دماء في الصراع حول المحكمة والأكثرية والأقلية عين علق: لماذا ومن المقصود؟     

الكاتب إيلي الحاج –المسيرة

18/2/2007

 

لا ينفصل تفجير الباصين الإجرامي الذي أوقع ثلاثة قتلى و17 جريحاً في عين علق المجاورة لبكفيا عن الصراع السياسي الكبير الدائر في لبنان . صراع يتمحور على تحديد من هم الأكثرية ومن هم الأقلية .

 

"حزب الله" وبقية حلفاء سورية التي حوّل نظامها مسألة المحكمة ذات الطابع الدولي قضية حياة أو موت كان قد انتعش بعد ضمور وارتباك إثر انضمام "التيار العوني" إليه قبل عام، على قاعدة "وثيقة التفاهم" التي وقعها الجنرال ميشال عون مع السيد حسن نصرالله الأمين العام للحزب الوحيد في لبنان الذي لا يزال يحتفظ بميلشيا مسلحة - أقله علناً- يسميها "المقاومة الإسلامية"، مما أتاح لهذا التحالف اعتبار أنه بات يمثل الغالبية شعبياً وواقعياً، وتصوير القوى الباقية في حركة 14 آذار التي صنعت "ثورة الأرز" مجرد غالبية وهمية، للإنطلاق تالياً إلى الدعوة لإعادة تشكيل السلطة بطريقة توقف بأي وسيلة مطاردة القتيل رفيق الحريري لقاتليه، عبر التحقيق الدولي والمحكمة ذات الطابع الدولي.

 

انطلاقاً من حسابات أن ضم الكتلة الشيعية الكبيرة التي يمثلها "حزب الله" إلى أكبر تيار مسيحي بحسب نتائج انتخابات 2005 النيابية، وإلى موقع رئاسة الجمهورية الذي يحتله العماد إميل لحود وبعض الأحزاب والشخصيات الموالية لدمشق مباشرة، كان المفترض أن تكون النتائج محسومة لمصلحة هذا التحالف . ولكن فات أصحاب هذا الحساب أن الجنرال عون بنى شعبيته في الأساس على مناهضة الميليشيات، بقدر مناهضته ومحاربته للإحتلال السوري إن لم يكن أكثر، وما كانوا يتوقعون أن يؤدي تحالفه مع الميليشيا الأكبر والوحيدة والموازية للدولة وكذلك انتقاله من موقع إلى موقع إلى هز قواعده وتياره بشدة، وتعرّضه لتفكك على كل المستويات من القاعدة إلى الكوادر. والأهم إلى  انفكاك الناس في معظمهم عنه، وهو من ساعدته الظروف إلى أقصى حد في حملهم على التصويت له بنسبة 72 في المئة رداً على "التحالف الرباعي" القصير العمر الذي جمع مرحلياً ولغاية انتخابية محددة "تيار المستقبل" والحزب التقدمي الإشتراكي وحركة "أمل" و"حزب الله". 

 

وفي الواقع أعطى عون الكثير الكثير من رصيده الشعبي والسياسي ل"حزب الله" ولسورية عبر حلفائها في لبنان من دون أن يلقى شيئاً في المقابل. فهو بات أقل موارنة لبنان حظاً في الموازين الحالية في الوصول إلى موقع رئاسة الجمهورية، وهو موقع يختصر كل استراتيجية الرجل وتكتيكه على السواء. وانعكس افتراق خياره عن خيار من يفترض أنهم ناسه في مناسبات جماهيرية شتى، منها الاحتفال بالذكرى الأولى لعودته إلى لبنان في أيار  الماضي وفي تظاهرتي الأول والعاشر من كانون الأول المشتركتين مع "حزب الله" وبقية حلفاء سوريا، وكذلك في اعتصامات المعارضة في  وسط بيروت، وآخر تلك المناسبات كانت في ما اصطلح على تسميته "الثلاثاء الأسود" في 21 كانون الأول الماضي عندما عجز تيار عون عن إقناع الناس في المناطق التي يفترض أنه يمثلها بالإضراب العام الذي دعا إليه و"حزب الله"، فلجأ إلى قطع الطرق في تحرك لم يشارك فيه سوى مئات من أنصاره، فكان أن نزل أنصار قوى 14 آذار إلى الشارع بأعداد كبيرة مما حمل الجيش اللبناني على فتح الطرق.  وانجلت الصورة بعد ظهر ذلك اليوم عن مزيد من التخبط والضعف في "التيار " الذي يجمع أركانه أنه لن يكرر تلك التجربة الأليمة .

