القرارات الصعبة المطلوبة من «حزب الله»

نيويورك - راغدة درغام     الحياة     - 11/08/06//

بعد مقاومة «حزب الله» لسنوات عدة ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب ليتولى بسط سلطة وسيادة الدولة وحدها هناك، أتت أخيراً موافقته هذا الاسبوع على فكرة إيفاد الحكومة 15 ألفاً من الجيش انما بعد حربه مع اسرائيل المدمرة للبنان. جميل أنه وافق على أن يتولى جيش الدولة مهماته الطبيعية، انما «حزب الله» لم يسلّم بعد بأن السيادة هي قطعاً للدولة دون غيرها ولم يتخذ الاجراء الوحيد الذي من شأنه أن يضع حداً للحرب، وهو تحديداً تسليم سلاحه الى الدولة. ولا يزال «حزب الله» يمتلك مفاتيح إطالة الحرب أو انهائها وعلى عاتقه يقع عبء اثبات النيات. فإذا ظن أن مجرد مباركته رغبة الدولة في ارسال الجيش الى الجنوب سيغيّر توجه مجلس الأمن الدولي بما يسمح له باستمرار امتلاكه السلاح، يكون «حزب الله» يناور لكسب النقاط رغم الثمن الكبير لهذه الحرب التي تمارس اسرائيل فيها وحشيتها. فمجلس الأمن الدولي لن يبارك احتفاظ «حزب الله» بالسلاح تحت أي ظرف كان ومهما تولى وفد جامعة الدول العربية مهمات تعديل مشاريع القرارات وحاول تقنين سلاح «حزب الله» في خانة الحوار اللبناني - اللبناني وكل من يحاول تمرير فكرة قيام سيادتين متوازيتين في لبنان، سيادة الدولة وسيادة «حزب الله» انما يسيء جوهرياً الى لبنان لأن بقاء واحدة من السيادتين يعني الغاء الأخرى. والأمل ببقاء سيادة الدولة في لبنان وليس بالغاء «حزب الله» لسيادة الدولة.

مواجهة اسرائيل حرباً هي قرار سيادي يجب أن تتخذه الدولة وحدها، وإذا كان للدولة ان تمضي في مواجهة الحرب الاسرائيلية في لبنان، على «حزب الله» أن يتخلى عن تلك السيادة التي اختطفها وان يعيدها طوعاً الى الدولة باجراءات ملموسة تتعدى بلاغة خطب السيد حسن نصرالله وتدخل حقاً في المفاتيح الحقيقية للسيادة. ترجمة هذا واضحة: تسليم أسلحة «حزب الله» الى الدولة وحل الميليشيات والاندماج المنظم في جيش الدولة من دون شروط أو مساومات.

بكلام آخر، وبمنتهى الصراحة والصدق، ان أمام «حزب الله» قرارات عليه اتخاذها تتعلق بأكثر من معركة في حرب أو بقرار لمجلس الأمن. عليه مسؤولية تاريخية تقتضي ان يحسم ان كانت هذه حرباً «وجودية» له كحزب ومنظمة حتى وان أدت الى دمار كامل للبنان وهلاك لشعبه. أو، ان كان قراره هو وضع البلاد فوق الحزب، ووضع لبنان فوق أية اعتبارات اقليمية. هذه الزاوية ذكرت تكراراً مركزية خيارات «حزب الله» لمستقبل لبنان وشعبه ان كان نحو رخاء أو دمار البلاد. بتاريخ 6 كانون الثاني (يناير) 2006، أي قبل ثمانية أشهر تماماً، جاء مقال هذه الزاوية بعنوان: سيناريوات لـ «استدعاء» ضربة عسكرية للبنان وسورية. جاء لينبه الى إعدادات واستعدادات وسياسات خطيرة كانت تصنع حينذاك، ومن المفيد الاقتباس منه. «يتحدثون في الأوساط الدولية عن سيناريوات تدق في عصب القرارات «الوجودية» لكل من النظام في سورية ولـ «حزب الله» ويحذرون من عواقب ضرب مدن اسرائيلية عبر الحدود اللبنانية على كامل سورية ولبنان. هذا الكلام ليس عشوائياً وانما ينطلق من مؤشرات على أرجحية لجوء دمشق الى اجراءات استدعاء ضربة عسكرية اسرائيلية للبنان، وسورية، الى جانب تأجيج الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية عبر تفعيل وتمكين الفصائل الفلسطينية الموالية لدمشق. أهم حلقة في الاجراءات على الساحة اللبنانية وعبرها هو «حزب الله» الذي يمتلك أدوات تنفيذ الاجراءات أو تعطيلها. لذلك فإن مسؤولية توريط لبنان في قصف أو غزو اسرائيلي له تقع على أكتاف قيادة «حزب الله» التي عليها أن تختار اليوم بين تحصين لبنان ضد الاستخدام والانتقام وبين التضحية به خدمة لسورية أو لايران». هذا اقتباس حرفي لما جاء في هذه الزاوية. وهنا اضافات لمجرد إبراز ماذا كان يعد ولماذا.

