خطاب دولة الرئيس العماد ميشال عون في 15 تشرين الأول 2006 في بيروت 

  14 تشرين الأول 2006 

يـا شعـب لبنـان العظيـم

إنها الذكرى السنويَّة السادسة عشرة لذلك اليوم المشؤوم: الثالث عشر من تشرين الأول عام ألف وتسعماية وتسعين. إنها أهم محطة في تاريخ نضالنا كما في تاريخ لبنان المعاصر.

 

  ففي ذلك اليوم، قام الجيش السوري بهجوم شامل على آخر معقل للحرية ليس في لبنان فقط بل في الشرق بأسره؛ فكانت المرة الأولى في التاريخ التي يحاصَر فيها شعب بكامله من كل الجهات ويعاقب... وذنبه الوحيد أنه طالب بحقوقه البديهيَّة هاتفاً: حرية، سيادة، استقلال... ولم يكن ذلك ليحدث لولا الغطاء الدولي والمحلي، وقد كانت هذه العملية من سخريات القدر إذ أمطرت الدنيا وصحت على سطح واحد، فتكوّن أكبر تحالف دولي لتحرير الكويت، وفي الوقت ذاته كان هناك تشجيع وضوء أخضر لاحتلال لبنان.

لقد غُلب الشعب اللبناني على أمره يومذاك وخسر المعركة، وسقطت معه أيضاً في ذلك اليوم القيم الانسانية والشرائع التي تنادي بحقوق الانسان..

وظلَّ الثالث عشر من تشرين الأول في وجداننا كرامةَ الخاسرين وذلَّ الرابحين.

وكان عار تاريخي لا يمحى، وصم جبين كل من وقف متفرجاً آنذاك... وكانت جريمة في عنق كل من شارك في سفك دماء الأبرياء...

في ذلك اليوم، بدأت مسيرة نضالية طويلة تميّزت بصمودنا، وأقلمت المقاومة مع ظروف المرحلة، ونقلت نشاطنا من الداخل الى آفاق العالم الواسعة؛ فشاركنا هذا النضال الانتشار اللبناني في مختلف أماكن وجوده، وتجنّدت جميع قواه، فأكملنا سوياً ما بدأناه في بعبدا.

وما وقوفنا اليوم على أرض الوطن وتحت سمائه الحرة إلا تتويجاً لهذه المسيرة الطويلة، ووفاء لوعد قطعته وأنا أغادر أرض لبنان قائلاً: "اليوم وأنا أغادر لبنان الى فرنسا أقول لكم وبعد صمتي الطويل إن العمل الذي بدأتموه لن ينتهي إلا بتحقيقه فإلى اللقاء."

وها نحن قد التقينا، ومعاً سنبقى...

أخاطبكم اليوم، في هذه الذكرى الأليمة، لا لنكء الجراح بعد زمن، بل لنعمّق معاً ايماننا المطلق بأن الإنسان قيمة، وأن مجتمعنا لا يستقيم إلاّ وفق مسلّمات تتصدرها قيم الحق والخير والعدل.

أخاطبكم، لأؤكد لكم من جديد على قناعات وسلوكيات، قاعدتها الصدق والنزاهة والشفافية والشجاعة والوفاء؛ قناعات وسلوكيات، شكَّلت الأساس المتين والإطار الناصع لمسيرتنا النضاليَّة ذوداً عن لبنان، وطناً نهائياً لجميع ابنائه، ودفاعاً عن حقه المقدس في السيادة والحرية والإستقلال.

أخاطبكم، كما في كل مرة، بعد الثقة الغالية التي منحتموني إياها، في الإنتخابات النيابيَّة الماضية، لأؤكد لكم مرة أخرى، وبموجب هذه الثقة، مثابرتنا على الجمع بين اللبنانيين، كل اللبنانيين، في إطار ديمقراطية توافقية عقدنا العزم على تحقيقها، بعد سنوات التباعد والتفرقة وسياسات القهر والإعتقال والإبعاد، والتي تسببت بها ظروف الإحتلال السوري والتي عاشها لبنان على مدى ثلاثة عقود؛ وذلك، بعيداً عن كل أشكال الطائفيَّة والمذهبيَّة والعنصريَّة وكل ما من شأنه أن يفرِّق بين أبناء الوطن الواحد؛ وهذا ما جعلنا أكثر صلابة في مواقفنا إزاء كل القضايا الوطنيَّة، مرجحين دوماً كفة الحوار على التشنجات، والدستور على المزاجيات، أساساً لحل اي نزاعات.

