كلمة دولة الرئيس العماد ميشال عون في مؤتمر انطلاق الحزب

18 ايلول 2005 

لمّا كان "التيار الوطني الحرّ " قد انطلق لمواجهة حالة استثنائية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين الزمتنا بالتصدي لها منذ تسلّمنا السلطة اللبنانية في 22 ايلول 1988، ولمّا كان هذا التيّار قد اعتنق النضال المتواصل خمسة عشر عاماً في ارض الوطن وفي بلدان الانتشار، دونما مهادنة او انقطاع، لتحرير لبنان من كل احتلال، واسترداد سيادته الكاملة واستقلاله الناجز، ولمّا كانت عودتنا والرفاق من المنفى ولقاؤنا التاريخي في 7 أيار 2005 مع سائر الكوادر النضالية للتيار، والتحامنا المصيري بالجماهير اللبنانية المناصرة، مناسبة عبّر فيها الشعب اللبناني عن تأكيده العارم لنضالنا ورغبته الجازمة في الالتزام الوطني المستقبلي الثابت التي أكدها في صناديق الاقتراع، ولمّا كان لبنان يواجه مع سائر بلدان الشرق الأدنى والأوسط، تحدّيات سياسية واقتصادية واجتماعية تنذر بتحوّلات وتبدّلات فائقة الأهمية والخطورة في انظمة الحكم، وموازين القوى، واتجاهات الفكر والثقافة والمفاهيم العقائدية، والمصالح الفئوية والصراعات المحلية والإقليمية،

ولمّا كان الشتات الطائفي والمذهبي، بما يحمله من عناصر السلبية المتعصبّة القائمة على رفض الآخر ومحاولة إلغائه، ثمّ الفساد المستشري في الإدارة الحكومية والمجتمع المدني على كل صعيد خلقي أو عملاني، وتهافت بعض الأحزاب وعدد من الشخصيات السياسية والجماعات الأهلية المتسيّسة في تيارات فئوية أو مزالق سلوكية غير لبنانية بعضها مناقض لمصلحة الوطن،

ولمّا كانت القوات المسلّحة اللبنانية بجميع مكوّناتها تحتاج الى تحديث أنظمتها وتقانة أدواتها البشرية والآلية، وتطوير سلاحها وامتيازه بالفعالية والفرادة، وتنظيم علائقها المتبادلة بالدقة والسرعة الواجبة، وتركيز عقيدتها الوطنية المقدّسة، وتحويلها الى مؤسسة ذات مثل أعلى في الدفاع عن الوطن يتوق أي فرد أو حزب أو مجموعة مسلحة الى الانخراط فيها والانتماء الشريف الى صفوفها عوض التاسيس لأجهزة مسلّحة خاصة تلبّي أهدافه الذاتية أو نظرته الدفاعية الوطنية المستقلة،

ولمّا كان بعض السلطة القضائية مسترهناً الى حدّ بعيد لتدخلات سياسيين وحزبيين وقيادات طوائف وزعامات وقوى رأسمالية جائرة، الأمر الذي اخلّ إخلالاً كبيراً بمبدأ فصل السلطات واستقلالية كلّ منها في النظام البرلماني الديموقراطي، وأفقد المواطن ثقته بعدالة القاضي بعد فقدان ثقته برجل الأمن،

ولمّا كان لبنان يفتقر الى نظام تعليمي وتربوي حديث متطوّر، يؤمّن لكلّ تلميذ مقعداً في مراحل التعليم الحضانية والابتدائية والمتوسطة والثانوية، كما يستأصل عوامل الانحراف والسيطرة السياسية والفئوية على الجامعة اللبنانية، ويبعث مؤسساتها من رميم الانهيار، ويرفعها الى مستوى الجامعات الأجنبية والخاصة المحلية والعالمية،

ولمّا كانت البلاد بحاجة الى تطوير مناهج التعليم طبقاً لرسالة الانتماء الوطني في صفوف الأجيال الجديدة، ومعطيات الحداثة على مختلف الأصعدة التقنية، كما يتعين تقويم الحاجة الوطنية الى توزيع لطلاب العلم توزيعاً منطقياً واقعياً عادلاً بين فروع التعليم النظري والتعليم المهني، وذلك بما تفرضه سوق العمل ويقتضيه النمو الاقتصادي ومكافحة البطالة والأميّة،

 

 

لهذه الأسباب جمعاء، وغيرها ممّا يتوق اليه المواطن من ثورة إصلاحية إنمائية وشيكة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحياتية كافة، كان لا بدّ من تحويل "التيار الوطني الحرّ" الى حزب سياسي انطلاقاً من المبادئ الآتية:

أولاً: لبنان وطن نهائي كامل ودائم لأبنائه الذين يحملون الجنسية اللبنانية جميعاً. وهو قائم بحدوده المعترف بها دوليا.