القيادتان في هاتين الدولتين قد تجدان أن من مصلحتهما في هذا المنعطف استفزاز اسرائيل عبر «حزب الله» وعبر الفصائل الفلسطينية اما لتحويل الأنظار والضغوط عليهما، أو لحشد العاطفة المعادية لاسرائيل لتخدمهما محلياً واقليمياً... أي عمليات عبر الحدود اللبنانية - الاسرائيلية يقوم بها «حزب الله» في هذه المرحلة ستعد قراراً مدروساً لاستدعاء قصف لبنان. وأي تشجيع سوري لمثل هذا التطور سيعد رغبة مبيتة لاستفزاز قصف اسرائيلي لسورية ايضاً يؤدي الى تمكين دمشق من أن تعلن أمام العرب أنها في حال حرب مع اسرائيل.

أما ايران فإنها حسب قول علي لاريجاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الايراني «وضعت سيناريو للرد» على محاولات إجبارها على التخلي عن تخصيب اليورانيوم وخططت لـ «جر المنطقة الى حرب» حسب تعبيره حينذاك. و «هذا تماماً ما تداولته الأوساط الدولية من سيناريو حرب اقليمية لإشعال المنطقة تستدرجها طهران وتستفزها سورية»، كما جاء في هذه الزاوية، بما «يقتضي تفجير العلاقات اللبنانية - اللبنانية، الطائفية منها والحزبية، واختلاق مشاكل على الصعيد اللبناني الداخلي».

وأخيراً، واقتباساً من المقال ذاته، هنا مؤشرات ملفتة ايضاً إذ جاء فيه الآتي: «ما يقال اليوم في الأوساط الدولية هو أن دب الرعب في قلوب اللبنانيين عبر سلسلة الاغتيالات أثبت فشله، ذلك ان لبنان ما زال متماسكاً ولم يتدهور في حرب أهلية كما جاءت عليه التمنيات من دمشق. لذلك، فإن الخيار البديل (لدمشق) الآن هو تغيير المسار كلياً ونوعياً لتكون المواجهة على كل الصعد وباستخدام كل الفعاليات اللبنانية منها والفلسطينية من أجل استفزاز اسرائيل الى اجراءات ضخمة تؤدي الى تغيير الحديث عن الموضوع السوري في لبنان والمحاسبة الدولية لسورية على أفعال قياداتها الأمنية».

أما لبنانياً، جاء في ذلك المقال حينذاك «يبقى ان المسؤولية الأكبر، لبنانياً، تقع على عاتق «حزب الله» اذ عليه أن يقرر للمرة الأخيرة ان كان حقاً حزباً لبنانياً أم ان كان ينفذ القرار السوري والايراني بـ «جر المنطقة» الى حرب وتحويل لبنان الى ساحة «جهنم» خدمة لنووية ايران أو اعفاء لسورية من المحاسبة على جرائم الاغتيالات. «حزب الله» هو اليوم أمام الاستحقاق، وغداً آتٍ إليه بالامتحان الأصعب».

كان هذا الكلام في بداية هذه السنة. لم يكن تنبؤاً وانما كان مستنداً الى معلومات. والآن حان موعد الاستحقاقات في زمن الامتحان.

ٍ»حزب الله» امتحن إسرائيل وزعم الانتصار في تحجيم هيبة الجبروت الزائفة لأنه حجب عن الجيش الإسرائيلي ما اعتاده من متعة الانتصار السريع. لكن هذا الامتحان ذا الكلفة الباهظة للبنان ليس انتصاراً حقيقياً لـ «حزب الله»، لأنه يستدعي غزواً إسرائيلياً موسعاً ومكثفاً للبنان لربما ينتهي باحتلال جديد. وليس في هذا الأمر من دواعي الاحتفاء والانتصار لـ «حزب الله» لأنه في نهاية المطاف استدعاء لتسخير لبنان واستباحته لغايات ليست في صالحه ولمستقبله فحقارة إسرائيل ليست مبرراً لتقديم لبنان كبش فداء للطموحات السورية والإيرانية. وقد حان «للوطنيين» في لبنان والعالم العربي أن يفصلوا هوسهم بإسرائيل عما يُحاك حقاً باسم معاداتها وعلى حساب الأجيال العربية. هؤلاء أصحاب المغالاة في تقنين ما حدث للبنان حصراً في رقعة العداء لإسرائيل والعدوان الإسرائيلي، إنما يهربون الى الأمام وهم يتأبطون نكران إثم محور إيران - سورية - «حزب الله» ويعفونه من المحاسبة على تدمير لبنان. إسرائيل عدو واضح لا يأبه بلبنان وشعبه، بل هي تعتبره هدفاً مستباحاً بتجاوز كامل لكل القوانين الإنسانية الدولية ولحقوق المدنيين في زمن الحرب، وهي بذلك ترتكب جرائم حرب والشهادة على ذلك واضحة في جثث الأطفال. لا نقاش في ذلك مع «الوطنيين» الذين يخوّنون من يجرؤ على توسيع رقعة المسؤولية بما يتعدى إسرائيل. التحدي لهم هو التالي: اما أنتم مع مقاومة عارمة تستدعي فتح الجبهة السورية - الإسرائيلية كاملاً وحالاً كي تتدفق اليها أيضاً عناصر «القاعدة» التي يتوعد المسؤولون السوريون بأنها قادمة الى لبنان، أو أنكم تحسمون أمركم بوضوح بين الدعم لسيادة الدولة اللبنانية وبين سيادة «حزب الله» في لبنان باسم مقاومة محصورة في هذا البلد الضحية والبلد المستباح.

