/files/documents/events.pdf

 

(1989\10\ حزب الله : سنمزق اتفاق الطائف 13)

(1989\10\ بري :غير معنيين بالطائف والقبول به خيانة 20)

(1989\10\ واشنطن اشادت باتفاق الطائف  23)

(1989\10\ البطريرك صفير:اتفاق الطائف اهون الشرور 24)

(1989\10\ الاتحاد السوفياتي وايطاليا والامارات وتركيا ايدوا الطائف 26)

(1989\10\ المانيا الاتحادية :الطائف مرحلة للسلام 30)

(1989\11\ بيان مشترك للدول لخمس الكبرى رحب بالطائف وايد السيادة التامة 01)

(1989\11\ حزب الله : الطائف استسلام للمارونية السياسية واسرائيل  12)

(1989\12\ باريس تدعم الطائف وتؤيد الهراوي 11)

 

أما تعليق العماد عون على تأييد المجتمع الدولي لاتفاق الطائف فكان :

عون: لسنا في حاجة الى اعتراف العالم بل العالم في حاجة الى اعترافنا

(1989\11\22)

 

لكن البطريرك صفير القارئ الممتاز للتوازنات والذي كان قد رفض قبل اشهر قليلة الاصلاحات التي طرحت في تونس في لقاء الرؤساء الروحيين وافق على اتفاق الطائف فالمناطق الحرة مطوقة ومدمرة والمسيحيون عصفت بهم الهجرة والمجتمع الدولي والعربي داعم للطائف باستثناء ايران وليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينبة حتى العراق وافق على اتفاق الطائف وكانت مواجهة الاتفاق بمثابة الانتحار لكن العماد عون جاهز دائمًا للانتحار فبعد موافقة البطريرك والقوات اللبنانية والجبهة اللبنانية برئاسة داني شمعون كما حزب الوطنيين الاحرار وحزب الكتائب عقد العماد عون مؤتمرًا صحافيًا مفاجئًا اتهم فيه النواب بالخيانة واهدر دمهم في سابقة غريبة عن اللبنانيين وبدأت حملة اعتداءات على بيوت النواب وممتلكاتهم فتراجع داني شمعون كما صمت كافة الافرقاء المسلمين المعارضين للاتفاق فاذا كان العماد عون سيواجه الاتفاق فلماذا يتكبدون عناء المواجهة؟

 

وساءت العلاقة مع بكركي التي انتقدت الاعتداء على منازل النواب لكن "الشعب" كان يحاسب الخونة ونكمل القراءة عن تلك المرحلة:

 

"في الثاني من تشرين الثاني زار البطريرك صفير بعبدا برفقة نائبيه العامين رولان ابو جوده وبشاره الراعي ... وفي معرض الحديث تطرق البطريرك صفير الى ما قاله له يومًا الكاردينال الاميريكي اوكونور عن تأثير اللوبي اليهودي على السياسة الاميريكية "ان الله،تمجد اسمه، لو رشح نفسه لرئاسة جمهورية الولايات المتحدة ولم يسانده اليهود لا ينجح" فقال عون:"لنتفق اذن مع اليهود". فقاطعه البطريرك بالقول: "كيف السبيل الى الاتفاق وهم الذين هجروا المسيحيين من الشوف ولا يزالون يحتلون الجنوب. ويعرفون ان ليس بين دول المنطقة دولة تزاحمهم غير لبنان لذلك خربوه".

 

فجر الرابع من تشرين الثاني وعند الساعة الخامسة الا ثلثًا اعلن العماد عون بصفته رئيسًا للحكومة الانتقالية قراره بحل مجلس النواب في مؤتمر صحافي نقلته تلفزيونات المنطقة الشرقية واذاعاتها مباشرة.

 

ابلغ السفير البابوي بابلو بوانتي البطريرك صفير بحضور نائبيه العامين ابو جوده والراعي ما ابلغه للعماد عون:"ان الفاتيكان ضد حلّ مجلس النواب وضد تقسيم لبنان. لقد دقت ساعة الحقيقة واختيار الشر الاهون هو الاسلم.الكرسي الرسولي يؤيد انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية واحياء المؤسسات الدستورية ولا حياد في هذا المجال".وطلب بوانتي من عون ان يعمل شيئًا ليعود عن قرار حل مجلس النواب."فحل المجلس غير قانوني" وبدا للسفير البابوي بأن عون تأثر بما سمعه منه.

 

في عظة الاحد الواقع فيه الخامس من تشرين الثاني لفت البطريرك الماروني الى اعمال العنف التي كان يقوم بها انصار العماد عون ضد مكاتب ومنازل النواب وكانت وسائل اعلام الجنرال تقول ان الشعب المستاء من مواقف النواب هو الذي يقوم بهذه الاعمال التخريبية.

(الكاتب انطوان سعد "السادس والسبعون-الجزء الاول" ص 268  - 269)

 

الخامس من تشرين الثاني 1989 يوم لن يمحى من ذاكرة اللبنانيين فبعد يوم واحد من قيام العماد عون بحل المجلس النيابي اجتمع المجلس في القليعات واقر البنود الاصلاحية من الاتفاق وانتخب النائب رينيه معوض رئيسا للجمهورية لكن الابرز يومها كان الاعتداء على البطريرك صفير الذي سيبقى علامة سوداء في تاريخ المسيحيين مهما طال الزمن.

