اسـتحـوا
سمير عطاالله
- النهار

30/8/2006
ويجب ان نوضح "اولا" اننا لا نناقش المواقف لا عند المسؤولين ولا عند الذين لا حول لهم ولا طول. الموقف حرية الرجل وقراره او الغلبة على امره. وفي امكاننا ان نقبل هذا الموقف او ان نرفضه او ان نتفهم ظروفه لكن الاعتراض سيبقى دائما على الصيغة على الخطاب على اللغة وقد اردت من ذلك ان اقدم لمسألتين تاريخيتين مصيريتين جدليتين، هما وصول الجيش اللبناني الى الجنوب، ومجيء القوة الدولية. وتشكل الاولى سحابة ثلث قرن من تاريخنا وحياتنا ويومياتنا ونزاعاتنا واقتصادنا وعطوبتنا اليومية وهشاشة البلد وانتفاء الدولة واما الثانية فتشكل اربعة عقود، بدأت يوم طالب رجل بصير بأمرين: تطبيق اتفاق الهدنة مع اسرائيل وارسال قوة دولية من اجل ذلك.
كان ريمون اده يعرف، وليس يحلل، ان الجبهات العربية التي سكتت عام 1967، سوف تفتح امام الفلسطينيين جبهة الجنوب، وكان يدرك ان ذلك سيؤدي في النهاية الى فتنة داخلية، واحتلال الجنوب، وسقوط بيروت، لذلك قال شيئا واحدا وظل يكرره حتى وفاته: القوة الدولية واحكام اتفاق الهدنة.
لجأ الوطنيون الى اسهل الحلول: اتهام ريمون اده بالخيانة والعمالة. اليس هو ابن اميل اده البكر؟ ووقف ريمون اده يقاتل ثم جاء "اتفاق القاهرة" الذي يلغي، بالنسبة الى اسرائيل، أي مبرر لاتفاق الهدنة لانه يجير الجنوب، رسميا لحركة "فتح" واقر النواب الاتفاق من غير ان يسمح لهم بقراءته في سابقة لم يسجل التاريخ ما قبلها ولا ما بعدها. ورفض ريمون اده. وكانت السلطة الوحيدة التي اظهرتها الدولة انها اعتقلت غسان تويني لان "النهار" نشرت وثيقة التنازل عن الجنوب وارضه واهله، وسلمت موقعها في الصراع العربي – الاسرائيلي الى ياسر عرفات الذي فعل ما يمكن ان يفعله اي صاحب مصلحة امام هذا المشهد: انتقل بسلطته من الجنوب الى بيروت، وصار يصدر الاوامر الى رؤساء الحكومة، ويدخل القصر الجمهوري بمسدسه. واقام عرفات لجانا بينه وبين الدولة اللبنانية على المستوى نفسه. في الظاهر طبعا. اما في الحقيقة فكان الضباط اللبنانيون يعاملون على انهم خونة وعملاء يحبون بلدهم ويغارون على ما بقي من فتات سيادته.
ظل ريمون اده يركب اسطوانته: اتفاق الهدنة، القوة الدولية، وكما التقى من يبيع الجنوب في اتفاق القاهرة، التقى النواب انفسهم لالغائه، عندما حل القرار السوري محل القرار الفلسطيني في بيروت. ليس على وجه الارض سياسيون بلا حياء وبلا ماء وجه مثل هؤلاء السياسيين. قحة غير مسبوقة في التوقيع وتفاهة غير مسبوقة في لحسه امام الامم والتاريخ والاهالي. او المواطنين احيانا. فاكثريتهم ليست افضل حالا من اكثرية ارسانهم ومستعبديهم وقائديهم الى الهلاك والهجرة والفقر والذل، وكما تكونون يولى عليكم اولا واخيرا.
لم يكن همّ ريمون اده واصحاب الرؤية حفظ حدود اسرائيل. كان هاجسه حماية قلب لبنان. فهو يعرف انه معد للفتنة والانقسام، وان قسما منه سوف يذهب، بكل سذاجة، الى اسرائيل. وكان يعرف تماما ماذا يعني ذلك، كما كان يدرك ان ثمة رهانا مسيحيا سخيفا على اميركا، وكان يعرف بالتجربة ماذا تريد اميركا. فعندما طلب من المبعوث الاميركي روبرت مورفي ان يرافقه الى الجنوب، عرف انه لن يرى الرئاسة اللبنانية بعد ذلك، وانه سوف يموت منفيا يطارده، بالتساوي، فريقان: الوطنيون والانعزاليون. والجهل.
بدل ان نوفر المحن على الجنوب، معتمدين خيانة ريمون اده في اصراره على القانون الدولي، دخل الجنوب منذ 1969 في اتون النار والخراب والاحتلال. ثم حدث الانسحاب بفضل مقاومة نادرة وفي غياب دولة لا عمل لها في الوطن سوى الابتسام والقاء التحيات وتوزيع النياشين. وضرب توزيع النياشين رقما لا سقف له، حتى اضطرت الدولة الى ان تنجز عملا واحدا: طلبت صنع مزيد من النياشين بعدما نفق مخزونها ولم يبق صدر مكشوف الا وغطي بوسام.
بعد قضية القوة الدولية طرحت مسألة ارسال الجيش. وكان هناك قرار سوري برفض ذلك. كذلك رفضت المقاومة المنتصرة ان تسلم ما حررته الى الجيش القابع بعيدا. وكان الجيش ايام قيادة ميشال عون يوصف بأنه فئوي انعزالي وعميل. فلما جاء اميل لحود قائدا، واخرج ميشال عون من بعبدا واليرزة وصرف جميع ضباطه، صار الجيش وطنيا. لكن قائده الجديد منعه من الذهاب الى الجنوب. وعندما صار قائد الجيش رئيسا للجمهورية قال تكرارا انه لن يرسل الجيش الى الجنوب لئلا يصير حرس حدود لاسرائيل!
