حسابات الكبار في معركة خلافة لحود

هل يريد عون فعلاً لقاء الأسد وكيف تتعامل معه أميركا وفرنسا؟

بقلم عبد الكريم أبو النصر –النهار 24/2/2006

"العماد ميشال عون ليس مطمئنا فعلا الى مواقف الدول الكبرى منه وتجاهه، وعلى رأسها اميركا وفرنسا وبريطانيا، اذ انه لم يسمع من اي منها تأييدا او دعما واضحا وصريحا له في مسعاه للفوز بمنصب رئيس الجمهورية، ولو لم يطلب هذا الدعم مباشرة". هذا ما اكدته لنا مصادر ديبلوماسية غربية وثيقة الاطلاع في باريس. واوضحت ان "المسؤولين الاميركيين والفرنسيين والايطاليين وغيرهم من المعنيين بالشأن اللبناني يشددون باستمرار في محادثاتهم مع عون على ضرورة ان يدعم الغالبية النيابية والشعبية لانها هي الشرعية الحقيقية، وان يساند حكومة فؤاد السنيورة ويتفهم الظروف البالغة الصعوبة والتعقيد التي تعمل فيها بدلا من مهاجمتها باستمرار، وان يؤيد فعليا سائر قرارات مجلس الامن ذات الصلة بلبنان ومنها القرار 1559 وضرورة ان يسلم "حزب الله" سلاحه الى الدولة، وان يتخذ مواقف واضحة وحازمة من العلاقة مع سوريا ومن ضرورة وقف ضغوطها وتدخلاتها المختلفة في لبنان، والتخلي عن حنينها الى زمان الهيمنة على هذا البلد، وان يتعاون مع مختلف الاطراف من اجل تثبيت استقلال لبنان وسيادته وتكريسها والعمل الجدي على اطاحة الرئيس اميل لحود لان ذلك مطلوبا دوليا ولبنانيا، وتأمين انتخاب بديل شرعي منه منبثق من الغالبية ويلقى دعما واسعا داخليا، وذلك في اقرب وقت ممكن. وقد يتمنى عون ان يقول له الكبار، ولو همسا، انه هو المؤهل اكثر من سائر المرشحين الموارنة المحتملين لخلافة اميل لحود، لكنه لم يسمع يوما كلاما كهذا من اي مسؤول دولي". ديبلوماسي فرنسي مطلع قال لنا: “ان الدول الكبرى لديها رأيها وكلمتها في معركة انتخابات الرئاسة التي تتمنى ان تحسم اليوم قبل غد، لكن اميركا او فرنسا او اي دولة كبرى اخرى لن تفرض اي مرشح للرئاسة على اللبنانيين، ولن تدعم اي مرشح لا يكون هناك توافق لبناني واسع عليه. ولن تكرر هذه الدول الخطأ الذي ارتكبته الادارة الاميركية عام 1988 حين اتفقت مع القيادة السورية على دعم انتخاب النائب مخايل ضاهر خلفا للرئيس امين الجميل، وابلغت المسؤولين اللبنانيين ان عليهم الاختيار بين ضاهر او استمرار الفوضى، فرفضوا ضاهر. ولذلك لن تعقد الدول الكبرى صفقة مع اي دولة عربية حاليا لدعم انتخاب رئيس جديد خلفا للحود لا يكون هناك توافق لبناني واسع عليه".

أربعة شروط للفوز بالرئاسة

وفي هذا الاطار، اكدت لنا المصادر الديبلوماسية الغربية ذاتها ان المسؤولين الفرنسيين المعنيين بالامر لم يقتنعوا يوما، سابقا او حاضرا، بان عون يمكن ان يصلح فعلا رئيسا للجمهورية، لكن المسؤولين الاميركيين بدوا، بعد الفوز الكبير لزعيم "التيار الوطني الحر" في الانتخابات النيابية، مستعدين لان يدعموا "بشروط" ترشيحه للرئاسة "لان عون اثبت انه زعيم شعبي حقيقي، ولان قاعدته الشعبية المعادية بشدة للوصاية السورية ضمان لانه لن يعقد اي صفقة مع نظام الرئيس بشار الاسد تعيد النفوذ السوري الهائل الى هذا البلد". وفي تقدير المسؤولين الاميركيين فان عون يجب ان يلبي اربعة شروط رئيسية لكي يحصل على الدعم النيابي الكافي للفوز بالرئاسة الاولى. وهذه الشروط هي الآتية:

أولاً، يجب ان يتوصل الى اتفاق، بل الى تعاقد واضح، مع الغالبية النيابية وخصوصا مع قادتها الثلاثة سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع في شأن مجموعة قضايا اساسية وطريقة ادارة شؤون البلاد داخليا وخارجيا في المرحلة المقبلة، مما يشكل خريطة طريق لتعاون هؤلاء الاطراف معا بعد اطاحة لحود. ولكن لم يتم التوصل الى مثل هذا الاتفاق حتى اليوم.