 

 

الاعتداء على البطريرك

 

تعددت الروايات حول ما حصل تلك الليلة لكن البطريرك يبقى الادرى والاعرف فهو المعني المباشر بما حصل وقد ضمن سيرته التي كتبها الاستاذ انطوان سعد بعضًا من المعلومات الدقيقة والقيمة التي لا تترك مجالا للشك حول هوية المحرضين والمعتدين. ما حصل في مساء ذلك اليوم المشؤوم كان قد بدأ قبل ذلك وتحديدًا قبل تولي العماد عون رئاسة الحكومة الانتقالية بقليل:

 

"توجه وفد من فريق عمل العماد ميشال عون من بينهم من سيصبح رئيس المكتب المركزي للتنسيق روجيه عزام واوضح الوفد للبطريرك صفير ان انتخاب رئيس للجمهورية بات صعبًا للغاية ان لم يكن مستحيلا وان الجيش اللبناني سيحل مكان السلطة السياسية المنتهية ولايتها. واقترح فريق عمل الجنرال عون ارساء قاعدة تعاون بين البطريركية المارونية والجيش اللبناني الممسك بالسلطة السياسية لتمرير فترة الفراغ الدستوري على خير رد البطريرك الماروني على ما طرح عليه بدعوة الجميع الى صب الاهتمام الاول والاخير على تسهيل اجراء الانتخابات الرئاسية والابتعاد عن كل مغامرة من شأنها ان تعرض وحدة لبنان للخطر.شعر الوفد ان البطريرك ليس متحمسًا للتجربة التي سيخوضها مع العماد عون من قبل ان تبدأ،ولمس بوضوح ميله الى عدم تأييد وصول رجل عسكري الى السلطة. واعتبارًا من ذلك اللقاء استبعد فريق عمل الجنرال كل امكانية اتكال على البطريرك الماروني لانجاح مشروعه،ورأوا ان الاهتمام يجب ان ينصب على تحييده وتجنب عرقلته" .

(الكاتب انطوان سعد "السادس والسبعون-الجزء الاول" ص 176)

 

1989 اعده فريق عمل العماد عون موقعًا من العميد -10- وفي تقرير مؤرخ في 11 الركن فؤاد عون والسيدين روجيه عزام ووليد فارس ونشرته مجلة الشراع اسابيع قليلة بعد الاعتداء على بكركي وفي التقرير خطة تحرك مقترحة حددت "آلية التنفيذ" يتم بموجبها "فرز القوى الموجودة في المناطق المحررة بحيث يعمل على عزل المعارض منها ومحاولة التفاهم معه او ضربه تمهيدًا للخروج بقرار سياسي موحد". ما يتعلق بالبطريرك صفير ورد في الفقرة أ ويتضمن:

 

"أ-البطريرك الماروني نصرالله صفير: اننا نعتقد ان البطريرك صفير سيعارض هذه الخطة لاسباب تتعلق بسياسة الفاتيكان الذي يحرص على استمرار التعايش المسيحي- الاسلامي بمقدار ما يحرص على بقاء الوجود المسيحي في لبنان آمنًا وحرًا. لذا نقترح القيام بمحاولة اخيرة معه بغية اقناعه عن طريق بعض المقربين في بكركي امثال المطران رولان ابو جوده وفي حل فشل هذه المحاولة اتخاذ خطوات تصعيدية تؤدي الى:

 

-اجبار البطريرك على تبني مشروعنا والا ترحيله عن المناطق المحررة:يمكن ان يستتبع هذه الخطة ضغط على المطارنة لانتخاب مجلس بطريركي او ما شابه يكون ممثلا لتطلعات المسيحيين الحقيقية". كما يتضمن التقرير الذي نشرته الشراع فقرات تتعلق بالقوات اللبنانية وباحزاب الجبهة اللبنانية كما اقتراحًا بحل مجلس النواب.لكن في تفاصيل الاعتداء نترك للبطريرك ولمعاونيه كما لبعض المقابلات التي اجراها كاتب سيرة البطريرك لاطلاعنا على ما حدث:

 

" الثالث من تشرين الثاني 1989 وصلت معلومات الى الاجهزة الامنية التابعة للقوات اللبنانية مفادها ان البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير سيتعرض في الايام القليلة المقبلة الى اعتداء لدفعه الى مغادرة المنطقة الشرقية فكلف الدكتور جعجع اثنين من ضباط القوات اللبنانية بزيارة البطريرك صفير واطلاعه على المعلومات وسؤاله ما اذا كان يرغب في ان تؤمن له القوات حماية تضاف الى الحماية التي تقدمها عناصر الجيش. ولما نقل موفدا جعجع المعلومة الى سيد بكركي انتفض وقال لهما :"انتم كقوات لستم موارنة اكثر من غيركم ولن يعتدي علي احد ولا احتاج الى اي حماية ".وعندما سمع قائد القوات في وقت لاحق رد البطريرك صفير ابتسم وقال "يصطفل،انا عملت اللي علي".

