خلاص للبنان إلا في معاهدة سلام دائم؟ 

GMT 6:45:00 2006 الثلائاء 15 أغسطس

 د شاكر النابلسي -ايلاف

 -1-

كان فؤاد السنيورة أول رئيس وزراء عربي يبكي بلده علناً وفي اجتماع سياسي عربي على مستوى وزراء الخارجية. فقد بكى رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة مرتين خلال إلقائه الكلمة الافتتاحية لاجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في بيروت. كان يتكلم بصوت متهدج وقد خنقته الغصة، ودمعت عيناه، ما اضطر الوزراء العرب إلى التصفيق في المرة الثانية لنجدته، وإعطائه الوقت لاستعادة رباطة جأشه. وكانت الغصة الاولى، عندما تحدث عن أحزان الامهات الثكالي والاطفال الشهداء، مؤكداً الاصرار على أن لا نكون ساحة للصراعات والتجاذبات بعد اليوم، أيا تكن مبرراتها ودوافعها . وبكى مرة ثانية، عندما شدَّد على أن عروبتنا في لبنان غير مشروطة، وهي ليست بالإرغام. إنها عروبة الاختيار والانتماء والالتزام.

والرئيس السنيورة رغم أنه سياسي عريق، ورجل اقتصاد قدير، إلا أنه سياسي رومانسي كباقي معظم سياسيي لبنان، وشخص رقيق بطبعه، له روح وأحاسيس الفنان الرومانسي، يعشق فريد الأطرش، ويغني له بصوته الجميل، على ما يقول أصدقاؤه الذين سمعوه في مناسبات كثيرة.

كلمات السنيورة التي أبكته وأبكتني وأبكت كثيرين أيضاً، كانت مؤثرة جداً، وكانت تبحث عن السلام في ضرورة وقف اطلاق النار الفوري. ووقف هذه الحرب المسعورة التي كانت بمثابة حرب مكائد وحرب مصائد، وليست حرب تحرير، فماذا ستحرر هذه الحرب من أراضٍ وقد انسحبت اسرائيل من كامل التراب "الرسمي" والشرعي اللبناني، ولم تبقَ غير مزارع شبعا التي استولت عليها سوريا، ولم تتنازل عنها إلا من خلال تصريحات المسؤولين السوريين فقط، ولم تتنازل عنها اجرائياً وقانونياً وشرعياً دولياً حتى الآن. ولكن وبعد مضي أكثر من أسبوع على دموع الرئيس السنيورة ما زال لبنان يتعرض للعدوان، ويتعرض للتدمير، ويتعرض للموت في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.

فهل خلاص لبنان في دموع السنيورة، أم في معاهدة سلام دائمة كما فعلت مصر، وكما فعلت الأردن، وكما حاول أن يفعل الفلسطينيون من خلال اتفاقية اوسلو، لولا مواقف المليشيات الدينية الفلسطينية المسلحة المعادية للسلام، والتلكؤ الإسرائيلي؟

 

-2-

لم يفتدِ بلد ٌعربي فلسطين كما افتداها لبنان، قياساً لمساحته وعدد سكانه وإمكاناته العسكرية والمالية.

ولم يُضحِ بلد عربي كما ضحى لبنان من أجل  فلسطين . وكان لبنان الدولة العربية الثانية التي احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية طيلة أكثر من ثلاث عشرة عاماً (1969-1983) كما لم تحتضنها أية دولة عربية، ممن كان يُطلق عليهم دول الطوق، ودول الشوق.

فلا عبد الناصر فتح صدر بلاده للفلسطينيين كما فتحت لهم لبنان، وحتى الآن.

ولا الملك حسين فتح صدر بلاده للفلسطينيين كما فتحت لهم لبنان، وحتى الآن.

ولا حافظ الأسد فتح صدر بلاده للفلسطينيين كما فتحت لهم لبنان، وحتى الآن.

وعندما فتح هؤلاء الثلاثة بلادهم قليلاً للفلسطينيين، اشترطوا أن تكون القضية الفلسطينية ورقة سياسية رابحة في أيديهم.

فعبد الناصر استعمل الورقة الفلسطينية من أجل بسط زعامته على العالم العربي، وكسب تأييد الشارع العربي.

والملك حسين عندما سمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالعمل في الأردن، كان يريد من وراء ذلك الاحتفاظ بالضفة الغربية كجزء لا يتجزأ من الأردن بعد التحرير، وبعد أن ضاعت منه في حرب 1967.

