تمويلات حزب الله

د. عبد العظيم محمود حنفي

مدير مركز الكنانة للبحوث والدراسات ¯ القاهرة

mahmoudhanafia@yahoo.com

اعلنت وكالات الانباء ان حزب الله يقوم بتسليم مبالغ نقدية لسكان دمرت منازلهم بسبب القصف الاسرائيلي ولم يعلن الحزب عن المصدر الذي تأتي منه اموال التعويض عن تدمير ما يقدر بنحو 15 الف منزل. ويحتمل ان يتكلف المشروع فيما يبدو ما لا يقل عن 150 مليون دولار ما يثير التساؤل عن مصدر تمويلات حزب الله.

يتلقى حزب الله دعما ماليا كبيرا من مساهمات مؤيدين يعيشون في الخارج, خصوصا الوطنيين اللبنانيين الذين يعيشون في افريقيا, وجنوب اميركا والاماكن الاخرى ذات المجتمعات الشيعية المبعدة الكبيرة. على سبيل المثال, وبعد ان تحطمت طائرة اتحاد النقل الافريقي, في الرحلة 141, والتي كانت متجهة الى بيروت لدى اقلاعها من بنين, في الكونغو في نوفمبر من عام 2004, ادعت تقارير صحافية عربية ان مسؤولي حزب الله الذين كانوا على الطائرة كانوا يحملون مساهمات تقدر ب¯ 2 مليون دولار من وطنيين لبنانيين اثرياء يعيشون في افريقيا.

في الحقيقة, ووفقا للبرلماني الذي ينتمي الى حزب الله, محمد رعد, فان مصادر دخل المنظمة الرئيسية هي مساهمات من شيعة اثرياء وعوائد استثماراتها الخاصة.

تقدم جمعيات خيرية ايرانية واخرى يديرها حزب الله تمويلا اضافيا. على سبيل المثال, وباعترافهم, فان (منظمة الشهيد), والتي يترأسها محمد رحميان, تقوم بتقديم تمويلات خيرية للمقاتلين التابعين لحزب الله. في عام 2001, قامت الشرطة الباراغوية بتفتيش منزل ناشط حزب الله, صبحي محمد فياض, في كوداد ديل ايست, وهي مدينة ممتدة على حدود المنطقة التي تدعى ب¯ (المنطقة الثلاثية الحدود) بين البراغواي, والبرازيل, والارجنتين, وقد وجدوا هناك وصولات من منظمة الشهيد للتبرع, لقد قام فياض بارسال مبلغ يزيد مجموعه عن 305 ملايين دولار. وتعتقد السلطات انه قد قام بارسال ما يزيد عن 50 مليون دولار الى حزب الله منذ عام 1995.

ويدعي محللون غربيون واميركيون ان حزب الله يعتمد كذلك على مجموعة عريضة من المشروعات غير الشرعية ومساع للمتاجرة بالالماس في اميركا الشمالية, واميركا الجنوبية, والشرق الاوسط, واماكن اخرى. ويعتقد المسؤولون الاميركيون ان ما يقدر ب¯ 20 ¯ 30 مليون دولار, قد تم استثمارها سنويا عبر نشاطات غير شرعية لحزب الله في الولايات المتحدة وتشكل جزءا اساسيا من الملايين التي احضرتها ما يصفونه الجماعات الارهابية الشرق اوسطية ولكن هذا الادعاء لم تقدم الولايات المتحدة ادلة تسنده. ويدعون انه في جنوب اميركا, انخرط ناشطو حزب الله على نطاق واسع في المشروعات غير الشرعية , بما فيها ابتزاز على طريقة المافيا من المجتمعات العربية المحلية, وحِيَل استيراد وتصدير معقدة تتضمن تجارا من الهند وهونغ كونغ, وشركات صغيرة منخرطة ببعض من الدولارات فحسب, من قيمة العمل الحقيقي ولكنها تساعد في نقل عشرات الالاف من الدولارات حول العالم. ان المنطقة ثلاثية الحدود ذات اهمية خاصة لحزب الله. وفقا للكلية الحربية البحرية الاميركية, فان الجماعة تستثمر ما يقرب من 10 ملايين دولار كل سنة.