 

في اليوم التالي اي السبت الواقع فيه الرابع من تشرين الثاني جاء المسؤول عن الامن في جونيه في احد الاجهزة الرسمية ليعلم البطريرك الماروني بأن "تظاهرة ستتجه الى بكركي غدًا الاحد لاقامة جناز لجورج سعاده".وسأل عما يمكن عمله فأجاب البطريرك صفير :"ليتظاهروا في الساحة الكبيرة ولكن يجب منعهم من دخول الكنيسة لانه لا يجوز تدنيسها". وبعد ان تقاطعت المعلومات التي وردته من القوات اللبنانية مع معلومات الاجهزة الرسمية اوفد نائبيه العامين ابو جوده والراعي الى العماد عون ليبلغاه التالي :

 

"موقف بكركي هو موقف الفاتيكان.اننا ضد التقسيم ومع انتخاب رئيس للجمهورية واعادة مؤسسات الدولة.انت تتحمل مسؤولية كل ما يمكن ان يحدث في التظاهرة المتوجهة غدًا الى بكركي".

 

اعتبر البطريرك صفير ان الخطوة الوقائية التي قام بها من شأنها ان تحمل العماد عون على تقصي امر التظاهرة المشار اليها واجهاضها بعدما علم بها الجميع وبعد ان حمله البطريرك المسؤولية الكاملة التي يمكن ان تنجم عنها.

....

عند السابعة مساء عقد مكتب التنسيق المركزي المساند للعماد عون اجتماع له في مجمع الرمال في نهر الكلب برئاسة روجيه عزام وجرى التداول في المستجدات لا سيما في انتخابات رئاسة الجمهورية ومواقف البطريرك صفير وقد ابدى المجتمعون امتعاضًا من بكركي واعلنت اكثر من مجموعة رغبتها في التظاهر احتجاجًا على مواقفها.وقال روجيه عزام فيما بعد انه شعر ان غضب الجماهير كبير وانه ليس من الحكمة توجيه تظاهرة ليلا الى بكركي ولا اقناع الناس بعدم التظاهر ضدها خصوصًا وان مكتب التنسيق على حد تأكيد رئيسه اجهض اكثر من محاولة تظاهر صاخب ضد بكركي في الاشهر السابقة "لذلك اضاف عزام قررنا تنظيم تظاهرة احتجاجية ضد البطريرك صفير في الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم التالي.صراحة خفت من ردة فعل غير جيدة ضد البطريرك في حال صعدنا في تلك الليلة الى بكركي فأعلنت ان التظاهرة ستكون في اليوم التالي وقد اصدرنا بيانًا في هذا الخصوص اذاعته وسائل الاعلام. طبعًا قامت قيامة البعض ورفض القرار وأعلن انه سيصعد في الحال الى بكركي لاعلان رفضه لمواقف البطريرك صفير المؤيدة لاتفاق الطائف.اما المجموعات التي تلتزم بقرارنا فلم تتظاهر ضد بكركي في تلك الليلة بل في اليوم التالي" وفيما كان سكان الصرح البطريركي يتابعون في جناح الكاردينال انطونيوس خريش نشرة الاخبار المسائية عبر تلفزيون لبنان وكانت الساعة قد قاربت التاسعة ليلا فوجئ البطريرك الماروني وصحبه بالخبر اذي اذاعته مذيعة التلفزيون:"احتجاجًا على مواقف البطريرك صفير التي مهدت لانتخابات رينيه معوض سقوم تظاهرة صامتة الى بكركي في الساعة الحادية عشرة من قل ظهر الاثنين". ولدى خروج البطريرك صفير والمطرانين رولان ابو جوده وبشاره الراعي من جناح الكاردينال الى الرواق الكبير سمعوا قرع اجراس واصوات جلبة فتذكر البطريرك الماروني ان احد الآباء المقيمين في بكركي تلقى اتصالا هاتفيًا افاده ان هناك تجمعات تنظم في بيروت وجونيه ويقال انها قادمة الى الصرح البطريركي.

 

قرابة الساعة التاسعة والنصف كان قد وصل الى بكركي عدد من الشبان والشابات وطلبوا ان يقابلوا البطريرك الماروني في ساحة بكركي الخارجية الخارجية وقد نقل الطلب المطران رولان ابو جودة فرد البطريرك صفير:"ليختاروا اربعة ممثلين عنهم فجاء اربعة شبان واحد من آل طربيه وآخر من عائلة شلفون من غسطا والثالث طالب طب في السنة الثالثة في الجامعة الاميريكية والرابع من عائلة ابو الصنائع وكان الاخير اكثرهم هوسًا.ونقل الشبان الاربعة هواجسهم الى سيد بكركي،هواجسهم من اتفاق الطائف ومن موقف البطريرك صفير من الاتفاق في الوقت الذي يجب ان تتوحد فيه الجهود لدعم حرب التحرير التي اعلنها العماد عون لاخراج الجيش السوري من لبنان.

 

رد البطريرك صفير على ممثلي المتظاهرين بعد ان اصغى الى شكواهم انه مع العماد عون في المطالبة بالسيادة المطلقة وقال لهم :"بلغوا رفاقكم ذلك".فخرجوا لبضع دقائق ئم عادوا يلحون على البطريرك بأن يقابل المتظاهرين ولما هم بالخروج اليهم تدفق المتظاهرون الغاضبون الى القاعتين الكبرى والصغرى للاستقبال وعبثًا حاول النائبان العامان رولان ابو جوده وبشاره الراعي تهدئة المتظاهرين واقناعهم بالتخلي عن فكرة الدخول عنوة الى الصح البطريركي وتسلق بعضهم على البوابة الكبرى والجدار الخارجي حتى وصلوا الى نافذة الرواق فوق المدخل فشد الدركيون اليهم ايديهم ليساعدوهم على الدخول.وما ان نجح بعض المتسللين الى الداخل في فتح الباب الحديدي حتى تدافع التظاهرون الى الداخل.

