جيشنا هو الضمانة

بقلم الدكتور دريد بشرّاوي

أستاذ في القانون الجنائي الدولي في جامعة روبير شومان- فرنسا

أستاذ زائر في جامعة انسبروك (النمسا)

محام بالاستئناف- محام عام أسبق

 

  تحية إكبار وإجلال إلى شهداء وجرحى الجيش اللبناني الذين رووا بدمائهم الطاهرة تربة الوطن، تحية إلى جيشنا الباسل الذي يدافع عن أمن الوطن ووحدته واستقراره بشجاعة لا تضاهى، في وجه عصابة مسلحة من الأشرار والإرهابيين المجرمين، وذلك على الرغم من معداته وآلياته الحربية البسيطة والبدائية.

تحية إلى هؤلاء الجنود الصناديد أمل الأمة وضمانتها وذخيرة الوطن وزاده في أيام الضيق والنكبات والمحن.

 تبقى هذه المؤسسة العسكرية سياج الوطن الواقي ضد كل الأخطار، هي الصامدة في وجه كل المؤامرات الرامية إلى تفتيت لبنان وتحويله إلى دويلات طائفية ومذهبية أو لساحة صراع إقليمي لتصفية الحسابات ولإقامة المعادلات بين الأنظمة والدول المتحاربة والمتناحرة.

 

إن أعداء لبنان لا يريدون لهذا البلد لا الأمن ولا السلام ولا الاستقرار، وهؤلاء الأعداء هم الذين يحيطون بهذا الوطن، ويطمعون بخيراته وبمياهه، ويريدون هدم طاقاته الفكرية أو تهجيرها لإلغاء الكيان اللبناني وهويته.

 

 يتآمرون على هذا الوطن الصغير بمساحته، والعظيم والعريق بموقعه الجغرافي وبحضارته وبثقافاته وبتاريخه وبالتعددية الفريدة التي تميزه عن غيره من البلدان المجاورة.

 

 فكما وعدوا بحرق لبنان وبهدمه على رؤوس الذين يعارضون هيمنتهم ووصايتهم، ها هم اليوم يفون بالوعد تارة برسائل التفجيرات الإرهابية المتنقلة في شوارع وأحياء الأشرفية وفردان وعاليه والجديدة وجونيه وبرمانا، وتارة أخرى بإرسال فصائل "فتح الإسلام" الإرهابية إلى لبنان لتنقضّ بطريقة جبانة على المؤسسة العسكرية، المؤسسة التي تقف حتى الآن في وجه كل محاولات التفرقة بين اللبنانيين ومحاولات إشعال فتيل حرب أهلية.

 

ولأنهم لم ينجحوا في مخطط ترهيب اللبنانيين عن طريق حقائب الموت المتنقلة التي يذرعونها في الأحياء السكنية، ولأن محاولاتهم الهادفة إلى تخويف الحكومة اللبنانية والضغط عليها وابتزازها لمنعها من المضي قدما في عملية إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان باءت كلها بالفشل، لجأوا إلى "فتح الإسلام" وأدخلوا عناصرها إلى لبنان بعد أن أفرجوا عن قائدها من سجن " المزّة" في الشام، وطلبوا منه تنظيم مسلسل الاعتداء الجبان على الجيش اللبناني لإضعاف المؤسسة العسكرية أو حتى لشل قدراتها ولزرع التفرقة بين عناصرها وضباطها، مما يسهّل الإطاحة بالكيان اللبناني والقضاء على وجود الدولة اللبنانية والمؤسسات الدستورية.  

 

 وبدلا من أن تقف المعارضة إلى جانب الجيش وتدعمه، راحت بعض المحطات الإعلامية التابعة لها والمحطات الأخرى التابعة لبعض الدول التي تدعمها تبث افتراءاتها على قيادة الجيش وعلى وزارة الدفاع بإعطاء صورة مغايرة ومغلوطة عن حقيقة العمليات العسكرية التي كانت موجهة ضد الإرهابيين وليس ضد المدنيين، وذلك بتضخيم معاناة المدنيين داخل المخيم، وبتلفيق الأخبار الكاذبة التي تتهم الجيش بالقصف العشوائي وبعدم تحييد المدنيين. وهكذا وبدلا من مهاجمة الإرهابيين الذين دخلوا إلى لبنان بغطاء إقليمي وبمساعدة بعض الدول المجاورة بهدف ضرب الأمن فيه، دأب البعض على تصوير الجيش اللبناني وكأنه المعتدي، وعلى توجيه الاتهامات والانتقادات إلى الحكومة.  