ثانياً: يتميّز لبنان بانتماء عربي خصوصي حضاري. وقد تميزت العروبة اللبنانية بالانفتاح على معظم الحضارات الشرقية والغربية ذات العقائد الدينية والتقاليد المتنوعة، فتفاعلت معها تفاعلاً إنسانياً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً واسعاً وقد تمسّك لبنان تمسكاً رسولياً عميقاً بلسانه العربي، ودافع دفاع المؤمن الواثق عن اللغة العربية والتراث العربي، ولا حاجة في هذا المجال الى إبراز إنجازاته الظاهرة أو تقويم رسالته القائمة، التي قهرت أساليب التتريك والسلجقة والمملوكية أكثر من سبعة قرون، وهي لا تزال الى اليوم تواجه أي افتراء يأتي من الشرق او من الغرب لتقويض معالم هذه اللغة وهذا التراث. يضاف الى ذلك أن لبنان كان أول بلد في آسيا وأفريقيا حقق الاندماج المثالي بين مبدأ الشورى العربي الذي أوصى به الإسلام، والمبادئ الديموقراطية الإغريقية الجذور التي انتصرت في العالم المسيحي حتى في صلب الأنظمة الملكية، فكان صاحب نظام شوري وديموقراطي منذ عهد الإمارة المعنية والشهابية، ونظام برلماني لا يجاريه، بالرغم من علله وشوائبه العديدة، أي نظام سياسي آخر في المنطقة.

وانطلاقاً من هذا الواقع الذي تدعمه الحقيقة التاريخية، تعهد لبنان دوراً تاريخياً وساطياً رائداً على الصعد الثقافية والعلمية والاقتصادية الرائدة، وفي مختلف ميادين الأدب والفن والفكر والقانون، بين الحضارة الأوروبية الإغريقية اللاّتينية والعالمين العربي والإسلامي.

وفي إطار هذه الرسالة الوساطية الناجحة، كان لبنان في الاربعينيات من القرن الماضي، داعية فاعلاً وعضواً رئيسياً مؤسساً لجامعة الدول العربية وصانعاً لميثاقها، وما زال يعمل بكل نشاط وقوّة لإنشاء البرلمان العربي المشترك، وتوحيد المؤسّسات الثقافية العربية والمصطلحات اللغوية العربية المشتركة، وإرساء التعاون العربي في مختلف المجالات والميادين.

إن لبنان الكيان السياسي والجغرافي والنظامي والحياتي، يحرص على هويته، وخصوصيته الوطنية، ورسالته الإنسانية والحضارية الوساطية، وتنوع ثقافاته التعدّدية المتطورة وحياته الديموقراطية العريقة المتسامحة،

ثالثاً: في خط مواز لانتمائه العربي المشرقي ينتمي لبنان الى مجموعة البحر الأبيض المتوسط انتماءً جغرافياً، بيئياً، تاريخياً واقتصادياً، وينتمي أيضاً الى جنوبه المتوسطي الإسلامي وامتداداته الأفريقية في مصر ودول المغرب العربي. وبهذه الانتماءات شكلت الحضارة اللبنانية عصارة الحضارات المتوسطية. وهكذا أصبح لبنان ملتقى الحضارات ونقطة التواصل بين الشرق والغرب.

وبالنظر لطبيعة لبنان الجبلية المترامية على الوجه البحري لآسيا الغربية، وموقعه الفاصل بين بوادي الشام والعراق والجزيرة العربية من جهة، وآفاق الأبيض المتوسط القريبة والبعيدة من جهة ثانية، تكوّنت شخصيته المميّزة الفريدة منذ فجر التاريخ، وعمل أهله الملاّحون الأولون المهرة على نقل التمدّن البشري من الأمم الشرقية في جاهلية العالم القديم الى الموانئ والحواضر والمستعمرات التي أنشأوها على شطآن الحوضين الشرقي والغربي للمتوسط، كما واصلوا فيما بعد عملية النقل هذه بالاتجاه المعاكس من الأمم الغربية المتطورة الى الداخل العربي والأسيوي في الأزمنة الحديثة.

 

من هنا كان لبنان عضواً مؤسساً في مجموعة برشلونة خلال التسعينيات من القرن الماضي وهو يلتزم بالمؤتمرات التي نشأت عنها في سبيل المزيد من التعاون والتفاعل بين دول البحر المتوسط والتوأمة بين مدنه.