 

وعندما وافاهم السيد البطريرك الى القاعة الكبرى كانوا يصيحون بشعارات من مثل :"بالدم بالروح نفديك يا عماد". وكانوا يرددون هذه اللازمة على فترات متقطعة واندفع بعضهم الى صورة البطريرك الماروني المعلقة فوق الجدار فاخترقوها وانزلوا الاطار ثم مزقوها ورفعوا صورة العماد عون مكانها.فيما الصق بعضهم الآخر صور الجنرال على باقي الجدران وصورة على الكرسي البطريركي فوق الوسادة التي كتب عليها:"مجد لبنان اعطي له".وطلب المتظاهرون ان يخرج البطريرك صفير لمقابلة الجماهير التي ملأت الساحة الداخلية وكان هناك ايضًا من يزالون في الساحة الخارجية.فذهب البطريرك صفير معهم وقد احاط به بعض منهم مع الدرك ثم طلبوا منه القاء كلمة فيهم تأييدًا للعماد عون.وكان من بين المتظاهرين من يقول للبطريرك صفير :"قل انا ضد معوض او انا ضد النواب انا معك يا جنرال".

 

ثم طلب احد المتظاهرين من السيد البطريرك ان يقبل صورة العماد عون المرفوعة فوق رأسه وتبعه كثيرون يقولون:"بوس الصورة،بوس الصورة". فرفض البطريرك ذلك.كان المشهد هيستيريًا وتراجيديًا الى حد دفع بالمطران بشاره الراعي الى ترك جانب البطريرك والتوجه الى كنيسة الصرح البطريركي لأنه لم يعد بامكانه احتمال المنظر.

 

ويروي احد المتظاهرين ضد بكركي في مساء الخامس من تشرين الثاني تفاصيل ما حصل معه "كنت في الثالثة والعشرين من عمري وكانت الحماسة الوطنية تملأ قلبي وفيما كنت متوجهًا مع احد اصدقائي الى السينما مررنا بساحة ساسين حيث كان هناك تجمع للشبان والشابات يتظاهرن ضد انتخاب رينيه معوض رئيسًا للجمهورية وكانوا يغنون الاغاني الوطنية الحماسية فاستوقفنا الامر وشاركنا معهم وغنينا وهتفنا ضد سوريا ومعوض وبعد نحو ساعة قال لنا احد الشبان فلنتوجه الى بكركي لنعرف ما هو موقفها الحقيقي مما حصل لانه يقال ان البطريرك صفير قد باعنا وأيد اتفاق الطائف.لنذهب ونسأله قال الشاب الذي لم اعرف اسمه،توجهنا صوب الصرح البطريركي بالسيارات وكنا نحو خمسة وعشرين سيارة يركبها اكثر من ستين شخصًا ووصلنا بكركي عند الثامنة والنصف،رفض العسكريون المولجون حماية البطريركية دخول السيارات فدخلنا سيرأً على الاقدام الى ان وصلنا الى بوابة الصرح التي كانت مقفلة فصرنا نغني الاغاني الوطنية ونطلق الهتافات بصوت عال وبقينا على هذه الحال اكثر من ثلث ساعة الى ان اطل النائب البطريركي العام المطران رولان ابو جوده من النافذة فوق بوابة الصرح وسألنا عما نريد فقلنا له اننا نريد ان يخرج البطريرك صفير ويكلمنا لأننا نريد ان نسأله عن حقيقة موقفه فأجاب ان البطريرك مرتاح في تلك الساعة وقد يكون من الافضل ان نأتي في اليوم التالي لمقابلته ولما اصررنا قال لنا سيرى ما اذا كان بامكانه ترتيب شيء ما.

 

انتظرنا نحو ثلث ساعة ايضًا ولم يأتنا جواب فغضبنا وغضبت انا شخصيًا واعتبرت ان البطريرك يستخف بنا ويعتبرنا مجموعة اولاد،فقمت بتسلق باب الصرح ووصلت الى النافذة فارتعب وارتعد وقال لي كيف تدخل الى هنا بهذه الطريقة فأجبته :أنا اتعاطى كوكايين وانواع المخدرات كافة فلا تعترض طريقي اريد ان ارى البطريرك واسأله لماذا لم يوافق على مقابلتنا،في الحقيقة لم أدخن سيجارة دخان واحدة في حياتي لكني قلت له ذلك لارهابه وقد بلغت مرامي اذ اصبح المطران ابو جوده مرتبكًا وجعل يرسم علامة الصليب فوق رأسي.

 

"ثم اطل المطران ابو جوده على المتظاهرين طالبًا اليهم ان يختاروا ثلاثة من بينهم لمقابلة البطريرك الماروني فرافقنا نحن الاربعة النائب البطريركي الى الصالون الاحمر حيث انتظرنا البطريرك الذي لم يتأخر عن المجيء وبعد السلام سألنا ماذا نريد فقلنا :أتينا الى بكركي لنعرف هل انت معنا او ضدنا أي ضد الطائف او معه، رد البطريرك علينا بالقول انه لا يمكنه ان يكون مع احد ضد احد وان الجميع هم ابناؤه ويعاملهم بالقدر نفسه بالمحبة.