 

إن هذا الأسلوب المستغرب تقاطع مع بعض التصريحات والمقالات الصحفية الإسرائيلية التي راحت تنفي وجود أي علاقة بين "فتح الإسلام" وبين النظام السوري، ومع طلعات للطيران الإسرائيلي فوق منطقة العمليات العسكرية التي كان يقودها الجيش اللبناني. مما يعني بكل صراحة ووضوح أن المؤامرة على لبنان مستمرة وان فاعليها والمشتركين بتنفيذها يتواجدون في الداخل وفي الخارج الإقليمي والدولي. هدف هذه المؤامرة هو الإبقاء على الفلسطينيين في لبنان واستعمالهم أداة لإشعال حرب أهلية فيه، ولتأكيد ما قاله وليد المعلّم لبانكي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، من أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ستؤدي إذا ما أنشئت إلى إشعال حرائق وحروب لا تحمد عقباها في هذا البلد.

 

 وكما تساءل برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسية، البارحة في مؤتمره الصحافي الذي عقده في القصر الحكومي، في معرض رده على أسئلة أحد الصحافيين حول ارتباط " فتح الإسلام" بالنظام السوري، نتساءل معه: "على من تعود بالنفع هذه الجناية؟". هذا التساؤل الدبلوماسي يشير بوضوح إلى أن هذا الاعتداء الآثم على الجيش اللبناني يصب في مصلحة كل جهة لا تريد قيام الدولة القوية والقادرة والسيدة على كل الأراضي اللبنانية. لذلك نعتقد أن المنتفعين من هذه الجناية كثر، تجمعهم المصالح المتقاطعة وان كانوا يكنّون العداء لبعضهم البعض. فإسرائيل لا تريد أن ينعم لبنان بالاستقرار ولا أن تتمكّن الدولة اللبنانية من بسط سيطرتها على مجمل المناطق اللبنانية، إذ ليس من مصلحتها انتعاش لبنان اقتصاديا، ولأنها تعمل على تفتيت وطن الأرز وتحويله إلى دويلات طائفية أو مذهبية ضعيفة أملا بتفتيت كيانات المنطقة العربية بأسرها تبريرا لوجودها وحماية لكيانها الديني والعقائدي. ومن هنا ندرك مدى خطورة السلوك الإسرائيلي المتمثل دائما بخرق الأجواء اللبنانية، وبالاعتداء على مياه لبنان وأراضيه، وبالدفاع عن النظام السوري وبتقويته وإقامة المفاوضات السرية معه، وبإعطاء الذرائع لمن يحمل السلاح في لبنان خارج إطار الشرعية اللبنانية وخارج الشرعية الدولية بالإبقاء على هذا السلاح.

 

 وكذلك فان من يقيم دولة مذهبية داخل الدولة اللبنانية، ويقتني ترسانة من الأسلحة المتطورة التي تفوق بحجمها وبفعاليتها أسلحة الجيش اللبناني لمقاومة إسرائيل أو لتحرير مزارع شبعا والأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، يمنع من حيث يدري أو لا يدري، عن قصد أو عن غير قصد، قيام الدولة السيدة والمستقلة. وتعويلا على هذا الوجود المسلّح، تتخذ إيران لها من لبنان ساحة لتصفية حساباتها مع الولايات المتحدة الأمريكية في ما خص ملفها النووي تحت ستار الدفاع عن المقاومة ومحاربة إسرائيل، وتحاول بسط نفوذها في المنطقة العربية من خلال الساحة اللبنانية، ضاربة عرض الحائط بالسيادة اللبنانية ومتعاملة مع فئة من اللبنانيين على أنهم دولة داخل الدولة أو مكان الدولة. أما النظام السوري وان جمعته مع إيران وحدة الوسيلة المستعملة، فهدفه من التدخل في لبنان يختلف من حيث البعد والخطورة عن الهدف الإيراني، إذ انه يريد إعادة السيطرة ووضع اليد على لبنان ومقدراته مهما كان الثمن ومهما كانت الوسائل لاستخدامه ورقة في المساومات التي يجريها مع الإسرائيلي والأمريكي. كما أنه يريد التملص من موضوع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مهما كانت الظروف ومهما كانت الآليات المعتمدة قذرة وخطرة وإرهابية.