وبالنسبة للدور السوري فى هذه التمويلات تدعي التقارير الاميركية انه في خرق حاد للحذر الذي كان يمارسه والده, قام الرئيس السوري بشار الاسد بتزويد حزب الله باسلحة ثقيلة في عام 2002, والتي اشتملت على صواريخ 220 مليميتر, وقد كان مع هذه الصواريخ اسلحة ايرانية نقلت من سفينة الى المنظمة عبر دمشق. اضافة الى ذلك, ووفقا لمزاعم مسؤولين اميركيين كبار, فقد قام كل من قائد حزب الله السيد حسن نصر الله, ورئيس العمليات الخاصة عماد مغنية بالعمل سوية في تخطيط هجمات ارهابية وعبر الخط الازرق المعتمد من قبل الامم المتحدة, والذي يفصل اسرائيل عن لبنان. وعندما سئل عما اذا كانت سورية ستسمح للبنان بتسليم مغنية والمدرج بشكل بارز على لائحة ال¯(اف.بي.اي) للارهابيين الاكثر طلبا لسلطات الولايات المتحدة, اجابت الناطقة السورية بثينة شعبان, وقتها وهى حاليا وزيرة المغتربين: »لا اعتقد ان هذه هي القضية في الوقت الراهن«. ويقول الاميركيون انه اضافة الى ذلك تستضيف سورية ولبنان اكبر تركيز من معسكرات التدريب الارهابية, وتاتي ايران في المرتبة التالية. ان معسكرات حزب الله والجماعات الفلسطينية تملأ الاراضي الطبيعية, حيث تقوم مدرسة متدربي حزب الله اضافة الى المتدربين الايرانيين بالتجنيد في تكتيكات ارهابية استخباراتية متنوعة.

وبالنسبة للرعاية الايرانية: يقدر الدبلوماسيون الغربيون ان حزب الله يتلقى ما قيمته 100¯200 مليون دولار سنويا من ايران. تزود طهران حزب الله كذلك بمساعدة مادية مقدرة عبر دعمها في التدريب والدعم اللوجستي. ويدعون انه قد يكون افضل مثال موثق عن علاقة ايران العملياتية مع حزب الله هو تفجير 1994 لمركز التجمع اليهودي في بيونس ايريس. اولا, قام صناع قرار ايرانيون كبار بتسليم فتوى لعماد مغنية بامر العملية. وقد عمل مغنية بعد ذلك بالتعاون مع محسن رباني, وهو عميل الجهاز الايراني السري والذي ساعد في تنسيق الخطة بسرية تحت ذريعة ترؤس المكتب الثقافي في السفارة الايرانية في بيونس ايريس. كان حزب الله سيواجه صعوبة اكبر بكثير وهو يقوم بتنفيذ الهجوم من دون تقديم الدعم العملياتي من ايران, والذي تضمن كما تقول التقارير 10 ملايين دولار لتقدم رشوة الى الرئيس الارجنتيني في ذلك الوقت, كارلوس منعم, بهدف ابقاء مشاركة طهران ساكنة.

ويدعون ان ايران دعمت كذلك مشاركة حزب الله في الصراع (الاسرائيلي ¯ الفلسطيني). ليس عبر الحرب اللبنانية الاخيرة فحسب بل يزعمون انه في اغسطس من عام 2002, كان هناك تقارير عن قيام ايران بتمويل معسكرات في وادي البقاع الذي تسيطر عليه سورية لتدريب مقاتلين من حزب الله وحماس وجماعات فلسطينية اخرى لاستخدام انواع مختلفة من الصواريخ. وقد كانت المعسكرات, كما تذكر التقارير, تحت قيادة اللواء (علي رازا تامزار) من الثورة الاسلامية الايرانية. فيما وراء التدريب ومساعدة حزب الله, قامت ايران بتمويل آلة دعاية الجماعة المغذاة جيدا كذلك. وتشتمل هذه قناة المنار, التلفزيون الرسمي الناطق لحزب الله, والتي تطلق على نفسها (محطة المقاومة), وهي تقوم بمساعدة المنظمة على نشر الافكار او الحقائق بشكل واسع. وتشجع النشاط التي تصفه واشنطن بالارهابي عبر العالمين العربي والاسلامي.