 

فأعدت السؤال عليه مرتين وثلاث وأربع وربما أكثر فلم يعد يجيبني فاغتظت جدًا للأمر فكتمت غيظي الى حين انتهاء المقابلة وما ان نزلنا رفاقي الثلاثة وانا درج بكركي واتجهنا نحو بوابة الصرح حتى رأيت مئات الشبان مندفعين بشراسة من البوابة التي لم اعرف كيف فتحوها،ولم اعرف ايضًا كيف ارتفع عدد المتظاهرين الى مئات بعد ان كنا بضع عشرات فصرخت بهم لقد باعنا البطريرك للسعوديين والأميريكيين.لم اعرف جيدًا في حينه معنى ما قلته لكنني اذكر انه كان الكلام الذي يقوله معظم الناس.

 

"وعلى رغم كوني من المتظاهرين فان الشبان المندفعين بغضب أخذوني في طريقهم ولم اعد استطيع السيطرة على نفسي فاقتادوني معهم من جديد الى القاعة الكبرى حيث عمل المتظاهرون على تكسير كل ما لا يمكنهم اخذه معهم.كسروا المغاسل والصور واطارات الصور والمزهريات والكراسي واقتلعوا الحنفيات والشتول المزروعة في الاوعية المخصصة لها.لقد هالني ما قام به البعض،كان الصراخ يصم الآذان والضجة اشبه بمحطة للقطارات القديمة وقد آلمتنا حناجرنا من كثرة ما صرخنا وهتفنا،نحن جئنا لاعلان موقفنا واطلاع البطريرك على معارضتنا لسياسته ودعوته الى دعم سياسة العماد ميشال عون غير ان ما حصل يفوق التصور والحسبان والعقل والمنطق وكل الشرائع،وأنا اليوم شديد الندم على ما قمنا به.

 

"حملت صورة الجنرال عون فوق رأس البطريرك صفير فصارت الجماهير تصرخ وتقول للبطريرك بوس الصورة فرفض فحاولت ان اضعها امام فمه وتنبهت الى ان احد المتظاهرين كان يحمل مسدسًا فظننت انه قد يطلق النار على البطريرك فصرخت به ونهرته وهددته بالضرب فتراجع الى الوراء واقتاد المتظاهرون البطريرك الى اسفل وقد حاول بعضهم اختطافه فمنعتهم عن ذلك وساعدت البطريرك على العودة الى مقره.

 

"بعد الحادثة بأعوام كثيرة جئت في عداد وفد كبير من حركة روحية فاقتربت من البطريرك وهمست في أذنه بأنني كنت في التظاهرة التي اعتدت عليه وبأنني شديد الأسف لما حصل فأجابني بكل محبة :انا نسيت الحادثة هل ما ذلت تذكرها؟وابتسم واكمل حديثه مع الناس المحيطين به".

 

حاول المطران رولان ابو جوده الاتصال بالعماد عون مرات عدة قبل وبعد دخول المتظاهرين الى الصرح البطريركي فحيناً قيل له انه بعيد عن الهاتف وحينًا آخر بأنه لا يمكن الاتصال به وأخيرًا تمكن من مكالمته وكان الصوت بعيدًا وغير واضح وطلب منه التدخل لوقف الانتهاك الحاصل.فوعد عون خيرًا ولكن بعد مضي اكثر من ساعة لم تحضر اي نجدة فأعاد المطران ابو جوده الاتصال برئيس الحكومة الانتقالية وأخبره ان أحدًا لم يأتي من القوى الامنية فأبدى تعجبه من ذلك وعندما قال له النائب البطريركي العام ماذا ستقول الناس في الغرب عندما سيعرض عليهم التلفزيون مشاهد الاعتداء المخزية أجاب عون:"سيقولون أن هناك انفصامًا بين الشعب والكنيسة".

 

صعق اهل الصرح البطريركي لدى معرفتهم بما قاله العماد عون واعتبروا في حينه انه يخبئ نيات غير حسنة ضد الكنيسة فارتأى البطريرك الماروني ان ينتقل فجرًا الى الصرح البطريركي الصيفي في الديمان.

 

وصل العميد جورج حروق بعد منتصف الليل الى بكركي وقال ان العماد ميشال عون نبهه قرابة الساعة الثانية عشرة وكان السير معرقلا على الطريق المؤدية الى الصرح البطريركي لكثرة السيارات الموجودة في المكان وأبدى حروق اسفه لما حصل.

 

وفي روايته لما حصل في مساء الخامس من تشرين الثاني 1989 قال العماد ميشال عون بعد ثلاثة عشر عامًا على وقوع الحادثة(مقابلة خاصة مع الجنرال في منزله في باريس شباط 2002 ):"كانت ليلة رهيبة كان الشعب غاضبًا الى حد كبير لا بل كان مهتاجًا كان يرى ان حلمه بتحرير ارضه من الجيش السوري يتلاشى امام ناظريه من غير ان يتمكن من فعل شيء فسخط على النواب والبطريرك صفير معتبرًا ان مواقفهم هي التي ادت الى تبدد الحلم."في تلك الليلة قررت ان أذهب الى منزلي لأرتاح قليلآً اذ كانت مرت علي ليال صعبة لم أذق فيها طعم النوم.في الطريق من بعبدا الى الرابية كان المشهد مخيفًا:اطارات تشتعل شبان وشابات يحملون الاعلام ويهتفون ويقطعون الطرقات ويوزعون المناشير،خفت من ان يتعرفوا الي فقلت للسائق بأن لا يتوقف ايًا كان الداعي،شعرت ان المتظاهرين من شدة محبتهم لي قد يقدمون على خنقي.