لقد حان وقت حسم الخيارات بلغة واضحة: اما مع سيادة الدولة التي تتطلب قطعاً استغناء «حزب الله» عن السلاح والسيادة المصادرة، طوعاً أو اضطراراً، أو مع «حزب الله» البديل عن سيادة الدولة والفاعل عمداً في اسقاطها بترتيب مسبق مع قوى اقليمية هي تحديداً إيران وسورية. إنها معركة «وجودية» في نهاية المطاف. في إمكان «حزب الله» أن يختار الآن، وإن كان على أشلاء لبنان، أن يقبل اخيراً بأنه جزء من حكومة لبنانية تمارس سيادتها بصورة مستقلة عن املاءات إيرانية واعتذارية لسورية. وهذا يتطلب قراراً نوعياً يحول «حزب الله» من تبعية لطهران ودمشق الى طرف فاعل يحفظ حقوق قاعدته الشعبية في التركيبة اللبنانية. أما الانذارات الآتية على لسان وزراء خارجية سورية وإيران وقطر عن «حرب أهلية» آتية حكماً في حال تبني مجلس الأمن الدولي قرار وقف العداءات، فإن له نكهة التحريض على هذه الحرب أكثر مما له نكهة التحذير منها. فلا أحد في لبنان خطر على باله مطلع هذا الصيف أن «جهنم» آتية اليه، كما توّعدت إيران، أو أن حرباً استدعيت اليه، كما خططت سورية ونفذ «حزب الله»، أما وأن «الوعد الصادق» أتى بوحشية إسرائيلية تفوق التوقعات، فلا نقاش في ذلك، لا سيما أن سيرة إسرائيل في الحرب تصنفها سيدة للاحتلال البشع وللتجاوزات المذهلة لا حول الحرب وحقوق المدنيين والقوانين الدولية الإنسانية، فلا اعفاء لإسرائيل بأي شكل من الأشكال في ممارساتها المقرفة في هذه الحرب الظالمة للبنان واللبنانيين. فلو كانت دولة إسرائيل ذات ثقة بنفسها، ولو كانت حقاً دولة قادرة على دعم توعداتها باجراءات لما اختارت أضعف الحلقات لتفجير غضبها. فهذا النمر من ورق يفجر احباطه في أجساد الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين، لأنه يخاف أن يخوض حربه حيث يجب أن يخوضها، أي مع سورية وإيران. لكن تبرير الأوساط المطلعة على التفكير الإسرائيلي يتحدى مقولة افلاس المؤسسة العسكرية ووصفها بنمر من ورق. فهذه الأوساط تقول إن جزءاً من الاستراتيجية الإسرائيلية هو ترك الانطباع لدى «حزب الله» ولدى دمشق أن دمشق غير واردة كمحطة في هذه الحرب وان «حزب الله» ورط إسرائيل في لبنان فيما الورطة حقاً هي للبنان و «حزب الله». الساعات المقبلة ستتحدى ما تتظاهر به إسرائيل وما يتظاهر به «حزب الله» في حربهما على حساب لبنان، إنما الحسم ليس بذلك القرب، سلماً أو حرباً. فلقد بدأ هذان اللاعبان حرباً اعتقدا أن مصيرها في اياديهما حصراً. وكلاهما، حتى الآن، فشلا وأخطآ. فالحروب المستعارة، كما حرب لبنان، لها لسعة الثعبان غير المنتظرة، إنما الألم العارم قد استبق الخلاصة، بل إنه أتى مقدمة لها وبكثير من البناء على جثث أطفال لبنان.