 

وانعكست تلك التحالفات والوقائع أيضاً على وضع "تكتل التغيير والإصلاح" الذي يترأسه الجنرال عون. تكفي إشارة في هذا المجال إلى مواقف لنواب يشكلون الغالبية  فيه أقرب إلى مواقف البطريرك الماروني نصرالله صفير منها إلى عون، وإلى أن النائب ميشال المر أعلن تأييده المرشح الذي سيختاره الرئيس السابق للجمهورية أمين الجميّل للمقعد النيابي الذي شغر في المتن الشمالي باغتيال نجله الوزير بيار الجميّل . بينما يلوّح عون بمنازلته ويحول حليفه الموضوعي الرئيس لحود، الذي أعلن أنه لن يسلم الرئاسة إلا لعون، دون إجراء هذه  الانتخابات بامتناعه عن توقيع الدعوة إلى الهيئة الناخبة، متذرعاً بعدم شرعية الحكومة اللبنانية التي يعترف بها العالم أجمع ولا يعترف به . وفي حين أن حزب الطاشناق الأرمني يعيد النظر في تحالفه مع عون ولا يشارك في نشاطات تياره، وكذلك كتلة النائب الياس سكاف النيابية.

 

في اختصار انكشف هزال شعبي في "التيار العوني" يوم الإضراب أو "الثلاثاء الأسود"، واضطر "حزب الله" إلى تحريك أنصاره لملء النقاط التي كان العونيون تولوا مهمة إغلاق الطرق عندها، لا سيما في الحازمية والجديدة وقرب الجميزة وجبيل، كذلك ساهم أنصار "تيار المردة" في الشمال في تعبئة الفراغات الناجمة عن ذلك. 

ومع ظهورالإستعدادات الضخمة التي تولتها قوى 14 آذار للحشد في الذكرى الثانية للرئيس الحريري، انطلاقاً من المتن الشمالي خصوصاً، وبقية مناطق جبل لبنان وبيروت والشمال، كان "التيار العوني" معرضاً إلى فضيحة شعبية تؤثر في صورة موازين القوى، وبالتالي في موقع "تحالف المعارضة" وحتى تأثير سوريا في المعادلة اللبنانية الداخلية.

 

حيال هذا الواقع كان لا بد من فعل شيء ما لوقف الموجة، والسبيل الأسهل هو تخويف الناس من النزول إلى وسط بيروت للمشاركة في الباصات التي كان معظمها في منطقة المتن الشمالي كان محجوزاً لنقل المشاركين، إلا من كان أصحابها من مؤيدي عون أو الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يتمتع بحضور تاريخي في المنطقة.

 

وكانت القوى الأمنية اللبنانية دهمت قبل شهرين في منازل مسؤولين في هذا الحزب في منطقة الكورة الشمالية مخازن أسلحة ومتفجرات مع صواعق حديثة، علل رئيس الحزب علي قانصو وجودها بأنها لمقاومة إسرائيل، علماً أن آخر عملية قام بها قوميون سوريون ضد الجيش الإسرائيلي خلال احتلاله جزءاً من جنوب لبنان تعود إلى منتصف الثمانينات من العقد الماضي. كما أن الرجل القوي في الحزب السوري القومي الإجتماعي ورئيسه الفعلي النائب في كتلة رئيس مجلس النواب نبيه بري أسعد حردان يعتبر الأقرب في لبنان إلى النظام السوري وأجهزته ويتهمه قوميون كثر باغتيال عدد من رفاقه خلال صعوده للقبض على السلطة في قيادة الحزب.

 

وأيا يكن، ليس في لبنان مكان أفضل من المتن الشمالي لتوجيه الضربة إلى جمهور "ثورة الأرز" في شقه المسيحي، فهذه المنطقة تختزن فضلاً عن الكثافة السكانية الكبيرة كماً ضخماً من التناقضات التي تتيح للفاعلين تفجير مشاعر القلق الشديد إذا كان هذا هو المقصود. فإلى العونيين والكتائبيين والقوميين السوريين وأنصار المر و"القواتيين"  والشيوعيين هناك وجود لأنصار "حزب الله" وحركة "أمل" في الرويسات والزعيترية قرب الجديدة والنبعة ، فضلاً عن أحزاب الأرمن بتنوعها في برج حمود ومناطق أخرى. وهي المنطقة نفسها التي شهدت على مدى عامين معظم التفجيرات إثر خروج الجيش السوري من لبنان، من الجديدة إلى سد البوشرية والزلقا وبرمانا واغتيال الوزير بيار الجميّل وقبله.

 

الترجيح الأول إذاً أن غاية مرتكبي التفجيرين ومن خلفهما إفهام اللبنانيين، ولا سيما المسيحيين أن دون المشاركة في ذكرى الحريري أخطاراً أمنية على حياتهم . الترجيح الثاني أنهم أرادوا توجيه رسالة سياسية في الدرجة الأولى إلى وزير الدفاع الياس المر الذي انطلق أحد الباصين من بلدته بتغرين، والذي  لما يشف بعد تماماً من الجروح التي أصيب بها في محاولة اغتياله بسيارة مفخخة أن مصادرة شاحنة سلاح وذخائر عائدة إلى "حزب الله" لها ثمن.

