اللحّودية أعلى مراحل العونية

الصحافة المعتدى عليها بدم بارد جامع واصل بين الظاهرتين

وسام سعاده

 

لئن آثر الرئيس السوريّ في الآونة الأخيرة تشبيه نفسه بـ"بوتين" المنطقة متوجّهاً للبنان كما لو كان جيورجيا، ولئن واصل "حزب الله" تمثّله بنموذج "حرس الثورة الإيرانية" فإن رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون يعمل منذ 6 شباط 2006 والى اليوم على أن يصير نسخة مطابقة للعماد إميل لحّود، بل يغالي في اللحودية أكثر من "الرئيس المقاوم.. بالتمديد"!

 

بطبيعة الحال يمكن للرئيس السابق إميل لحّود أن يحسد سلفه في قيادة الجيش العماد ميشال عون نظراً للشعبية التي حصدها الأخير بعيد تكليفه برئاسة حكومة مؤقتة مهمتها اجراء انتخابات لرئاسة الجمهورية في أواخر الثمانينيات، واستعاضته عن هذه المهمّة بخوض حروب يصرّ على أنها لا تقيّم من حيث نتائجها وتداعياتها، وإنما من حيث أحقية الشعار الذي وضع لها. وهذه الشعبية أعاد عون مراكمتها من المنفى لتبلغ مداها في لحظة استثنائية هي انتخابات ربيع 2005، نظراً لجملة عوامل منها تهديفه على "التكليف الشرعي" الذي يلتجئ إليه "حزب الله" لتسيير قواعده في هذا الاتجاه أو ذاك. إلا أن العماد عون صار منذ "حرب تموز" يصرف من هذه الشعبية بشكل متسارع حيناً ومتباطئ حيناً آخر، فجاءت أحداث 23 كانون الثاني 2008 لتكشف عن تواضع الحجم التعبوي للتيار العوني إذا ما تقرّر الاعتماد عليه لإقفال المداخل الشمالية والشرقية للعاصمة، وجاءت فرعية المتن الشمالي 2007 لتشهد على تراجع نوعي في الحجم الانتخابي للتيار.

 

وإذا أمكن للحّود أن يحسد عون على شعبيته ولو المنحسرة، فإن عون سيبقى يتطلّع إلى إميل لحّود كمثال يحتذى لأنه نجح في انتزاع تسع سنوات من عمر الرئاسة اللبنانية، منها ثلاث بالقوة القاهرة رغماً عن أنف العالم أجمع.

 

وراء الحسد المتبادل يمكن لكل واحد أن يرى نفسه في الآخر. كل من الرجلين له نظرية في الإعلام. النظرية التي استخدمها العماد عون أول من أمس بشكلٍ نابٍ ضد جريدة "المستقبل" كان تفضّل بها العماد إميل لحّود قبل سويعات من اغتيال الصحافي والمؤرّخ وأحد أعمدة انتفاضة الاستقلال سمير قصير. ليراجع الأرشيف. ويومها كان إصرار عون على أن اغتيال صحافي وهو يدير مفتاح سيارته في وسط منطقة الأشرفية ليس إلا حادثة أمنية عابرة لا تستأهل التعليق السياسي. وتكرّرت "الشماتة" العونية في أعقاب اغتيال المناضل جورج حاوي فسأل العماد عون عن أي "تورّط" دفع بحاوي إلى تلك المقتلة!

 

يتخطى عون لحّود في هذه الأمور. على الأقل تحدث لإميل لحّود أشياء غريبة في بعض الأحيان، مثل أن يدخل على مجلس الوزراء ويعلن انتسابه إلى ثورة الأرز و14 آذار وإدانته للفريق الأمني ممثلاً باللواء المركون، أو أن يدلي بتصريح بعد سبع سنوات على 7 آب متبرئاً من الفعلة الانقلابية، بل ومصنّفاً نفسه من ضحاياها ومن الصامدين بوجهها، مع أنّه كرّم أصغر من تحرّك لقمع الإستقلاليين يومها أمام قصر العدل.