تعرض الجيش اللبناني لتعابير سقيمة من هذا النوع في الصبح وفي المساء. وكان ميشال عون قد خاض بالجيش ذات مرحلة "حرب التحرير" و"حرب الالغاء" وحرب سوق الغرب، التي قال وليد جنبلاط انه خاضها من اجل فتح طريق بيروت امام سوريا. ولكن عندما سئل ميشال عون قبل اسابيع عن مهمات الجيش اللبناني قال: "حفظ الامن الداخلي".
من المؤسف جدا، والمغضب ايضا، ان يضطر قائدان سابقان للجيش، الى استخدام هذه التعابير في حقه، ثم ان يضطرا بعد ايام الى قلب الكلام مرة اخرى والجيش يدخل ارضه واهله وعرضه ورحمه في الجنوب. كان في امكان رئيس الجمهورية وبعده دولة الرئيس العماد، ان يقولا اي كلام يبرر عدم ارسال الجيش، كالقول مثلا، وبكل بساطة، إن ارساله ليس في مصلحة الوضع الداخلي والاقليمي معا. وكأن يقال، ما دامت الارض اللبنانية لم تتحرر تماما، فالاولوية للمقاومة لان عملها لا يلزم الدولة بما يلزمها به الجيش. اما ان يقال ان تمركز الجيش على الحدود حماية لاسرائيل، وان الجيش "مهمته" حفظ الامن الداخلي، فهذا اعتداء مرفوض وتدنيس لقبر الجندي المجهول.
الوحيد الذي تصرف بكبر ورفعة وبلا مزادات معلنة، كان الجيش. ظل صامتا وكبيرا. وظل في امرة القيادة السياسية ووحدة البلد، وعندما نزلت الناس الى البلد لم يفعل ما فعله ابطال 7 آب برجال ميشال عون وشبابه في همجية لا تنسى، بل تلقى الورود من شباب لبنان وبناته واطفاله وعجائزه.
لقد ذهب الجيش اللبناني الى الجنوب وهو لا يعرف الطرق. ولا القرى. وهذا ليس عيبه وتقصيره. ذهب الى ارض ليس له فيها ثكن ولا خيم ولا شوادر. وحل بين اهله كالغريب العائد من المنفى. وكان خجلا بنفسه: هل حقا كان يجب ان يأتي ليرى كل هذا الدمار والخراب والموت؟
هل هذا هو الجنوب الذي يرفض رئيس الجمهورية ان يرسل الجيش اليه، هذا الجيش الذي صار وطنيا بعدما طهّر من ضباط ميشال عون الذين طالبوا بعد العودة، وقبل اي شيء، بتعويضاتهم كاملة عن سني الغياب؟
لقد وُجدت اللغة من اجل المخارج. ومشكلة الانسان ان كل قول يسجل عليه الى الابد، وقد قال الجنرال ميشال عون ان الاخوة السوريين تجاوزوا كلامه على تكسير رأس الرئيس الراحل حافظ الاسد. ولكن كيف يهدد قائد للجيش بهزيمة دولة اخرى ثم يعود ويقول لاهله ان مهمات الجيش داخلية؟ لمن اذن شرف الدفاع عن الحدود؟ وكم كان عدد الجيش اللبناني عندما كان الجيش العربي الوحيد الذي انتصر في الحرب مع اسرائيل عام 1948، وبسببها كان اتفاق الهدنة وحدودها التي باعها سياسيو لبنان بقحة لا مثيل لها، بالجملة والمفرّق؟
ألقت ظلمة العدوان الاخير ضوءاً شاحباً وعليلاً اصفر على خواء واضمحلال الدور المسيحي في لبنان. ففي مثل هذه الحرب الوجودية لا وجود لهم الا الكحة. فريق يكح على المقاومة وهي تقاتل من اجل شرف لبنان، وفريق مستجد يكح معها بين وقت وآخر متعثراً بريقه. لقد وجد نفسه في عالم لا يعرف عنه شيئاً سوى الصور وعناوين الصحف. واكتشف ان كوناً يفصل بينه وبين صناعة الصمود الحقيقية. وادرك ان مصائر الاوطان والامم وحياة الشعوب لا تحل على "فنجان قهوة".
لقد وجد المسيحيون المتناثرون انفسهم امام لحظة شديدة الصعوبة. شريكهم في الوطن يهزم اسرائيل وهم ليسوا اكثر من حملة لافتات استنكارية مكتوبة بلغة رديئة في الجانبين. فالذي لا وجود له لا معنى لكلامه مهما قال او مهما لقن. والتاريخ لا يتوقف الا عند القادرين على صناعته، فلا وقت للاضاعة عند الكلام السقيم في لحظات المصير.
طبعاً هذه المأساة لن توقظ المسيحيين الى ما هم فيه من اسمال. فهم لا يدركون، واعني الاكثرية الساحقة من الناس وليس فقط ساسة السوق، ان القضية ليست قضية موقع بل قضية مكان. وليست مسألة كرسي مخلع ومفرغ، بل مسألة وجود. وليست محنة زائلة بل محنة مصير. وليست موضوع بقائية سياسية تافهة ومملة ومفضوحة بل هي موضوع بقاء أخير.
لا. الناس ليست افضل من سياسييها ولا اعقل من ارسانها. استحوا. تعلموا لعبة الوجود وكيف تستحقون هذا التراب الجميل. غيّروا هذه الوجوه. والا فإن مكانكم سيتغيّر الى الابد.