وكانت لنا رؤيتنا الإستراتيجية، والتي تجسدت في المبادئ والمنطلقات التي تضمَّنها ميثاق التيّار الوطني الحرّ وخطابنا التأسيسي؛ وكذلك في ورقة التفاهم مع حزب الله، التي أردناها، الى كونها غاية في ذاتها، على أهميتها، منطلقاً لحوار جدي وبنّاء، طالما سعينا الى تحقيقه مع الأفرقاء اللبنانيين كافة، منذ ما قبل عودتنا الى لبنان في السابع من ايار عام 2005، بغية استشراف الحلول النهائية لكل المسائل الخلافية.

 

ليس إحياء هذه الذكرى الغالية اليوم إلا استحضاراً لكل معاني التضحية والفداء في سبيل الوطن والإنسان؛ ذكرى، أردناها تحية إجلال لمن قدّموا أرواحهم، إبان مسيرة التحرير، على مذبح الوطن قرابين لوحدة لبنان وعزّة بنيه... ونذكر منهم اليوم بصورة خاصة أولئك الذين فقدناهم ولا يزال مصيرهم مجهولاً بسبب تقاعس الحكومات المتتالية على مدى ستة عشرعاماً وحتى اليوم.

إنها تحية إجلال الى كل من روت دماؤهم تراب الوطن دفاعاً عن سيادته وعزته وكرامته في وجه الاحتلال السوري.

إنها تحية إجلال الى من سطروا البطولات دفاعا عن الوطن في وجه كل عدوان إسرائيلي على لبنان.

وبعد، هل تعلمون، أيها الأخوة المواطنون، أن بعض الذين يستأثرون بالسلطة اليوم ويعملون على تهميشكم، هم أنفسهم من وقف ضد إرادتكم يومذاك، وهمّش دوركم وأمعن في إذلالكم؟

لذا فإننا نعلن أمامكم، وبكل اعتزاز، أنه بفضل شهدائنا الأبرار، أولئك الذين نحيي ذكراهم اليوم، وبفضل صمودكم ومثابرتكم على النضال، تحرّر لبنان...

أجل تحرر لبنان... وكانت عودة السيادة والإستقلال، وكانت استعادة القرار الحر... هذا القرار الذي نخشى أن نفقدَه مجدداً جراء شرود سياسي، بل سياحة سياسيّة في العواصم الغريبة.

وكم كنا نوّد، أيها الإخوة المواطنون، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أن نبدأ معاً ورشة البناء، نحن المؤمنين بإرادة الحياة، المترفعين عن سلبيّات الحرب ومنطق الثأر والحقد والكراهية؛ لكننا، ويا للأسف، فوجئنا بأن من تحررنا منه في عنجر عاد وظهر في غير مكان، حيث ضُرب الدستور بعرض الحائط ، وكلُّ ما من شأنه أن يشير الى بقاء الدولة واستمراريتها، وبقي البيان الوزاري كأساً فارغة لا تروي ظمأ.

فها هي الحكومة الحالية، المنبثقة عن أكثريَّة وهميّة، تُشَرْعِنُ اللامبالاة إزاء هموم الناس ومتطلباتهم؛ فتعيث في البلاد فساداً، وتسخِّر أموال الدولة والشعب، كما أنها أعادت البلاد الى سياسة المحاور.

هذه الحكومة إنما تفتقد بتكوينها الى شمولية تمثيل اللبنانيين، لذلك هي لا توحي بالطمأنينة. كما تفتقد بقراراتها الى شمولية المنفعة، مما يضفي عليها صبغة فئويَّة. وهي كذلك احادية في أخذ القرارات المصيرية. ناهيك عن تعطيلها دور مؤسسات الرقابة كافة، والتي هي في النظم الديمقراطيَّة أساس الدولة وأعمدتها.