ويصلون الى استنتاج مفاده ان الكثير من نشاط حزب الله الخاص في استثمار الاموال من الممكن ان يلخص ببساطة في استغلال الكثافة السكانية الضخمة في الخارج والمتعاطفة مع الجماعة. ان نشاطا كهذا يقصد به ضمان استقلالية مستقبل الجماعة عبر تمويل متنوع, خصوصا في حيال قيام ايران بالمصادقة على تسوية كبيرة مع الغرب (اي تجنب رعاية الارهاب ونشر النشاطات في مقابل علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة). هذا ما تقوله التقارير الغربية عن تمويلات حزب الله ولا شك ان فيها مبالغة مرجعها الموقف العقائدي من حزب الله ودوره ولكنها بلا شك ايضا قد تحوي بعض الحقيقة وليس كل الحقيقة.

* مدير مركز الكنانة للبحوث والدراسات ¯ القاهرة

mahmoudhanafia@yahoo.com

 د. عبد العظيم محمود حنفي * 

  

بين عروبة سعد وعروبة بشار

د. خالد شوكات

* كاتب من تونس chouket@planet.nl 

يطرب العرب إلى الكلام مثلما يطرب غيرهم من الشعوب إلى الموسيقى, قالت ذلك مرة عميدة المستشرقين الألمان الراحلة آنا ماري شمل رحمها الله, و أحسب أن الرؤساء العرب, خصوصا أولئك الذين زعموا لأنفسهم مرجعية قومية عربية, أفضل من وعى هذا الحديث وعمل به, كما أحسب أن الشعوب العربية لاتزال أحرص ما تكون على الحفاظ على هذه الخصلة الحميدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها, فهي لا ترجو من زعمائها غير إعلان الشعارات العظيمة الدينية والقومية, أما الكوارث والمصائب والأزمات المستفحلة الناتجة عن السياسات الفاسدة والديكتاتورية فسيجد لها فقهاء السلطان في الحكم والمعارضة, ألف حجة وذريعة, فالنية أهم من النتيجة, والشعار أهم من الثمار, وما دامت الامبريالية الأميركية والصهيونية تعلن أن بعض الحكام العرب أعداؤها الأبديون, فهم سيبقون بالضرورة الحكام الأبديين.

طيلة ثلاثة وثلاثين يوما من الحرب الاسرائيلية الوحشية على لبنان لم يتكلم بشار الأسد, وعندما تكلم بعد نهاية الحرب احتفل بانتصاره الذي لم يساهم في تحقيقه بشيء, وانتشى بفوزه في حرب لم يدفع إليها جنديا واحدا من جنوده, وتحدى العالم بمقاومة لم تجر على أرضه المحتلة منذ أربعة عقود, وخون رجالا و أقواما هم في الأصل من صنع الانتصار والفوز والتحدي, بالحكمة والصبر وسعة الأفق, وبالتعفف عن المزايدات وسوق الشعارات وخديعة الشعوب ببيعها الأوهام والمخدرات الدينية والسياسية والخطابية.

التيارات السياسية الكبرى في العالم العربي, وخصوصا الإسلامية والقومية منها, تثبت دائما أنها في طليعة الميسرين أمر الخديعة أو المتقبلين لها بسهولة, فالتنظيم الدولي للاخوان المسلمين على سبيل المثال, وهو الذي يضم حركات إسلامية كثيرة من المشرق إلى المغرب, أصبح بقدرة قادر متجاوزا لآثار تجربته الأليمة في حلب وحمص وحماة, حيث سقط ما يقارب المائة ألف من إخوان سورية في مجازر جماعية, تماما كما التنظيمات القومية الناصرية التي ستسمو برؤيتها عن ماضي التنظيمات البعثية معها, وما انجر عنه من عمليات تصفية وتعذيب وسجن جماعية طالت الآلاف من رفاقهم في الشام وبلاد الرافدين, وليس المقابل إلا بضع كلمات مزايدة لا داعم لها على الأرض, غير فساد عائلة وتجبر طائفة ومصادرة حقوق شعب يئن تحت نير مستبد ظالم جاوز غيه المدى.