 

"لم يأخذ احد رأيي لتوجيه تظاهرة ضد بكركي وما قيل عن تورط الرائد كيتل الحايك لا يعنيني فهو لم تكن له وظيفة أمنية يوم توليت رئاسة الحكومة الانتقالية ولم أنط به اي مسؤولية او اي مهمة،في أي حال يوم تسلمت السلطة كان البلد مخترقًا من كل اجهزة  الاستخبارات في العالم.

 

"لا أبرئ القوات اللبنانية مما حصل فقد بدا على تلفزيون المؤسسة اللبنانية للارسال الذي عرض مقاطع من الاعتداء عنصران من القوات يعتديان على البطريرك صفير.

 

وعرف البطريرك صفير فيما بعد أن رئيس حزب الوطنيين الاحرار داني شمعون اتصل قبيل حصول الاعتداء بالعماد ميشال عون طالبًا اليه ارسال قوة حماية من الجيش اللبناني الى الصرح البطريركي لكن شمعون لم يعرف لماذا لم يتحرك احد لنجدة البطريرك كما علم سيد بكركي أن عون سئل لاحقًا:"لماذا حملت البطريرك على الهرب الى الديمان؟" فأجاب:"لقد اختار هو طريق المنفى".

 

لم يكتف عون بهذا الموقف الذي اعتبر تأييدًا للتظاهرة اكثر مما هو ادانة لها بل تابع مناصروه مشروعهم ووجهوا تظاهرة الى بكركي اذ لم يكونوا قد علموا بعد ان البطريرك صفير قد غادر الى الديمان وعمد المتظاهرون الى فتح بوابة الحديد الخارجية عنوة والاندفاع الى الداخل ثم بادر المتظاهرون الى اطلاق الهتافات والشعارات مرددين بين الحين والحين :"بدنا البطرك،بدنا البطرك".حاول النائب العام البطريركي المطران رولان ابو جوده ان يكلم المتظاهرين فلم يسكتوا واستمروا يطالبون بخروج البطريرك صفير الى مقابلتهم فحاول اللجوء الى الصلاة علهم يصمتون لكي يكلمهم فلم ينجح اذ عندما قال "باسم الآب والابن والروح القدس" اطلقوا صيحات شاجبة وكذلك فعلوا عندما بدأ صلاة اخرى او حاول مكالمتهم ثم اقترح احدهم على المطران ابو جوده ان يجرب النشيد الوطني اللبناني وعندما بدأ النائب البطريركي العام بأنشاده شاركه المتظاهرون وفي نهابته قال ابو جودة ان السيد البطريرك غير موجود فلم يصدقوه وعادوا الى الهتاف:"بدنا البطرك".

 

ورفع في هذه الاثناء متظاهر صورة للعماد ميشال عون على عصا خشبية طويلة وصلت الى الشرفة التي يقف عليها المطران ابو جوده فجعل المتظاهرون يصرخون :"بوس الصورة" فرفض في البداية ولكنه لما شاهد غضبهم واندفاعهم لخلع الباب الداخلي واصطدامهم ببعض عناصر قوى الامن الداخلي قال المطران ابو جودة على صوت خافت :"مع آلامك يا يسوع" ثم قبل الصورة.استمر هتاف المتظاهرين واندفاعهم فكرر النائب البطريركي العام صلاته وقبل (276... الصورة من جديد".(الكاتب انطوان سعد "السادس والسبعون-الجزء الاول" ص 270

 

العنوان التالي -11- واوردت جريدة النهار في 06 1989 

 

"عون دعى البطريرك الى الاستقالة اذا تعارضت اقتناعاته والشعب" وكان ابلغ رد للبطريرك على ما جرى قد ورد في العظة التي القاها في يوم الاحد التالي 1989 وتضمنت العبارة التالية : -11- اي في 12 "ستبقى الكنيسة الى جانب اللبنانيين وبينهم أمًا ومعلمة وضميرًا حيًا وابواب الجحيم لن تقوى عليها".

 