يقولون لكم إنه بتغيير الحكومة ستقعون في الفراغ، لكنكم في الواقع تعيشون هذا الفراغ من خلال بيان وزاري لم ينفَّذ منه حرف واحد، ومن خلال انحطاط في الأداء يتجاوز حدود الخطأ المعقول الى التصميم المبرمج للاستفزاز. لذا، فلم ولن نتوانى عن تحميل هذه الحكومة كل تطور سلبي قد تشهده البلاد.

لقد ظهر الفراغ في أدائها حين تخلت عن دورها في التصدي للعدوان لتقوم بدور الوسيط بين المقاومة والأمم المتحدة، كما تهرّبت من أداء مهماتها الانسانية والاغاثية، ولولا تضامن المجتمع المدني لوقعت الكارثة الكبرى.

من هنا، كانت الضرورة أن نلتقي بكم، كما عودناكم، لنسترشد بإرادتكم الصلبة وعزمكم الأكيد. فنحن، وكما في كل مرحلة مفصليَّة من حياتنا الوطنيَّة، نتّخذ قراراتنا بوحي منكم، يا أحرار لبنان، لا من الأوصياء والأولياء، وبعيداً عن المصالح الذاتية والاغراءات، كما نرفض أي ضغوط مهما اشتدت، وخصوصاً تلك التي تحمل في طياتها بذور الفتنة..

لذلك، فبحضوركم اليوم بهذا الزخم الكبير والإيمان الصلب بضرورة خلاص الوطن من جلاديه، أثبتم للملأ، مرة جديدة، أن الرغبة في التغيير والإصلاح باتت حالة متعاظمة على امتداد الوطن لا يوقفها أي مانع من أي نوع كان.

إن الأمم العظيمة هي تلك التي تزاوج بين خطابها السياسي وأدائها التطبيقي.

ونحن، ومن هذا المنطلق عينه، نؤكد لكم أن عمليَّة التغيير والإصلاح لن تجد طريقها للتنفيذ الا وفق المبادئ والقناعات التالية:

- نؤمن بالديمقراطية نظامًا للحكم وأسلوبًا للحياة، ونعتبر أنها النظام الوحيد الذي يحفظ كرامة الإنسان، ويحرر طاقاته، ويسمح له بأن يكون سيّد نفسه.

- نعلن تمسّكنا بحقوق الإنسان، كما أقرّتها الوثائق الدولية، وبالحريات العامة التي تشكّل أسس الديمقراطية ودعائمها، مؤكدين أنّ المرأة والرجل متساويان في الحقوق والواجبات وأن المرأة شريك في بناء المجتمع وصنع القرار.

- نتطلع إلى مجتمع أشمل إنسانية وعدالة، حيث تأخذ المواطنية أبعادها الحقيقية، مجتمع يتضامن مع فئاته الضعيفة والمهمّشة، مجتمع لا يضحي بشبابه من أجل شيبه.

- نلتزم الوحدة الوطنية، وأساسُها المشاركة الحقيقية والتوازن، ضمانةً لديمومة لبنان الوطن والرسالة.

- نشدد على العروبة الحضارية المنفتحة والمتفاعلة مع الثقافات كافة، والتي للبنان فيها إسهامٌ رائد.

- نعتبر أن للبنان دورًا في نشر ثقافة السلام في محيطه والعالم، بما هو أرض تلاقٍ وحوار وتفاعل.

إن بناء الدولـة وإصلاحها لا يتمان إلا بتعزيز حكم القانون من خلال فصل السلطات، على ما يؤمّنه من توازن وتكامل وآليات رقابة ومساءلة، أما ضمان السيادة والإستقلال فيتحقق بتلازم الوحدة الوطنية وحكم القانون، فلا يكون عندئذ أقوياء في الدولة وعلى حسابها، بل دولة قوية بإدارتها الصالحة ومؤسساتها، وباحتكامها إلى الدستور والقوانين

أما إحياء الديمقراطية فيتم من خلال إعادة الاعتبار إلى القيم والقواعد التي ترعى حق الاختلاف وحرية الرأي والتعبير، وتنقية الممارسة السياسية من الشوائب والعيوب على أنواعها فلا يكون هناك تضليل اعلامي ولا وعود كاذبة

ويتم أيضاً من خلال تكريس وتعزيز ونشر مبدأ التوافق، فلا يكون تفرّد أو استئثار أو طغيان أكثرية حاكمة على أقلية مهمشة ومقموعة.