بشار الأسد ليس شاذا في عمله بقاعدة بيع الكلام لشعوب مولعة بالكلام, فقد سبقه إليها صدام حسين الذي لايزال يصر على ممارسة العادة القبيحة ذاتها حتى وهو خلف القضبان, ففي أقل من طرفة عين, أضحى الرئيس مؤمنا وأصبحت العقيدة البعثية العلمانية عنده مع العقيدة الإسلامية جناحين لطائر الأمة, كما أعطيت الأوامر للأزلام ذاتهم الذين ذبحوا الصدر الأول والثاني ونكلوا بأعضاء الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية وبالأحزاب الناصرية واليسارية أيضا, لتنفيذ الحملات الإيمانية والروحانية, وعلى هذا النحو غفر لصدام حسين ما تقدم من ذنبه و ما تأخر, وعاد قائدا إسلاميا وقوميا عظيما, وأصبح أعداؤه من الإسلاميين والقوميين العراقيين عملاء للمحتل وأذنابا للأميركيين والبريطانيين, لا لشيء إلا لأنهم فشلوا في المعركة الكلامية, والكلام سابق على الفعل عند العرب مثلما أسلفت الإشارة.

بشار الأسد بدا في خطابه الاحتفالي الأخير قائدا قوميا عربيا عظيما أيضا, على الرغم من أنه لم يخض معركة واحدة ضد العدو, إنما خاض طوال السنوات السبع الماضية من حكمه السعيد مئات المعارك الشرسة ضد أبناء شعبه ومثقفيه وسياسييه , وضد أبناء شعب شقيق ومثقفيه وسياسييه, فالعظمة القومية عند العرب ليست حكما صالحا رشيدا يحارب الفساد والمفسدين, ولا انتخابات ديمقراطية تعددية حقيقية أو دولة مؤسسات شرعية وقوانين تقدس حقوق الإنسان والمواطنة, إنما هي خطاب رنان يخون العملاء والمأجورين من أتباع الامبريالية الأميركية والصهيونية ويهدر دمهم على أيدي أجهزة المخابرات العتيدة.

الأسد الابن يرى العروبة أيضا, أن يحارب اللبنانيون جميعا من أجل نظامه, وأن لا يرضى اللبنانيون بغير الدور المرصود لهم من خارجهم حتى بعد أن تمكنوا من تحرير جميع أرضهم, أما العروبة التي تجعل من مقاومة الجولان ضرورة فهي عروبة ضارة قد تقود إلى إسقاط نظامه, والنظام أكثر قداسة عند بشار - ووالده من قبله- من مصالح سورية والمصالح القومية العربية, فخوض معركة الجولان ربما أدت في بدايتها إلى إنهاء الحكم العلوي لكنها ستنتهي حتما بتحرير الأرض السورية تماما كما تحررت أرض الجنوب اللبنانية, فليس ثمة معركة تحرير أرض مغتصبة انتهت بخسارة طال الزمان أم قصر, وليس ثمة شعب في الدنيا مهما كان ضعيفا خسر معركة حرية دخلها بإرادة حرة.

عروبة بشار الأسد هي عروبة قطرية محضة, لا يختلف وضعها عن الوضع في أي دولة عربية أخرى لم يزعم نظامها مرجعية قومية, إن لم يقل إنها أكثر قطرية من أي حالة عربية أخرى, فلقد كانت العداوة الجارية بين النظامين البعثيين في سورية والعراق ألد عداوة قامت بين دولتين عربيتين, تماما كما أن العداوة بين النظام السوري ومعظم الأنظمة العربية هي اليوم العنوان الأبرز في المشهد السياسي العربي.

سيادة لبنان ووحدته الوطنية ليستا ضمن وارد المصلحة القومية العربية لدى بشار الأسد, وللحفاظ على نظام طائفي فاسد في سورية, لا ضير من تحطيم دولة شقيقة وإعادتها إلى فوضى الحرب الأهلية والمقامرة على مصيرها, فالأهم من لبنان ومن سورية ومن كل العرب بقاء النظام العلوي سيدا على قصر المهاجرين, والأهم من الجولان وجنوب لبنان أن يظل الأسد رئيسا للأبد, فلقد كانت تركة الأب ثقيلة, ولم يكن التوريث كما بدا ضرورة قومية أو وطنية بقدر ما بدا ضرورة عائلية طائفية محضة.