الانتحار هو الوصف الدقيق لما عرف بحرب الالغاء او معركة توحيد البندقية التي بدأت عمليًا في 30 كانون الثاني عندما توجهت وحدة من الجيش اللبناني باتجاه مدرسة قمر -التحويطة حيث يقيم مهجرون بداخلها كما هناك مركز لوحدات الدفاع الشعبي التابعة للقوات اللبنانية وحصل اشتباك محدود بين الطرفين الا ان العماد عون عقد مؤتمرًا صحافيًا ذلك المساء معلنًا انه كان يرغب باعادة بناء المدرسة ليتعلم الاولاد الا ان القوات لا تريد ان يتعلم اولادكم داعيًا امهات مقاتلي القوات الى دعوة ابناءهم لترك القوات اللبنانية والتوجه الى ثكنات الجيش مطلقًا عبارته الشهيرة "لن نسمح بعد اليوم ببندقية خارج اطار الجيش" قاصدًا طبعًا بندقية القوات حيث ان البنادق خارج الجيش كانت موزعة على امتداد الاراضي اللبنانية بما فيها بندقية بعض الوية الجيش نفسه التي كانت بامرة قادة الطوائف والميليشيات اللبنانية المسلمة لكن الانتحار ليكون ناجزًا كان يقتضي قتل الذات فكانت الحرب الاعنف ابتداء من صباح 31 كانون الثاني 1990 المشؤوم الذي غير وجه لبنان منهيًا مرحلة من الحضور المسيحي الفاعل في لبنان ومؤسسًا لمرحلة من الاحباط والتشرذم المسيحي ستمتد 15 سنة.

 

معارك ضارية خاضها الطرفان ادت الى تدمير المناطق الحرة وانهاك الفريقين وعدد كبير من القتلى والجرحى والاسرى وفيما كان العماد عون يتهم القوات بموافقتهم على اتفاق الطائف الذي برأيه يؤمن لسوريا امكانية السيطرة على لبنان كانت الحرب الدائرة تؤمن بالفعل للسوريين هذه السيطرة لا بل وتلغي كل امكانية للمواجهة معهم في المستقبل وبالطبع فقد سعت سوريا لاستمرار المعارك وزيادة الشرخ بين المسيحيين فأمنت للعماد عون الذخائر من خلال اسعد حردان (الحزب القومي السوري- كان الراهب الانطوني انطوان ضو صلة الوصل معه) وايلي حبيقة كما ادخلت المؤن والمشتقات النفطية من خلال حزب الله وقام المكتب المركزي للتنسيق الوطني برئاسة روجيه عزام بتوجيه تظاهرات "انفتاح" باتجاه الضاحية الجنوبية معقل حزب الله حيث اطلق المتحدث باسمهم بيار رفول عبارة "ثورة العماد من ثورة الخميني" كما توجهت تظاهرة اخرى باتجاه المتن الاعلى حيث استقبلهم مؤيدوا الحزب السوري القومي الاجتماعي كما توجهت تظاهرة باتجاه عاليه معقل الحزب التقدمي الاشتراكي وكانت قد توجهت ايضًا تظاهرة باتجاه المختارة من مؤيدي العماد عون في الشريط الحدودي واستقبلهم وليد جنبلاط والقى فيهم خطابًا ورد المتحدث باسم التظاهرة بكلمة تضمنت العبارة التالية :"اللي ابعدونا عنك اذلناهم من صفوفنا".

 

سعى البطريرك صفير لوقف المعارك داعيًا مقاتلي الطرفين للتمرد على قرارات قيادتيهما مهددًا بانزال الحرم بكل من العماد عون والدكتور جعجع وجواب العماد عون كان "لا سلطة للكنيسة علي".

 

عون:لجنة الوساطة فشلت وليس للبطريرك سلطة علي لاني لا استمد سلطتي من الكنيسة. (النهار 04-08-1990)

 

شهدت هذه الفترة تبدلا كبيرًا في مواقف العماد عون تجاه سوريا وحلفائها وتحميل القوات اللبنانية كافة مآسي الحرب واخطاءها ونمت العلاقة مع القوميين وجماعة ايلي حبيقة الذين عادوا الى بيروت الشرقية وشكل حديث العماد عون الى جريدة الشرق في 3 آب 1990 نموذجًا معبرًا لمدى التحول من شعارات حرب التحرير الى رفض الحدود بين البلدين، وبالنتيجة فرضت هذه المعركة ستاتيكو جديد تمثل بخطوط تماس داخل المنطقة الشرقية وبانهيار قوة الفريقين كما باستياء دولي عارم اسقط كافة الخطوط الحمر التي كانت تمنع السوريين من اقتحام المناطق الحرة لا بل بالعكس فقد اصبح السوريون هم الحل الذي يمكن ان ينهي "الجنون" الحاصل وتمت الصفقة الاميريكية السورية لاقتحام المناطق الحرة وتسليم 1990 حيث اجتاح السوريون مناطق الادارة اللبنانية للسوريين وهكذا كان في 13 تشرين 1 العماد عون واعدموا حوالي 120 ضابطًا وجنديًا لبنانيًا وسيطروا على القصر الجمهوري ووزارة الدفاع الوطني وسرقوا ملفاتها وانهوا حقبة من الممانعة المسيحية وبدأوا عملية اتمام السيطرة على لبنان واليكم ما تناولته اذاعة الفاتيكان عن تلك المرحلة :

 

هل يمكن أن يغفر المسيحيون اللبنانيون للعماد ميشال عون؟1990\02\07

 

هذا السؤال طرحته إذاعة الفاتيكان تدليلا منها على فظاعة المذبحة التي أوقعتها الحرب في صفوف مواطني المناطق الشرقية. وقد ترافق هذا السؤال مع أجواء سياسية محمومة خيمت على الهدنة الهشة التي تعرضت لخروقات عدة. ونقلت "فرانس برس" عن مصدر مقرب من العماد عون قوله: استسلام القوات اللبنانية وحده سيضع حدًا للمعارك.