وأخيراً من خلال إقرار قانون عصري للإنتخاب، يضمن صحة التمثيل، ويحدّ من تأثير عوامل المال السياسي والعصبية الطائفية، ويؤمّن الإفادة من فرص متكافئة في الإعلام، ويفعّل النشاط السياسي والحزبي، ويشكّل آليّة لتجديد الحياة السياسية، ويحقق مشاركة اللبنانيين المقيمين في الخارج. لذا أصبح من الضرورة الاسراع في وضع هذا القانون وقواعده التطبيقية كي لا يستمر الخلل تحت ذرائع وأعذار يمهد لها بإضاعة الوقت.

من المستحيلات أن تبنى دولة تقوم على الفساد والرشوة، لذا فمن واجبنا أن يتركز العمل على فصل المال عن السلطة، ليتحول المال إلى اقتصاد منتج ولتتحول السلطة إلى دولة عادلة.

ومن واجبنا أيضاً مكافحة الفساد والرشوة عبر تفعيل هيئات الرقابة، والتفتيش، والتدقيق المالي والإداري، وإقرار ما يلزم لذلك من تشريعات، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب.

لن تكون إدارة حديثة وصالحة من دون إعادة الاعتبار للخدمة العامة ورفع مستوى جودتها وتحديثها، واستعادة الثقة المفقودة بين اللبنانيين ودولتهم وذلك بعدم تسييس الإدارة، والإقلاع عن المحاصصة، ومن دون إقرار مبدأ التعامل على أساس المواطنية والكفاءة عبر احترام القانون وصلاحيات المؤسسات المختصة بالتعيين والترقية والرقابة.

إن الأمن الحقيقي هو الذي يقوم على نسج علاقات سليمة بين مكونات المجتمع اللبناني. الأمن الحقيقي ليس أمناً فئوياً، كما درج البعض على وصفه. فهذا النوع من الأمن إنما يؤدي الى التصادم الجماعي ولا يبعث الطمأنينة في النفوس.

ويبقى واجب القوى الأمنيَّة مكافحةَ الجريمة التي هي حالة شاذة في المجتمع، ويبقى الأخطر منها الجريمة المنظمة التي تتمثل بالإرهاب الذي يهدد جميع المجتمعات والذي يخترق جميع الحدود والدفاعات، وأي تراخٍ في التعاطي والاهمال في التحسب للمفاجآت الناجمة، يشكل غطاء له.

إن الأمن المسلح الواجب بناؤه وتعميمه على كامل التراب الوطني هو الأمن الذي يحفظ الاستقرار، ويحمي المواطنين، ويلتزم حكم القانون، ويحترم حقوق الإنسان وحرياته. هذا الأمن هو الذي يجيب في الوقت عينه على تحديات الإرهاب والجريمة، وتَشَكّل المجموعات المسلحة غير الشرعية، والأمن الذاتي. ولا يتحقق إلا بإعادة الإعتبار إلى صدقية الجهاز الأمني اللبناني وفصله عن السياسة، وإيلاء المسؤوليات إلى من يُشهد لهم بالكفاءة والمناقبية، إضافةً إلى تحصين القوى المسلحة ضد كل تأثير خارجي، والارتقاء بها فوق الطائفية والمحسوبية، وتسليحها وتطويرها، بحيث تصبح قادرة على الدفاع عن الوطن والذود عن كرامة بنيه.

إن القضاء العادل والنزيه والمستقل يكون من خلال تحييده عن التجاذبات السياسيَّة والإستنساب، بغية تحقيق العدالة، والسهر على احترام القانون، وصون الحقوق والحريات العامة والخاصة، ثم تحصينه سلطةً دستوريةً مستقلةً، وتعزيز مناعته، وتفعيل هيئات الرقابة الخاصة به، وتطوير مؤهلات القضاة العلمية والمهنية، والتطلع الى تجاوز الحاجة لكل أشكال القضاء الاستثنائي، وإعادة العمل بالمجلس الدستوري بما هو محكمة ساهرة على دستورية التشريع، وصحة عمليات الانتخاب.