وحافظ الأسد عندما استضاف الفلسطينيين في مخيم اليرموك وغير اليرموك، وفتح أبواب دمشق للمنظمات الفلسطينية الأخرى المعادية لياسر عرفات وحركة فتح،كان يريد أن ينشئ قوة فلسطينية منافسة لياسر عرفات يسيطر عليها ويتزعمها هو، وليس ياسر عرفات، لكي تزداد قوة سوريا الإقليمية في ذلك الوقت.

لبنان وحده هو الذي فتح صدره للفلسطينيين منذ 1948 دون أن يرجو منهم مطلباً، ونشرَ المخيمات الفلسطينية في طول لبنان وعرضها، واستضاف منظمة التحرير الفلسطينية طيلة أكثر من ثلاث عشرة سنة، وفتح ذراعي بيروت لمؤسسة الدراسات الفلسطينية وللكتاب وللشعراء والفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وصدر عن دور النشر اللبنانية أكبر كمٍ من الكتب عن القضية الفلسطينية شعراً ونثراً وتاريخاً وسياسةً ، دون أن يستفيد لبنان من هذه الضيافة لا سياسياً ولا مادياً ولا ثقافياً، وكأنه كان كـ"مرغم أخاك لا بطل". بل وجلبت عليه القضية الفلسطينية الكثير من البلاء أكثر بكثير مما جلبت عليه القليل من العزاء.

فكان لبنان بيت الضيافة العربية الكبير المفتوح لكل طريد ومشرد، بلا رقيب ولا حسيب، ولا تأشيرة دخول.

فالداخل اليه لا يحقق معه عما يفعل، والخارج منه لا يُستجوب ولا يُسأل. وكان جميع العرب يطمعون ويعبثون في حرية لبنان، وديمقراطية لبنان، وصحافة لبنان، وكرم لبنان، ويسيئون استعمال هذه الحريات اساءة كبيرة، كعادتهم في كل زمان ومكان عربي وافرنجي.

إذن، فلبنان دفع ضريبة القضية الفلسطينية، كما لم يدفعها أي بلد عربي من دول الطوق، أو من دول الشوق. وبعد حرب 12 تموز/يوليو، لم يعد لديه ما يحارب من أجله.

فهل سيبكي السنيورة على دمار لبنان، مرة أخرى؟

 

-3-

ماذا بعد حرب الثاني عشر من تموز/يوليو 2006، سواء خرج حزب الله منتصراً أو منكسراً؟

فحزب الله سيخرج منتصراً بالضرورة، وقد أعلن نصره أمس أمينه العام، سواء نجحت اسرائيل في تحقيق أهداف عدوانها على لبنان أم لم تنجح. فالمقاومة هي المنتصرة دائماً تاريخياً ، حتى ولو بقي مقاوم واحد منها. ذلك هو منطق المقاومة. فلا مطارات لها تُهدم، ولا جنود نظاميين لها يُقتلون، ولا قواعد لها تُزال، ولا سلاح ظاهراً لها يُدمر، ولا تملك ما تخشى عليه وتخاف.

وها هو حسن نصر الله وقف بالأمس يقول:

لا تخافوا سوف نعوضكم عما خسرتم، وسنبدأ بالدفع فوراً.

فهوعلى ما يبدو، قد قبض ثمن الحرب قبل البدء بها.

فماذا خسر حزب الله حتى الآن مثلاً؟

لبنان هو الذي خسر، وحزب الله هو الذي ربح.

القضية الفلسطينية هي التي خسرت، وحزب الله هو الذي ربح.

القضية العراقية هي التي خسرت، وحزب الله هو الذي ربح.

معركة الديمقراطية والحريات العامة في العالم العربي هي التي خسرت، وحزب الله هو الذي ربح.

الليبرالية والحداثة والعلمانية في العالم العربية هي التي خسرت، وحزب الله هو الذي ربح.

دعوات الإصلاح الديني والسياسي والتعليمي هي التي خسرت، وحزب الله هو الذي ربح.

مفهوم الدولة المدنية هو الذي خسر، ومفهوم الدولة الدينية هو الذي ربح.

ومع حزب الله الرابح، ربحت "حماس"، وربح الإخوان المسلمون، وربحت "القاعدة"، وربحت الجماعات الإسلامية، وربحت المليشيات الدينية الفلسطينية المسلحة، وربحت جماعة "الصحوة" في السعودية، وربح سعد البريك، وربح الشارع الديني المتشدد العام في العالم العربي، وربحت سوريا من وراء هذا الربح، وكان ربح إيران أحمدي نجاد ربحاً عظيماً. وسنشهد بعد انتهاء هذه الحرب الملعونة طوفاناً دينياً أصولياً متشدداً أقوى وأعظم من طوفان نوح عليه السلام.

فاهنأوا.