بشار الأسد يطرح عروبة متهافتة بدل العمل على تجديدها, لكن أنى له تجديدها, فرئاسته كما أثبتت الأحداث كانت هروبا عائليا إلى الأمام, من أجل تأجيل عملية الإجابة عن الأسئلة الكبرى إلى ما لا نهاية, ومن أجل الحفاظ على المستور منذ قيام الحركة التصحيحية, والأهم من كل ذلك, حفاظ العائلة والعائلات المتصاهرة معها على امبراطوريات مالية ومصالح عظمى تناثرت في أصقاع العالم على حساب الشعب السوري المقهور والمفقر والمسجون.

بشار الأسد لا يستطيع الإجابة عن الأسئلة الصعبة من قبيل متى سيمارس الشعب السوري حقه في الحرية والتعددية والديمقراطية?, ومتى سيكون من حقه فتح جبهة لتحرير أرضه المغتصبة في الجولان?, ومتى سيكون بمقدور نوابه المنتخبين حقا أن يفتشوا في ملفات الفساد وتهريب مليارات الدولارات من المال العام والخاص إلى الخارج?, ومتى سيحال المتورطون في جرائم التعذيب والاغتيال والاعتقال التعسفي الى القضاء, ومتى سيخرج الحكم من دائرة الأب والابن والحفيد..?

لقد رغب الأسد الابن في أن تطوى صفحة الأحداث اللبنانية المفتعلة, صفحة جرائم بشعة مورست في حق مجموعة من أهم الشخصيات اللبنانية في التاريخ المعاصر, في مقدمتهم باني لبنان الجديد الشهيد رفيق الحريري, وهو بدل أن يبتعد عن مسرح الجريمة ظل يراوح مكانه حولها متطلعا إلى عودة ظالمة إليها, عبر رفع شعارات قومية كبرى, ليس الهدف من ترديدها غير التضليل على جنايات كبرى والهروب من محاكمة كبرى..

عروبة بشار باختصار هي عروبة مضللة, ليس الهدف منها تحدي عدو خارجي ولا نصرة مقاومة محتل ولا الوقوف في وجه شرق أوسط جديد أو قديم, إنما هي عروبة كلمات فارغة تخدع عقول شعوب يائسة, وتهدف إلى الهروب من استحقاقات وطنية وقومية حقيقية كبرى, وتكرس منطق الخديعة الذي لم يمله العرب بعد, ويحول دون التأسيس لعروبة جديدة متجددة تتجاوز الزعامات والخطابة والشعارات, إلى الشعوب الحرة التي تعبر عن إرادتها من خلال صناديق الاقتراع الشفافة وممارسة الرقابة على حكامها بتنصيبهم وإقالتهم كما تشاء وبمحاسبتهم على الانجازات لا العبارات.

العروبة الجديدة المتجددة جاءت بعض معالمها الرئيسية في خطابات سعد الحريري ووليد جنبلاط وفؤاد السنيورة وسواهم من رموز حركة »14 آذار«, المتصدية لحملة الافتئات الأسدية على القوى الديمقراطية في لبنان, فهذه الخطابات أكدت جميعها على تمسك لبنان بعروبته, العروبة التي تجعل الشعوب العربية جميعا تقف على قدم المساواة, فليس ثمة مشروع قومي عربي يمكن أن يسوغ احتلال دولة عربية لدولة عربية أخرى, وإذلال شعب عربي لشعب عربي آخر, و لا ثمة مشروع قومي عربي يمكن أن ينجح إذا بني على ظلم وحيف واحتقار.

أما معلم العروبة الثاني بحسب الحركة الديمقراطية اللبنانية, فليس سوى الديمقراطية نفسها, فقد أثبتت الأنظمة الشمولية والديكتاتورية التي حكمت في العالم العربي تحت يافطة الشعارات القومية, أنها أكثر إساءة للعروبة من أي نظام آخر, حيث لا يمكن أن يتخيل أن نظاما يعذب ويسحل وينتهك حرمات مواطنيه بمستطاعه العمل على صيانة المصالح القومية, كما لا يمكن لنظام يقوم على التوريث والفساد العائلي وعلى مصادرة الحريات العامة والخاصة أن يزعم الدفاع عن الوطن والأمة والشرف القومي.