 

وكذلك المضي في خطه الذي سيفضي إلى إدلائه بشهادته أمام المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري وهي شهادة محرجة للنظام السوري ولا سيما لضباط استخباراته الذين تولوا سابقاً زمام السيطرة على لبنان. أما الترجيح الثالث فإنها رسالة إلى الرئيس أمين الجميّل الذي انطلق أحد الباصين من قرية مجاورة لبلدته بكفيا وانفجر قربها،  والذي قابل في الأيام الماضية الرئيس الأميركي جورج بوش وكبار مساعديه في واشنطن وبحث معهم في الوضع اللبناني، وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة وكبار مساعديه في نيويورك. وشدد في كل لقاءاته واتصالاته على أن تشكيل المحكمة الدولية بات قضية حيوية للبنان واستمرار نظامه الديمقراطي. فضلاً عن أن الجميّل كان محط تعاطف كبير متجدد معه في المتن الشمالي بعد اغتيال نجله . وهو كان رفض استجابة طلب الجنرال عون إخلاء دارة العائلة في بكفيا خلال التعازي لفترة كي يتمكن من تقديم التعزية، وكان موقف الرئيس السابق في ذلك الوقت أن المنزل مفتوح لجميع من يرغبون في المشاركة في القيام بالواجب، مما حال حتى اليوم دون حصول لقاء بين عون والجميّل الذي تردد أوساطه في كل مناسبة أن "الجنرال بتحالفاته يقف حائلاً دون قيام الدولة اللبنانية القوية والقادرة".

 

ولعلّ الذكرى تفيد : في 11 تشرين الثاني الماضي استقال وزراء "حزب الله" وحليفته حركة "أمل" من الحكومة لدى تحديد جلسة لإقرار مسودة مشروع قانون المحكمة الدولية (وكانوا انسحبوا من الحكومة سابقاً واعتكفوا سبعة أسابيع بسبب طلبها إثر اغتيال والنائب جبران تويني في 12 كانون الأول 2005 من الأمم المتحدة أن يشمل عمل لجنة التحقيق الدولية الجرائم السياسية التي تلت اغتيال الرئيس الحريري) . وقرر "حزب الله" وحلفاؤه ولا سيما "التيار العوني" تنظيم تحركات شعبية لم يتحدد شكلها آنذاك، وحددوا موعدها يوم الخميس 23 تشرين الثاني.

 

في تلك الفترة  الفاصلة كان الوزير بيار الجميّل يجول في قرى المتن الشمالي وبلداته، ولا سيما تلك المحيطة بمسقط رأسه بكفيا ويطلب من أنصاره إبلاغ العونيين أن تحركهم انتصاراً للخط السوري في لبنان سيكون عملاً غير مقبول إطلاقاً مما أحدث بلبلة واسعة في صفوفهم . من تلك الأيام كان ثمة قرار متخذ على ما يبدو بأن أي تحرك للعونيين في الشارع سيلقى رداً في الشارع على قاعدة أنه تحرك سوري .

 

رفع الوزير الجميّل السقف  وبلغ الاحتقان مداه تلك الأيام بين الجانبين. بعد ظهر الثلاثاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر اغتيل بيار الجميّل وأقيمت جنازته في ساحة الشهداء في 23 من ذاك الشهر، وهو اليوم الذي كان مقرراً لتحرك الطرف المناوئ له شعبياً .

 

في أول كانون الأول نظم "حزب الله" وحلفاؤه تظاهرة ضخمة أولى في ساحة الشهداء كان أنصار "التيار العوني" فيها أقلية ضئيلة، وكثر ممن كانوا يرتدون فيها لونه البرتقالي توجهوا مساء إلى الضاحية الجنوبية. وتكرر الأمر في التظاهرة التالية بعد عشرة أيام. من ذلك اليوم بدا كلام عون عن تمثيله المسيحيين في خياراته مشكوكاً فيه بازدياد يوماً عن يوم.

 

يشار في السياق، بين هلالين، إلى أن أول دراسة إحصائية  شاملة منذ الستينات للمقيمين في لبنان استناداً إلى سجلات النفوس (نشرتها صحيفة "النهار" في 13 تشرين الثاني 2006)  أظهرت أن الشيعة يعدون نحو 29 في المئة، السنة نحو 29 في المئة، المسيحيون نحو 35 في المئة، والدروز نحو 5 في المئة. والحديث بالتالي عمن يكون الأقلية أو الأكثرية يستدعي التدقيق، وأقله عدم الجزم.