أما بالنسبة للتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، فليس الهمّ الاقتصادي والاجتماعي مجرد ملف بين الملفات السياسية ولا هو شأن تقني يوكل إلى فنيين، مهما علت كفاءتهم، إنه مادة الحياة، ومجال الخيارات الكبرى التي يتخذها أبناء الوطن عن إدراك لتكاليفها ولمكاسبها. خيارات تظهّر صورة المجتمع والدولة اللذين يُطمح إليهما.

لقد تراكمت الديون على لبنان بسبب ضمور النمو الاقتصادي، فشهد توسعًا مروعًا في الهجرة، وتعمّق عجز مبادلاته الخارجية. وهو يقف اليوم أمام تحديين توأمين: نمو معطَّل، وأعباء مالية رازحة. ليس هذان التحديان متساويين، فغايات الاقتصاد الرئيسة ثلاث : التنمية والعدالة والتحسب.

إن اقتصاد التنمية، منوط بتعزيز القدرات المالية والتكنولوجية والتسويقية للمؤسسات الإنتاجية، وبإدارة عمليات الخصخصة بكل جدية، وبمحاربة الاحتكارات ومواقع الريع، سواء كانت في القطاع العام أو في القطاع الخاص.

 

أما اقتصاد العدالة، فمعياره إقامة التوازن بين الأعباء والفرص لسائر المواطنين، وذلك من خلال إعادة صياغة النظام الضريبي والتشدد في ضبط الإنفاق العام وتصحيح معنى الإنماء المتوازن بين مناطق لبنان كافة.

بينما اقتصاد الدراية والتحسب، فهمّه الحرص على ألا تستهلك اليوم مقدرات الغد وألا تلقى على الغد تبعات الماضي من دون حساب. ومن متطلباته إدارة واعية ومسؤولة للأعباء والأخطار المالية، بالاعتماد على مقدرات اللبنانيين، وعلى دعم الدول الصديقة والمؤسسات المالية الدولية. وهمه أيضاً دعم المؤسسات التي تعبر عن التكافل الاجتماعي، لا سيما الصحية منها، وضمان الشيخوخة والتعليم، والسهر على حماية مدخرات اللبنانيين من أي مخاطرات أو تعديات. وكذلك حماية مقومات البيئة الطبيعية والثقافية للبنان، كما وتعزيز العلاقات بالمغتربين اللبنانيين من خلال تأطير طاقاتهم الفكرية والاقتصادية لتعزيز مواقعهم وإفادة لبنان منها.

إن السيادة الوطنية والتحديات الخارجية تؤكد على أن المحافظة على الاستقلال الوطني لا تقل صعوبة عن تحقيقه. ومن حق لبنان الذي عاد سيدًا حرًا مستقلاً أن يستعمل مختلف الوسائل لمواجهة كل اعتداء على أرضه وشعبه، أو كل تدخل في شؤونه الداخلية.

ثمة تحديات كثيرة تواجهنا اليوم لا سيما منها حرب تموز وما كشفته لنا من مشكلات.

لا شك أن ما حققه اللبنانيون عبر مقاومتهم، بكافة اشكالها العسكرية والمدنية هو انتصار حقيقي اعاد الإعتبار الى القضية اللبنانيّة بحيث لم يعد لبنان جائزة ترضية لأحد ولا ساحة أو ممراً سهلاً للمؤامرات والتسويات على حساب سيادته واستقلاله وكرامة شعبه.

ومن التحديات أيضاً ألا يعزل لبنان ذاته عن محيطه والعالم، ولطالما تسلّح بالحق وبصداقاته الخارجية، والتزم الشرعية الدولية وقراراتها في المحافظة على سيادته واستعادة استقلاله، وهو العضو المؤسس في منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، والشريك الحاضر في أكثر من منظومة إقليمية ودولية. لكن لا بد من التأكيد بأن العلاقة مع السياسة الدوليَّة يجب أن تكون واضحة. فالحق لا يجتزأ بل يكون هو ذاته اينما كان.

تلك هي المنطلقات الأساسية في السياسة الخارجية التي في ضوئها نقارب كل المسائل الشائكة.