المعلم الثالث للعروبة وفقا لخطاب سعد ورفاقه في حركة الاستقلال اللبناني, النأي بالأمة عن المزايدات والشعارات والخطابات الجوفاء, والتركيز على العمل الجدي في ورشات الإعمار وإعادة البناء, والسعي إلى إقامة دولة لبنانية ديمقراطية جامعة لا الحفاظ على دويلات طوائف داخل الدولة, تعمل كل واحدة منها لحساب جهات أجنبية, لا تهمها مصلحة اللبنانيين بقدر ما تهمها مصالحها الذاتية, فمن حق اللبنانيين كما السوريين وسائر الشعوب العربية أن تتقاسم الغرم كما تقاسمت الغنم, وأن تتساوى في التضحيات والجبهات, فلبنان على سبيل المثال قد حرر أرضه بالمقاومة, وليس من العدل مطالبته بالمقاومة بالنيابة عن غيره, اللهم إلا إذا اتخذ العرب قرارا جماعيا بالمقاومة الجماعية, حينها فقط يمكن تحويل كافة الجبهات إلى جبهة واحدة.

خلاصة القول أن بشارا طرح مشروع عروبة متداعية تبعد العرب عن طرح سؤال الديمقراطية وتسوغ له أمر قيام اللبنانيين بالمقاومة بالنيابة عنه, لا لتحرير الأرض إنما للإفلات من العقوبة على جرائم بشعة قام زبانيته بتنفيذها, وتؤبده على حكم سورية وتغطي على طبيعة حكمه الشمولي والديكتاتوري والطائفي, أما سعد فقد طرح مشروع عروبة متجددة ترتكز على ضرورة دمقرطة الكيانات العربية أولا قبل المرور إلى أي مرحلة وحدوية, وعلى أهمية أن تبنى العلاقات العربية- العربية على أساس المساواة والاحترام المتبادل, وعلى ضرورة محاسبة المجرمين والمفسدين في الأرض العربية مهما علا شأنهم حتى وإن كانوا رؤساء دول رعب وجمهوريات.

وبين العروبتين, سيظل العرب في تقديري أكثر عطفا على من يمنحهم الكلمات, لأنهم يعولون على أن يعوضهم الله سبحانه وتعالى في جنة الخلد عن الإنجازات..وهم لا يدرون - كما قال الكواكبي- أنهم بعقليتهم هذه قد يخسرون الدارين, الأولى والآخرة.

* كاتب من تونس chouket@planet.nl 

 د.خالد شوكات* 

  

من يقصد أسد بـ "أشباه الرجال"?!

أحمد الجار الله/السياسة

 يقولون في طهران, كما في دمشق, إن »حزب الله« انتصر, وأن نزع سلاح »حزب الله«, غير مطروح الآن, أو غير قابل للمناقشة, وكأن الانتصار المزعوم للحزب هو انتصارهم, أو كأن قتال رجال الحزب هو قتالهم وشجاعته شجاعتهم, وبصرف النظر عن سرقة شهادة الشهداء, وشجاعة الشجعان, فإن الواقع يقول إنه لا يوجد هناك انتصار لأحد, لا في الجانب الإسرائيلي ولا في الجانب اللبناني... المنتصر كان الموت, وكان الخراب والدمار والأوصال المقطعة, والجسور المهدومة, وبالتالي كانت الهزيمة للبنان الذي تكسر وتحطم بسبب »حزب الله« الذي وصل به وهم الانتفاخ حد التصور بأنه أصبح دولة أقوى من الدولة اللبنانية, ومن حقه أن يقرر عن اللبنانيين في مسائل الحرب والسلام, وفي قضايا مصيرية تعني حياة هؤلاء اللبنانيين أو موتهم.