ثانياً، يجب ان يوافق عون فعليا على العمل بمواد الدستور الحالي المنبثق من اتفاق الطائف وخصوصا في ما يتعلق بدور رئيس الجمهورية وصلاحياته. ويجب ان يقبل بالتالي ان السلطة التنفيذية والاجرائية لم تعد في ايدي رئيس الجمهورية بل في ايدي مجلس الوزراء، وان من يحكم لبنان ليس رئيس الجمهورية بل قيادة جماعية هو جزء منها. وعون يرفض ذلك ضمناً وفعلاً، بحسب هؤلاء المسؤولين، ويريد ان يعيد الى الرئيس الاول صلاحياته الواسعة ونفوذه الكبير كما كانت الحال قبل توقيع اتفاق الطائف عام 1989، وهو الاتفاق الذي رفضه عون ولا يزال يرفضه الى اليوم. وهذا الموقف يتعارض مع ما تريده الغالبية الكبرى من اللبنانيين.

ثالثاً، يجب ان يتصرف عون بمرونة، وليس فقط بحزم، وان يكون رجل وفاق وتسويات في تعاطيه مع شؤون الحكم ومع المسؤولين الآخرين والقوى المحلية الرئيسية، لكن عون ليس كذلك بل انه يميل الى فرض آرائه وتصوراته على الآخرين مما يمكن ان يفجر ازمات سياسية في حال وصوله الى قصر بعبدا.

رابعاً، يجب ان يحسم عون، علنا وبوضوح، موقفه من النظام السوري ويلتزم التعامل بحزم مع تدخلات دمشق المختلفة في الشؤون اللبنانية، وان يدعم فعليا التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولا الى كشف الحقيقة ومعاقبة جميع المتورطين في هذه الجريمة، وان يتعهد العمل على ترسيم الحدود بما فيها مزارع شبعا مع سوريا، وتبادل التمثيل الديبلوماسي معها، وتطبيق سائر القرارات الدولية، وايجاد الآلية الملائمة لنزع سلاح "حزب الله". ويرفض عون ان يتعامل مع هذه القضايا المهمة "كسواه من نواب الغالبية" ويفضل ان يعتمد الغموض حيالها خلافا لمرشحين جديين آخرين للرئاسة، مكتفيا بالقول ان ماضيه المعادي للهيمنة السورية "يشفع له" ويحميه من اي مساءلة او محاسبة في هذا المجال.

ولذلك صرف المسؤولون الاميركيون النظر عن اعطاء الاولوية لدعم ترشيح عون للرئاسة، مؤكدين في الوقت نفسه انهم سيساندون اي رئيس جديد "تختاره الغالبية ويدعمه البطريرك صفير ويحصل توافق اسلامي – مسيحي واسع حوله".

ملف أوروبي خاص عن عون

في ملف خاص عن زعيم "التيار الوطني الحر" اعدته وزارة الخارجية في دولة اوروبية كبرى معنية بالشأن اللبناني، نقرأ المعلومات والتحليلات الآتية:

أولاً: "ان عون لديه هدف اساسي واحد هو الوصول الى رئاسة الجمهورية، ليس من اجل تحقيق منافع شخصية بل لاقتناعه بانه يستطيع ان يكرر تجربة الجنرال شارل ديغول ويكون رجل الانقاذ الحقيقي للبنان بدلا من ان يكون مجرد مدير لازمته الطويلة المعقدة، وهو مستعد لعرقلة اي مسعى جديد لاطاحة اميل لحود اذا لم يكن هو خليفته، وكل ما يقوم به مرتبط بهذا الهدف الكبير".

ثانياً: "ان عون رجل وطني مخلص وسياسي نظيف، لكن اقل الساسة اللبنانيين تأثرا واهتماما بنصائح الدول الاخرى، الاجنبية والعربية، المهتمة بمصير بلده، وهذه نقطة ضعف. اذ ان لبنان يحتاج في هذه المرحلة الصعبة، واكثر من اي وقت مضى، الى رعاية وحماية دوليتين وعربيتين حقيقيتين. وعون ضعيف الحضور اوروبيا ودوليا، ومحدود العلاقات عربيا واقليميا الى حد ان معظم الزعماء والمسؤولين العرب لم يلتقوه شخصيا".

ثالثاً: "عون زعيم شعبي محلي حقيقي يعكس بشخصه المزاج الماروني المتعطش الى زعامة تعيد الى المسيحيين ما فقدوه من نفوذ وتأثير في ظل الهيمنة السورية، وهو يتصرف على اساس انه حصل على تفويض كامل ومفتوح من ناخبيه وانصاره لينشط ويتحرك ويتكلم كما يريد من دون ان يتوقع اي محاسبة له، على اساس ان شعبه يثق به مهما قال وفعل، وان هذا الشعب يعرف ان العماد لن يخونه، ولو بدت مواقفه غريبة وغير مفهومة بالنسبة الى انصاره في كثير من الاحيان، وخصوصا حين تتعلق هذه المواقف بسوريا و"حزب الله" او باغتيال شخصيات وطنية بارزة معروفة بحرصها على استقلال لبنان امثال رفيق الحريري وسمير قصير وجبران تويني، او حين يتعلق الامر باعطائه الاولوية للاصلاحات الداخلية ومحاربة الفساد بدلا من اعطاء الاولوية القصوى لتثبيت استقلال البلاد وسيادتها وحمايتها من التهديدات الخارجية”.