رابعاً: لقد آمن اللبنانيون منذ القدم برسالة إنسانية منزّهة، وحققوا انطلاقاً من هذا الايمان انتماءهم الإنساني العظيم، فكانوا رسل سلام عبر تاريخهم، ونبذوا مبادئ الحرب التي خبروا ويلاتها في مواجهة الحملات التوسعية سواء جاءتهم من الشرق او من الغرب طمعاً بأرضهم وتوخياً لاحتلالها وإذلال شعبها، وحاربوا العنف الذي كان يأتيهم دائماً من جراء تدخل الغرباء ومطامعهم، كما عملوا في خدمة التعاطف الإنساني واحترام الإنسان، فشاركوا مشاركة فعّالة في تأسيس الأمم المتحدة، ووضع شرعتها خلال مؤتمر سان – فرنسيسكو بعد الحرب العالمية الثانية، وطبقوا جميع قراراتها واستعانوا بمجالسها العليا وجمعيتها العمومية على أيّ عدوان تعرّضوا او يتعرّضون له، واسهم فريق من كبار مفكّريهم؛ وعلى رأسهم الدكتور شارل مالك رحمه الله؛ في وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 ، وبعض المؤسسات الدولية الأخرى المتصلة به، حتى أصبح نصه جزءاً لا ينجزئ من القوانين الدستورية في معظم دول العالم.

انطلاقاً من هذا التاريخ الحضاري العريق انعقد في بيروت عام 2002 مؤتمر الفرنكفونية تحت عنوان "حوار الحضارات" لدحض نظرية صراع الحضارات التي كانت سائدة آنذاك وللمساهمة في تعزيز التفاهم والحوار بين الشعوب

ايها الحضور الكريم

إننا فخورون بتاريخنا، ولا نتنكر لحاضرنا ونسعى جاهدين لمواصلة دور لبنان الريادي، وإننا اليوم ونحن على مشارف التغييرات التي تدق أبواب المنطقة، باستطاعتنا أن نكون المثل الديمقراطي الناجح الذي يصون الحريات العامة، والمجتمع المتحرر الذي بوسعه أن ينتقل من حالة التقوقع والانكماش الى حالة الحداثة والانفتاح.

من هنا، فإن حزب التيار الوطني الحر:

1- يعتبر ان الدستور اللبناني يتميّز بحصانة تفوق حصانة أي قانون آخر، ولذلك يجب ان تُراعى في تطبيقه وتفسيره المصلحة الوطنية بالدرجة الأولى.

2- يتمسك بالنظام الديموقراطي البرلماني الحرّ على الصعيد السياسي، وبالاقتصاد الحر على مختلف الأصعدة الحياتية المادية، شرط الاّ يقود تطبيقه الكيفي والمصلحي الخاص الى اي احتكار او انحراف باتجاه الطبقية المالية والاجتماعية المنافية لروح العدالة.

3- يولي الجنسية اللبنانية اهتمامه الأساسي، ويرفض منحها جماعياً لأي فريق يرمي الى الاستطيان في أرض لبنان

4- يسعى بكل ما أوتي من قدرات إلى ترسيخ الوعي الوطني، وبناء ثقافة سياسية تحرر المواطن من التبعية الإقطاعية والعصبيات الإقليمية والطائفية، ومواكبة الأجيال الجديدة في طموحاتها الآنية والمستقبلية، وبالتالي تثبيت اللبناني في مفهوم حركي تقدمي خلقي يحقق انتماءه الأساسي النهائي لوطنه.

5- يناضل في سبيل بناء الدولة الحديثة، وتطهير إدارتها من عناصر الانتهازية والفساد وإصلاح تلك الإدارة بإعادة النظر كلياً في مؤسساتها المختلفة على قاعدة إرساء الحكم الصالح.

 

6- يتعهد بالمحافظة الكلية الصادقة على البيئة ومحاربة كل اعتداء عليها، وحماية المناطق الخضراء، وتطبيق أدق وأسلم القواعد في نشر العمران على حساب الخصائص الطبيعية المميزة للبنان.

7- يؤكد أن الإنتشار اللبناني مفخرة لهذا الوطن في أربع جهات الدنيا، ولا بد للدولة اللبنانية من رعايته بمختلف الوسائل، وأول ما يطالب به الحزب هو توحيد الانتشار اللبناني وإيجاد إحصاء دقيق علمي لجميع المنتشرين اللبنانيين في أي مكان تحت الشمس، والإفادة من قدراتهم الهائلة في كل ميدان، وتأمين آلية لممارسة حقهم بالاقتراع والترشيح انطلاقاً من أماكن إقامتهم.

هذا جزء من ميثاقنا الذي سمعتموه اليوم ، والذي يُختصر بمحاولة جعل لبنان وطن الإنسان. ولطالما كنا متأكدين أنه ليس بمقدورنا تحقيق ما نطمح إليه إلا من خلال برنامج إصلاحي أعددناه مسبقاً وخضنا على أساسه الانتخابات النيابية. وهذا البرنامج الهادف الى قطع دابر الفساد والإنطلاق بالدولة نحو التقدم والازدهار، سنسهر على تطبيقه في التيار الوطني الحر.

عشتم وعاش لبنان