 

-4-

ما العمل في لبنان؟

يجب على لبنان أن يقرر بحزم وقوة، ولكي تكون هذه الحرب آخر حروب لبنان مع اسرائيل ومع العرب أيضاً، أن الوقت قد حان لتوقيع معاهدة سلام بينه وبين اسرائيل أسوة بمعاهدة كامب ديفيد بين اسرائيل ومصر 1979، وأسوة باتفاقية أوسلو 1993 بين الفلسطينيين واسرائيل، وأسوة باتفاقية وادي عربه بين الأردن واسرائيل 1994.

فإذا كانت أكبر وأهم وأقوى دولة عربية كمصر وقّعت معاهدة سلام مع اسرائيل بعد حرب 1973 ، فلماذا لا يكون لبنان شجاعاً وحاسماً بما فيه الكفاية، رغم أنه أصغر وأضعف بلد عربي، ويوقّع معاهدة سلام مع اسرائيل بعد حرب 12 تموز/يوليو 2006، سيما وأنه قطع الآن نصف الطريق نحو معاهدة السلام، بعد قرار مجلس الأمن 1701؟

وإذا كان الفلسطينيون أصحاب القضية السياسية وقعوا مع اسرائيل معاهدة سلام بعد حروب طويلة واعترفوا بدولة اسرائيل، فلماذا لا يكون لبنان شجاعاً وحاسماً بما فيه الكفاية، رغم أنه أصغر وأضعف بلد عربي ، ويوقّع معاهدة سلام مع اسرائيل بعد حرب 12 تموز/يوليو 2006؟

وإذا كان الأردن صاحب أطول حدود مع اسرائيل، والذي يضم أكثر من 60 من سكانه من الفلسطينيين، والذي اقتطعت منه اسرائيل الضفة الغربية، قد عقد معاهدة سلام مع اسرائيل، فلماذا لا يكون لبنان شجاعاً وحاسماً بما فيه الكفاية، رغم أنه أصغر وأضعف بلد عربي، ويوقّع معاهدة سلام مع اسرائيل بعد حرب 12 تموز/يوليو 2006؟

وإذا كان بعض العرب في المشرق والمغرب العربي، يقيمون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة علاقات تجارية وسياسية وعاطفية مع اسرائيل، فلماذا لا يكون لبنان شجاعاً وحاسماً بما فيه الكفاية ، رغم أنه أصغر وأضعف بلد عربي، ويوقّع معاهدة سلام مع اسرائيل بعد حرب 12 تموز/يوليو 2006؟

وكما قلنا، فلقد قطع لبنان نصف الطريق الآن نحو معاهدة سلام دائمة، بصدور قرار مجلس الأمن 1701  القاضي بوقف اطلاق النار، وبسط سيادة الدولة على كل الأراضي اللبنانية.. الخ.

-5-

فما هي الفوائد التي ستعود على لبنان من بقائه في حالة حرب مع اسرائيل، سيما وأن أراضيه كلها أصبحت محررة منذ عام 2000، ولم يبقَ إلا مزارع شبعا التي تقول اسرائيل انها سورية وليست لبنانية. وفي اللحظة التي تعترف فيها سوريا رسمياً وشرعياً بأن مزارع شبعا لبنانية فإن اسرائيل تنسحب منها رأساً، ممهدة الطريق أمام معاهدة سلام دائم مع لبنان، مُنهيةً بذلك صراعاً عسكرياً وسياسياً دام أكثر من نصف قرن.

وما هي الفوائد السياسية والاقتصادية والثقافية التي ستعود على لبنان فيما لو وقّع معاهدة سلام مع اسرائيل، بعد انتهاء هذه الحرب مباشرة؟

وهل يجرؤ السنيورة على ذلك، ويكون بطل السلام، وشهيد السلام، إذا اقتضى الأمر، كما كان أنور السادات؟

وهل هذه الفوائد، هي الفوائد نفسها التي تتمتع بها مصر الآن، ويتمتع بها الأردن كذلك؟

وما هي الأضرار السياسية والاقتصادية والثقافية التي ستعود على لبنان، من جراء توقيعه على معاهدة سلام مع اسرائيل؟

إن ضرورة توقيع معاهدة السلام بين اسرائيل ولبنان كخلاص وحيد للبنان من مأزقه الداخلي والخارجي الآن، هي ما لا يجرؤ أحد أن يدعو إليه الآن في "نشوة النصر" و "وقفة العز" التي يعيشها الشارع العربي الآن.

بل إن صاحب هذه الدعوة سوف يلقى رجماً أكثر مما يلقى إبليس في رمي الجمرات بمشاعر منى.

ومع هذا سوف نحدثكم في المقال القادم عن فوائد وأضرار اتفاقية السلام بين الفيل والفراشة.

السلام عليكم.

 

Shakerfa@Comcast.net