رابعاً: "عون لديه نقطة ضعف اساسية هي انه يصعب جدا توقع الكثير من تصرفاته وقراراته مسبقاً، اذ انه رجل المفاجآت والقرارات الفردية، يستمع الى نفسه اكثر مما يستمع الى مستشاريه والقريبين منه، مما يجعله يخطئ في حساباته وفي تقويمه لمسار الاوضاع داخليا وخارجيا. وهو ليس صامدا او مستقرا في تحالفاته".

عون وزيارة دمشق

يبقى السؤال الاساسي: اي نوع من العلاقات قائم فعلا بين عون والقيادة السورية؟ وما هي الاهداف الحقيقية الخفية لتفاهمه الاخير مع قيادة "حزب الله"؟

في تقدير مصادر ديبلوماسية اوروبية وثيقة الصلة بالملف اللبناني، فان هدف عون من الاتفاق مع "حزب الله" ليس فقط اضعاف الغالبية النيابية واثبات مقدرته على كسب تأييد اسلامي لتوجهاته وتدعيم مواقفه في معركة الرئاسة، بل ان هدفه غير المعلن وغير المعترف به من عقد هذا الاتفاق هو تمهيد الطريق لزيارة يقوم بها الى دمشق للاجتماع بالرئيس السوري بشار الاسد والتوصل الى "تفاهم" معلن معه حول عدد من المسائل التي من شأنها "طمأنة" اللبنانيين. وقدمت لنا هذه المصادر الاوروبية التقويم الآتي لحقيقة علاقة عون مع القيادة السورية: “ان المسؤولين السوريين ليست لديهم خيارات كثيرة في لبنان، خلافا لما يحاولون ايحاءه، وهم ليسوا مهتمين بمواقف عون الذي ظل لسنوات اكثر الزعماء اللبنانيين عداء لسوريا، بل انهم يتعاملون معه على اساس انه حليف ظرفي مؤقت مفيد لهم، ولذلك يشجعون "حزب الله" وسائر حلفائهم على دعم العماد ومساندته لمنعه من الانضمام الى الغالبية النيابية، اذ ان حدوث ذلك يسهل اطاحة الرئيس لحود ويساعد على انهاء او اضعاف ما تبقى من النفوذ السوري في لبنان، وعلى تكثيف الضغوط الداخلية والدولية على نظام الاسد. والمواقف المختلفة، الحذرة او الغامضة او "المائعة"، التي اتخذها عون منذ عودته الى لبنان حيال النظام السوري، لم تأت مصادفة بل جاءت نتيجة نصائح سورية وتفاهمات غير معلنة تم التوصل اليها عبر اطراف ثالثين وشكلت نوعا من الهدنة بين العماد عون ودمشق في مقابل الحرب المعلنة بين الغالبية النيابية والنظام السوري. ولكن في المقابل من الخطأ الفادح القول ان عون اصبح رجل سوريا في لبنان ومنفذا لاهدافها ومخططاتها، بل انه يستغل الضعف السوري في هذه المرحلة وحاجة دمشق اليه لتعزيز مواقعه وحظوظه للفوز بالرئاسة".

حقيقة التفاهم مع "حزب الله"

ماذا عن التفاهم الذي تم التوصل اليه بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"؟

مصادر ديبلوماسية اوروبية مطلعة اكدت ان عون قدم مجموعة "تطمينات" الى المسؤولين الاميركيين والاوروبيين الذين التقاهم اخيرا ابرزها ان هدفه من التفاهم مع "حزب الله" هو "طمأنة" هذا الحزب تمهيدا لابعاده تدريجا عن النظام السوري، وتدعيم خياراته اللبنانية وتعزيز المصالحة الوطنية الداخلية. واكد عون، ايضا، انه لا يزال مصرا على ضرورة ان يسلم "حزب الله" سلاحه الى الدولة واجهزتها، ويؤيد تنفيذ القرار 1559 وسائر القرارات الصادرة عن مجلس

الامن. واوضحت المصادر ذاتها ان تفاهم عون ونصرالله "لن يبدل شيئا في توجهات "حزب الله" واهدافه، ولن يؤمن فعليا دعم الحزب لعون في معركته الرئاسية، خلافا لما يشاع، بل يعطي الاولوية لدوره الاقليمي ولعلاقاته الوثيقة مع دمشق وطهران مما يجعله يتمسك بالاحتفاظ بسلاحه تحت ذريعة حماية لبنان من الاخطار الاسرائيلية وانتظار الحل السلمي الشامل للنزاع العربي – الاسرائيلي، اذ ان هذا السلاح هو سلاح احتياطي لسوريا وايران في الساحة اللبنانية. وفي المقابل، فان عون لن يشجع، بتفاهمه هذا مع "حزب الله"، الاطراف اللبنانيين الآخرين على دعم وصوله الى الرئاسة”.