إن بعض اللبنانيين يصمت الآن عن عذابه ودمار مساكنه, ويصمت عن موته وموت أبنائه من باب المجاملة لحفنة من الدولارات الإيرانية وردت إلى »حزب الله« تحت عنوان التعويض عما جرى من خسائر, وهي دولارات أميركية لاتجدي نفعاً لعدم تساويها مع حجم الخرائب والركام, ولانفضاح دورها كوسيلة لزيادة الشعبوية, وتوسيع مساحاتها على حساب شرعية الدولة وعلى حساب وجودها, وقد كان الأجدى لهذه المعونات المصروفة من »حزب الله« أن تكون بالعملة الوطنية اللبنانية (الليرة) لا بالعملة الأميركية العائدة إلى »الشيطان الأكبر«, على الأقل من أجل ضبط مسارها من قبل البنوك, ومعرفة من أين أتت وإلى من ذهبت, ومن أجل تثبيت سعر الليرة اللبنانية من خلال تزايد الطلب عليها. وحتى الآن لا يزال من غير المفهوم كيف أن إيران, وبواسطة ذراعها »حزب الله« توزع المنح بالدولار الأميركي رغم عائديته إلى الشيطان الأكبر, وإلى العدو الأول?

في ضفة الأشقياء الثانية, أي في الجانب السوري لا يبدو المشهد أقل إرباكاً ولا معقولية من المشهد الإيراني, فالنظام السوري, وللمرة الأولى, يبدو في عزلة محكمة عربيا ودولياً, وحتى العرب باتوا ينفرون منه, ويعتبرونه نظاماً بلا مصداقية, وغير متناغم مع مفاهيم التضامن العربي ووحدة الكلمة العربية... هذا النظام لا يعرف حتى أركانه كيف يتداركون أخطاءه, وسفاهاته السياسية, وتصيبهم الخيبة عندما يحاولون التفسير والتبرير فتبدو سفاهة النظام بتفسيراتهم وتبريراتهم أكبر بكثير من معناها, بينما المقصود محو هذا المعنى وإلغائه وإحلال مقاصد أخرى مفترضة في مكانه, والمثال المضحك على ذلك ما قاله وزير خارجية أسد وليد المعلم إن رئيسه لم يقصد أياً من الرؤساء العرب بكلمته »أشباه الرجال«, وربما قصد بها أناساً داخل سورية وخارجها, وإذا كان قول المعلم صحيحاً هل كان أسد يقصد رؤساء في كوستاريكا, وزيمبابوي وبوركينا فاسو, وهل صحيح أن رؤساء البلدان النائية أنصاف رجال?

هذا النظام يعتمد الكذب في الديبلوماسية, كما يعتمد القتل والإرهاب في السياسة, والمثال القريب على ذلك قول وزير خارجية اسبانيا ميغيل أنخيل موراتينوس بأن النظام السوري وعده باستخدام نفوذه والضغط على »حزب الله« من أجل وقف الأعمال العدائية, فسارع هذا النظام إلى تكذيب الوزير الاسباني ونفي أنه وعده بشيء, وكذلك هناك كثيرون غيره وعدهم النظام بشيء ثم سارع إلى تكذيبه كما فعل بتيري رود لارسن المبعوث الأممي إلى المنطقة.

يبدو أن نظام أسد كنظام إيران, قد أخذته العزلة إلى أزمنة أخرى بائدة وجمدته فيها, فبدا لا يعرف ماذا يدور في هذا الكون من أحداث, وبدا فاقداً للقدرة على تحديث نفسه وغير مصدق أن الحرب الباردة قد انتهت, وأن الاتحاد السوفياتي قد انهار, وأن ألمانيا قد توحدت, وأن تيتو قد مات, وأن تشاوشيسكو قد أعدم... وأن ميلوسيفيتش الرئيس الصربي سابقاً قد مات في السجن.

نظام أسد الغارق في هذه الغيبوبة أصبح كنظام صدام حسين آيلاً للسقوط, وكنظام القذافي قبل أن يصمد ويتدارك نفسه.

والمصيبة أن نظام أسد, بهذه الشيخوخة الضاربة في عروقه هو حليف النظام الأصولي الإيراني, وكلاهما غارقان في العزلة, وغائبان عن الحاضر ويتصوران ما ليس موجوداً في الواقع, إنه حقيقة, وبأن »حزب الله« انتصر, وبأن لبنان لم يتدمر ويتكسر ويبتلى بموت أبنائه, وبإرجاعه إلى الوراء أكثر من عشرين سنة!

يبدو لنا أن الحرب توقفت في لبنان بسبب الإدراك أن الهدف لم يكن هو »حزب الله« بل طهران ودمشق, وبأن النظرة إلى المشهد اللبناني كانت تتم بعيون منحرفة فاقدة لرؤية الهدف المنشود.