 

وقبيل ايام معدودة من السقوط اجتمع وفد من المكتب المركزي للتنسيق الوطني تألف من روجيه عزام وجوزف غصن وبيار رفول الى اسعد حردان المسؤول السوري القومي والمقرب جدُا من السوريين والذي عمل على مساعدة العماد عون في حربه على القوات وفي ذلك الاجتماع اتصل المسؤول القومي باللواء غازي كنعان طالبًا موعدًا للوفد المذكور معه فكان ان حدد لهم موعدًا في 13 تشرين 1 اي في اليوم نفسه الذي ستجري فيه العملية، هذه.  المعلومات ذكرها روجيه عزام نفسه في كتابه وذلك في الصفحة 570 لم يفصح الاستاذ عزام عن الهدف من ذلك الاجتماع لكنه قد يكون اعطى للعماد عون متنفسًا ما جعله يعلن في اسبوعه الاخير ان: "لا تتوقعوا عملية عسكرية وكل ما سيحصل في القريب العاجل انني سأكون رئيس حكومة الجمهورية الثالثة!" وعلى هذا الأساس قال لإذاعة "صوت أميركا" الثلاثاء 9 تشرين الأول: "المعركة ليست عسكرية بل هناك معركة في سبيل الحرية والديمقراطية". ولما سئل عن الجهات التي تؤيده في مواقفه، أجاب: "اعتقد أن الجميع يؤيدونني ما عدا... القوات اللبنانية". الجميع من هم؟ الجنرال فندهم: الرئيس فرنجية، وليد بك، حزب الله، الشريط الحدودي...! وقبل ساعات من الاجتياح نفى الجنرال الجمعة 12 تشرين الأول ما نقلته "رويتر" عن اتصال تم بينه وبين السفير ألا لكي يخلي قصر بعبدا ويشكل حكومة منفى في فرنسا. وعلق حرفيًا:

 

"لا يطلبون عادة من الوطني أن يترك وطنه ويذهب. يطلبون من العميل الهرب إذا أرادوا إعطاءه فرصة..."

 

لكن كل من الاستاذ فايز القزي والاستاذ البير منصور اكدوا في كتبهم ان العماد عون وقع ذلك المساء على ورقة من 10 بنود تضمنت اعترافًا بشرعية الرئيس الهراوي وبموافقة العماد عون على دخول الحكومة والوثيقة سلمت للسفير الفرنسي الا ولم يعرف ما بات مصيرها والوثيقة منشورة في كتاب "موت جمهورية" للاستاذ البير منصور ص 417 بخط العقيد عامر شهاب وموقعة من العماد عون وكان الشهيد جبران التويني قد لفت الى هذا الامر 2001 تضمن ما يلي : -08- في مقال بعنوان "طعنة الجنرال" بتاريخ 30 "لم تعد تعيش الواقع بعدما توقفت عقارب ساعتك عام 1989 ولن اقول 1990 او آخرها عند طلب موعد مع اللواء الركن غازي كنعان وعلى غير علم الذين كانوا حواليك، او ساعة توقيعك اتفاقات مع السفير الفرنسي حول الطائف وأيضًا دون علم الذين كانوا حواليك! دون ان نذكر المفاوضات السرية التي كنت تجرها مع "دولة الطائف" من اجل العودة الى لبنان" وفي صباح السبت 13 تشرين الأول 1990 ، في الساعة السابعة والدقيقة الخامسة، تولى سرب من الطيران الحربي السوري (وبكل أسف) قصف قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة وعدد من مرابض المدفعية. وكان ذلك بدء العملية العسكرية ضد العماد عون.وبعد دقائق، فتحت النار من مرابض المدفعية والراجمات والدبابات على كل المحاور في المتنين. وبعد 45 دقيقة، أعلن عن وجود العماد عون في السفارة الفرنسية في الحازمية.

 

ومن هناك، من السفارة، أعلن العماد عون إستسلامه. فأذاع بصوته بيانًا مقتضبًا قال فيه: "بسبب الظروف السياسية والقتالية والعسكرية الراهنة، وحقنًا للدماء، وتخفيفًا للأضرار، وإنقاذًا لما تبقى، أطلب من أركان قيادة الجيش تلقي الأوامر من العماد إميل لحود".

 

انتهت مع اسقاط العماد عون مرحلة من تاريخ وطن لتبدأ مرحلة اخرى اشد قسوة وضراوة خاضها المسيحيون بايمان كبير وانتهت الى انسحاب ذليل للسوريين كان المفترض ان يشكل حافزًا للمسيحيين كي يزيدوا من لحمتهم لكن العكس هو ما يحصل كأننا لم نتعلم شيئا على ما قال غبطة البطريرك صفير وانهي هذا البحث بما كتبه شهيد الكلمة الحرة سمير قصير في عودة الجنرال وكان : 2005/05/ عنوان المقال "عودة الاب الضال" بتاريخ 06 "عون الراجع هو عون الذي لا يتغير، يحاكم ولا يحاكم. المسألة تذهب ابعد من اختزال الفعل التاريخي بعظمة الفرد، وفقًا لفهم مبتسر للتجربة الديغولية في فرنسا. فإذا كان تجاهل الحجم الشعبي للحدث ينم عن مفهوم فوقي للعمل السياسي، فإن تجاهل دور القوى السياسية الاخرى يفيد بوجود سوء تفاهم مقلق حول معنى المعركة الاخيرة ".