 

يضاف إلى ذلك دور الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول العربية والغربية التي تريد إخضاع النظام السوري وترويضه، وليس الإطاحة به، بعصا المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي أضحت تستعمل من قبل الإدارة الأمريكية كسيف داموكليس على رأس هذا النظام، كل ذلك مقابل الحصول على تعاون قياداته في العراق، وامتناعه عن إرسال الإرهابيين الانتحاريين لتنفيذ عمليات ضد الجيش الأمريكي في هذا البلد. هذا مع العلم أن الإدارة الأمريكية، وعلى الرغم من إعلاناتها المتكررة عن دعم الحكومة اللبنانية وعن تصميمها على مساعدتها في عملية إحالة المجرمين الضالعين في عملية اغتيال الرئيس الحريري وفي العمليات الإرهابية الأخرى على محكمة دولية، لم تقدّم حتى الآن إلى لجنة التحقيق الدولية أي معلومة يفترض أن تكون في حوزتها، نظرا لقدراتها التقنية والمخابراتية في هذا المجال، قد تساعد على كشف هوية الجهات المخططة لهذه الجرائم المتعاقبة أو الآمرة بتنفيذها أو الضالعة في تخطيطها وبرمجتها. كما يلاحظ أن الإدارة الأمريكية، وعلى الرغم من كل الوعود التي قطعتها لوزير الدفاع اللبناني خلال زيارته الأخيرة لواشنطن بمساعدة الجيش اللبناني وبمده بالعتيد والعتاد والأسلحة، لم ترسل إلى المؤسسة العسكرية اللبنانية عدة طائرات محملة بالذخائر وبالألبسة والدروع العسكرية إلا بعد أن اندلعت المعارك الشرسة بينه وبين منظمة " فتح الإسلام" ممتنعة حتى الآن عن إرسال الأسلحة الثقيلة كالدبابات والطائرات والتقنيات نزولا عند رغبة دولة إسرائيل، ما يعتبر تناقضا واضحا بين المواقف الأمريكية الكلامية وبين أداء الادراة الأمريكية العملي.  

 

 وبناء على ما تقدم يعتقد أن مصالح بعض الجهات المذكورة أعلاه، أكانت إقليمية أو وطنية أو دولية، قد تتقاطع وتصب في خانة عدم تمكين اللبنانيين من بناء دولة قوية وقادرة وسيدة على كل أراضيها، وذلك طبعا لإبقاء لبنان ساحة لحل كل نزاعات وقضايا الشرق الأوسط ولاسيما منها القضية الفلسطينية وقضية الملف النووي ولاستعمال هذا البلد ورقة للضغط وللضغط المتبادل. 

 

ولهذا فان مصلحة اللبنانيين تقضي اليوم بالتوحد وبالالتفاف حول جيشهم الوطني، إذ أن إضعاف هذا الجيش وتهميشه، والحد من قدراته بتوجيه الانتقادات إلى قياداته، وبتلفيق الأخبار الكاذبة حول عملياته العسكرية التي تهدف إلى القضاء على الإرهابيين وإرساء الأمن والسلام في البلاد، سيؤدي إلى زوال الوطن بانهيار هذه المؤسسة الركن والأساس، والى تنفيذ مشروع قيام الدويلات المذهبية والطائفية أي إلى "عرقنة" البلاد وإدخالها في حالة من الفوضى العارمة التي لا تحمد عقباها.

 

نحن مدعوون إذن إلى وضع كل خلافاتنا ومصالحنا الضيقة جانبا، والى الالتفاف حول جيشنا الشجاع، لنصبح كلنا يدا واحدة في عملية مواجهة هذه العصابة الإرهابية التي تريد تخريب لبنان والعبث بأمنه.

 

هذا هو المطلوب اليوم إذا كنا نريد فعلا أن يكون لبنان لكل اللبنانيين، وإذا كنا نريد الحفاظ على هوية الوطن ووحدته واستقلاله. فلنفعل ذلك الآن قبل الغد لأن الندم لا يجدي نفعا في ساعة الندامة. وليعي أصحاب مشاريع الدويلات المذهبية أن هذه الدويلات الموعودة والمنتظرة لا يمكن أن يكتب لها الاستمرار أو البقاء في لبنان وستنتهي حتما إلى اضمحلال وزوال بعد أن تكون قد جرّت الويلات والدمار وحروب الاستنزاف على الوطن. ولهذا مكتوب على اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، العيش في هذا الوطن وفي بوتقة واحدة، في هذا الوطن الذي يجب أن يكون فوق المذاهب وفوق الطوائف وفوق المصالح وفوق الأنانيات والارتباطات الإقليمية والدولية.

 

يجب أن نؤمن بلبنان الواحد أولا وبلبنان الواحد آخرا، لبنان اللحمة الوطنية، لبنان القوي، لبنان الدولة المدنية والديمقراطية، لبنان الحرية والتسامح والتعايش والتآخي.

 

كلانا على دين به هو مؤمن       ولكن خذلانَ البلاد هو الكفرُ          

 

26 أيار 2007