أما بشأن العلاقات اللبنانية- السورية، فنحن نريدها علاقات طبيعية وصحيحة وذلك بمراجعة الماضي وأخذ العبر منه، ورفض العودة إليه وإلى أي شكل من أشكال الوصاية. وتستوجب هذه العلاقات أيضاً إرساءها على قواعد السيادة الوطنية والاستقلال، والإحترام المتبادل، والندية، وحفظ المصالح المشروعة والمشتركة. وهذا يقتضي تثبيت لبنانية مزارع شبعا وترسيم كامل الحدود بين الدولتين وضبطها، وكشف مصير اللبنانيين المعتقلين في سوريا واطلاقهم. كما يجب اعتماد التمثيل الديبلوماسي بين الدولتين، ونقل العلاقات السياسية إلى المستويات الرسمية والمؤسسية. وفي هذا السياق يصبح بالإمكان مراجعة الإتفاقات المعقودة وإعادة تأسيسها على مبدأ التكافؤ ومصالح البلدين.

وفي العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، فإنّ عجز المجتمع الدولي حتى الان عن إيجاد حل يسمح بعودة اللاجئين إلى أرضهم، لن يجعل لبنان يقبل بتحول طابع وجودهم من مرحلي ومؤقت إلى نهائي ودائم.

وفي هذا الإطار، نحن مصممون على إطلاق حوار جاد وسريع مع السلطة الفلسطينية وممثليها في لبنان من أجل معالجة شاملة للملف الفلسطيني بهدف:

- تأمين ظروف معيشية طبيعية داخل المخيمات.

- القيام بالإجراءات اللازمة لتمكين الفلسطينيين من الانتقال داخل لبنان وخارجه، بما يؤكد الالتزام بحقهم في العودة إلى وطنهم ويُثبِت في الوقت عينه الرفض القاطع لتوطينهم في لبنان.

- معالجة ملف السلاح الفلسطيني لانتفاء مبررات بقائه ولتحوله مصدر قلق، بما يؤدي إلى سحب هذا السلاح والترتيب السريع للوضع الأمني داخل المخيمات بما يحقق فرض سلطة الدولة واحترام قوانينها.

أما النزاع مع إسرائيل ومسألة حماية لبنان، فإن خيار لبنان هو التطلع إلى سلام حقيقي يتخطى إنهاء حالة الحرب، ويؤسَّس على العدالة والشمولية فتقبله الشعوب، وتحقيق هذا السلام ممكن من خلال المبادرة العربية التي أقرّت في قمة بيروت.

لقد عانى لبنان الكثير من احتلالات كلفت شعبه الدماء وأرضه الدمار واستوجبت مقاومة سياسية وعسكرية، هي حق شرعي مقدس، مارسه أبناؤه من أجل تحرير أرضهم، مستندين في ذلك إلى الشرعية الدولية وقراراتها. وهذا ما أثبت جدواه في حرب تموز العدوانيَّة الأخيرة.

وحيث أن اللبنانيين تشاركوا في أثمان التحرير، فهم مدعوون اليوم لحماية لبنان وصون سيادته وحفظ كيانه فيعملون مجتمعين متضامنين لأجل استتباب الهدوء على الحدود وفرض سلطة الدولة الفعلية على كامل التراب الوطني، وذلك من خلال تطبيق القرار 1701 الذي يتضمن:

- تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر.

- إطلاق الأسرى اللبنانيين في إسرائيل.

- ضمان وقف الانتهاكات الإسرائيلية للأجواء والمياه والأراضي اللبنانية.

لا شك في أنّ حماية لبنان هي مسؤولية وطنية يتقاسم أعباءها اللبنانيون ويتوافقون عليها من خلال حوار وطني جامع، فيحددون خطة دبلوماسية واستراتجية دفاعية يتم اعتمادها في مؤسسات الدولة الشرعية، وسلاح حزب الله يندرج في هذا الإطار. إن هذا السلاح، الذي ما وجد إلا للدفاع عن لبنان، هو مؤقت. وقد سعينا لإيجاد الإطار الملائم، والظروف الموضوعية التي تنهي دوره، وذلك بإقامة الدولة القادرة والعادلة التي حددناها في ورقة التفاهم، والنابعة من قناعاتنا الوطنية وحاجاتنا. وما يقال خارج هذا الإطار ليس سوى لمآرب خاصة لا تتخطى الرغبة في التسلط وإثارة العصبيات. وما الكلام عن دولة اسلامية وما الى ذلك من انقلابات واستعمال سلاح وفوضى، ما هو الا لتعزيز الخوف ونشر الرعب في البلاد بغية إبقاء اللبنانيين في شرانق مقفلة تخشى الدخول في السلام وتكتفي بالإنعزال.

