الحرية والتحرر

بقلم/ جولي ابوعراج

الحرية غريزة فطرية ومفهوم إنسانيّ ساميّ، تلتقي عنده المشاعر وتتجاوب معه العواطف. يتمسك بها الطفل حتى وإن لم يفهمها القاصر، ويعتبرها الشاب سيمفونية حياته، ويموت من أجلها الألوف والملايين، مقدمين أرواحهم على مذبحها. فهي هبة الله الذي خلقنا على صورته ومثاله.

أهمية الحرية لا تقتصر على معانيها بل على حاجتها كضرورة ماسّة من ضرورات الإنسان، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن إرادته وترجمة صادقة لأفكاره. فبدون الحرية لا تتحقق الإرادة وعدم تحقيق الإرادة يعني تكبيل الإنسان ووأد كافة طموحاته وتطلعاته.

مفهوم الحرية مفهوم قديم، أشير إليه لتمييزه عن حالة العبودية، وللعبودية أكثر من معنى وأكثر من لون ونوع ولعل أصعبها "عبودية الذات".

وعبودية الذات تعني تقوقع الإنسان على ذاته، انغماسه في أهوائه، وإعلاء شأن "الأنا" في حياته دون الالتفات إلى من حوله، ضارباً عرض الحائط مصالح غيره بحيث يكون أسير حاله، والأسير هو الضعيف الذي ُيُعلي شأن" أناه" لأنها وسيلته لحماية نفسه.

هنا تظهر أهمية التحرر.تحرر الذات من قيودها الداخلية لتصبح قادرة على مواجهة الرق الخارجي والقيود الداخلية للذات موجودة تحت عناوين مختلفة ك: حب السيطرة - الأنانية – الشهوات – الانفعالات – الظلم – الخوف – الخضوع للنواميس الخاطئة التي أوجدها البشر- النزعات الغريزية من كراهية، تحدى وخوف- الضغوط الاجتماعية البالية والخ. 

تحرر الإنسان من نرجسية ذاته وأناه، من عقليته الذهنية المنغمسة في وحول "الفكر الواحد" الذي يرفض رأي الغير ومشاركته، ويريد فرض إرادته ومصالحه والسير وفق "شريعة الغاب". التحرر من حالة التبعية والانسياق لأن هوية الإنسان هي الإنسان لا العبد الذي يجسد هوية غيره.

الإنسان المتحرر هو ذلك الإنسان الناضج، الواعي، الذي يأتي سلوكه متناغماً مع كيانه الإنساني وخير نفسه متصلاً، من بعيد أو قريب، بخير الآخرين، لا يفرض بل يشارك، لا يأمر بل يخيّر.

الإنسان المتحرر هو الذي أصبح حراً من عبودية "الكلمات"، لا يتأثر سواء بالتصفيق له أو بالسخرية منه، بل تراه يسير بخطى ثابتة تملئها الثقة.

الإنسان الحر هو المتحرر من قيود العصبية وأغلال العنصرية.

من مستنقع الخداع والتضليل،

لا يساوم لا يكابر،

يغضب دون أن يُبغض،

يثور دون أن يثار،

يسالم دون أن يستسلم.

الإنسان الحر ليس فقط من يتصرف بمعزل عن أي ضغط خارجي مباشر، هذا ليس إلا الوجه الخارجي للحرية. فمعناها العميق، هو التصرف بحيث يأتي السلوك تعبيراً عن الكيان الإنسانيّ كلّه، بحيث لا نكون عبيد حب التحكم، والمال، والإقطاع، والسيطرة.

الحرية تتطلب نضالاً، يبدأ بتصالح الإنسان مع ذاته لا الخضوع لها، لأن الذات هي الحرية "حريتنا هي نحن، هي ذاتنا، هي معنى أن الإنسان إنسان. وما حريتنا إلاَ وجودنا وما وجودنا إلاَ الحرية.."*

بدون هذه الحرية النابعة من قناعة كلّ شخص بأهميتها وبعمق معانيها لا يمكن للبنان أن يسير في مرحلة التحرر. التحرر من الغوغائيات التي فرضت على الشعب على مر السنين لجعله أسير ذاته وبالتالي الآخرين.

ولعل أولى مظاهر التحرر هو التأقلم بمجتمع عرف على مر التاريخ بتنوع ثقافاته وألوانه فكان قوة لبنان رغم هشاشة بنيانه.

التحرر الفعلي هو عندما يصبح كل فرد من أفراد المجتمع اللبناني حكاماً وعامة شعب، قادر على التمييز بين مصالحه وأمانيه وبين المصلحة العليا التي تفرض تحمل مسؤوليات تقي هذا الوطن شرور المساومات الإقليمية الدولية التي جعلت من وطننا ورقة سياسية تكتب عليها استراتجياتها وتخط مصالحها بحبر لا يكمن لسياسي لبنان أن يقراؤه لأنهم منهمكين بالصراع على المناصب وتهميش دور الأخر...

ها هو لبنان يتعرض لعاصفة لا تقل خطورة عن سابقاتها وتحصينه بيد من يدعون أنفسهم "زعماء".

*لطفي السيد

8 حزيران 2006