 

لا تصيب عون مثل هذه العوارض. هو فعلاً له أكثر من سيرة ولا حاجة له لاقتناص سيرة أخرى. تحالف مع الجميع وحارب الجميع. عام 1982 لم يكن أبداً في صفوف المقاومين بل في المقلب الآخر تماماً. انتفاضة "6 شباط" 1984 التي يتباهى بها حلفاؤه اليوم وجّهت ضد جيش كان يشارك في قيادته. حلفه مع بعث صدّام حسين لم يمنعه من عقد زواج متعة مزمن مع ايران محمود أحمدي نجاد. وفي الموضوع السوري يكاد يفتي بأن المشكلة مع سوريا انتهت يوم رحل الرئيس حافظ الأسد، وأن رئاسة بشّار تمثّل "ثورة أوديبية" تتفق تماماً مع حق لبنان في الاستقلال. أما في الموضوع الأميركي فأتقن عون فنّ "العود الأبدي". زحف ذات يوم بأناسه على السفارة الأميركية في عوكر وأقفلها. ثم زحف ذات مرة إلى الكونغرس الأميركي لـ"محاسبة سوريا وتحرير لبنان" وعقد تفاهماً مع القس بات روبرتسون أحد أشد الرموز الرجعية تطرّفاً وممالأة لإسرائيل. ولم يمنعه ذلك بعد سنوات معدودات من إطلاق "لقاء وطني مسيحي" يربط وجود المسيحيين في الشرق بإعلانهم الثورة على الإمبريالية الأميركية والالتزام بالمستتبعات السياسية والأمنية للمشروع النووي الإيراني.

 

لم يكن لإميل لحّود كل هذه التقلبات في الواقع وإن زعم تقلبات له في الخيال. لم "يطلب شيئاً لنفسه" لأنه كان يرضى بما ترسمه سوريا له، وكانت سوريا معه كريمة، وكذلك "حزب الله" الذي تبرّع له بتحرير الجنوب، أضف للعقيدة الرسمية منذ التسعينيات والتي تعتبر أن الجيش اللبناني كان فئوياً قبل الحرب الأهلية، وما كان وطنياً، إلى أن جاء إميل لحّود فدمج بين الألوية، وضرب ميليشيا "القوات" وحمى المقاومة التي ليست ميليشيا. فماذا كانت ثمرة سنوات من "الانصهار الوطني" على الطريقة اللحودية؟ ارتفاع غير مسبوق في مستوى السعار الطائفي والمذهبي.

 

لم يعرف بعد كيف يتعاطى سلف لحّود في قيادة الجيش مع هذه العقيدة الرسمية. ما هو أكثر يقيناً أن لحّود وعون يتلاقيان في أمور أكثر أهمية بالنسبة إليهما، منها رفع "مكافحة التوطين" كفزاعة، وإن سجّل للحّود أنه كان يحاول أن "يشخصن" الطرف المتهم بالإعداد للتوطين في حين يحاول عون أن يعمّم هذه التهمة على أتباع مذهب بأسره. على الأقل ما كان أحد يلتفت إلى لحود وهو يحذّر من خطر التوطين. ما قام به عون من هذه الناحية جاء استثنائياً: التقط مادة دعائية كاسدة وظلّ يصرّ عليها ويعمل على تعبئة الناس على أساسها.

 

وما يجمع بين الرجلين ذاك الموقف من الإعلام، الذي به بُرّر قصف "تلفزيون المستقبل" بالصواريخ، ثم الاعتداء على كل وسائل إعلام المستقبل وإقفالها بعد سنوات، أضف لاغتيال صحافيين وتهديد حياة وأمن عشرات آخرين.

 

ما يجمع بينهما أيضاً هو عدم قدرتهما على التلفّت إلى المقلب الآخر من اللوحة الإعلامية اللبنانية، أي "الإعلام الحربي" كما كشر عن وجهه ليلة 7 أيار مواكباً للعمل الميليشيوي وممتدحاً له، بل ومحرّضاً على الشاشة البرتقالية من أجل نسف نصب الرئيس الشهيد رفيق الحريري. هنا أيضاً يمكن العودة للأرشيف.

وبعد ذلك يستكثر على الإعلام الحديث عن جريمة تمّت بدم بارد. ويستكثر على الإعلام الذي نظّمت ضده جرائم بدم بارد سواء في وضح النهار أو في ظلمة الليل أن يتضامن مع بعضه البعض. ما تكون هذه اللحودية ـ العونية؟ هل إنها حالة فاشية؟ لا، هذا مديح لها لا داعي له.

   

عن جريدة المستقبل/10 أيلول 2008