إننا، إذ ننشد بناء دولة ديمقراطية حديثة وعادلة تلبي كافة حاجات الشعب اللبناني وتحقق طموحاته في العدالة الصحيّة وديمقراطية التربية والتعليم،

وإذ ننشد أيضاً علاقات خارجية تضمن استقلال لبنان وسيادته، نتطلع مع سائر اللبنانيين إلى كشف الحقيقة عن كل الجرائم الإرهابية التي هزّت ضمير اللبنانيين وطالت استقرارهم... وإحقاق العدالة.

وندعو إلى عودة المهجرين بكرامتهم إلى ديارهم ورجوع اللبنانيين النازحين الى إسرائيل.

إذا شئنا أن نخرج من الأزمة الحالية فلا بد لنا من البدء بتأسيس سلطة وطنية قائمة على تمثيل صحيح. وهذا لا يتم الإ باتباع مسار ديمقراطي تتوالد منه المؤسسات الدستورية في شكل طبيعي

وبما أن الشعب في لبنان هو الذي يمارس السيادة ويعطيها وكالة الى مجلس النواب من خلال انتخابات حرة ونزيهة وفي ظل قانون يحفظ التمثيل الصحيح، من هنا فإن المسار الطبيعي لبناء الوفاق الوطني والسلطة الوطنية القادرة يبدأ بتأليف حكومة اتحاد وطني تعمل على إقرار قانون انتخابي جديد ضمن المواصفات التي ذكرنا، وإحياء المجلس الدستوري، ويقوم المجلس النيابي الجديد بانتخاب رئيس للجمهورية، ومن ثم يعمد الرئيس المنتخب الى تأليف حكومة جديدة وفقاَ للدستور والأعراف.

عبثاً يتشبث البعض بشرعية ما هو قائم، بالادعاء أن دول العالم تتعاطى مع هذه السلطة وتعترف بها، لأننا نعرف أن هذه الدول لطالما تعاطت وتتعاطى مع أنظمة الامر الواقع من دون أن تضفي عليها أي مشروعية؛ فمشروعية السلطة لا يعطيها الا الشعب ولا تنبثق إلا عن إرادته. ونحن سنتعاطى بتحفظ مع كل سلطة خارجية لا تحترم مقومات الديمقراطية الحقة وتحاول أن تغطي هذه الالاعيب.

لقد ملأنا الأرض شرحاً واعتراضاً لهذا الواقع المؤلم الذي حرم لبنان من انطلاقة صحيحة للديمقراطية، وآن للجميع أن يفهموا أننا لن نقبل بالاعتداء المتمادي على حقوقنا.

لقد دعوتهم بالأمس، ومن خارج لبنان، عشية عيد الإستقلال عام 2004، الى الحوار فتخلفوا مع أنني حذرتهم من المكابرة والرفض لأن المسؤوليات ستكون كبيرة، وقد وقع ما كنا نخشاه من ضرب للاستقرار، وتمادٍ في انعدام الشعور بالمسؤولية الوطنية.

ثم كانت طاولة الحوار في المجلس النيابي ففشلت لأنها رفضت معالجة الأمور بمقاربة تصلح ما أفسدته الانتخابات من تأسيس للسلطة الحرة، واستعملت لتغطية فشل الحكومة.

إنني أحذرهم اليوم من أن يضيعوا آخر فرصة متاحة لهم لبناء الوطن، والتي لا بد ان تمر بالمسار الذي طرحناه ويبدأ بتشكيل حكومة وحدة وطنية.

وكما دعوناهم بالأمس، عند خروج سوريا من لبنان، الى عدم المكابرة والرفض، ندعوهم اليوم أيضاً الى عدم المكابرة والرفض...

يا شعبنا العظيم،

هذا هو تصورنا وهذه هي منطلقاتنا لبناء الدولة. فبعزمكم وثباتكم تبنى الأوطان وتتحقق الأمنيات.

عشتم وعاش لبنان