تحييد لبنان

حسان حيدر - الحياة - 22/02/07//

من «الخندق الواحد» مع الفلسطينيين، الى «الشعب الواحد» مع السوريين، وصولا الى «الجسم الواحد» مع الايرانيين، سدّد اللبنانيون ولا يزالون يسدّدون «اقساطهم» المُبالغ فيها من «الديْن» القومي والاقليمي، من «خزينة» سيادتهم واستقرارهم وأرزاقهم ومستقبل أجيالهم، بعدما ابتلوا بآفات الاقتتال والتقسيم والتفتيت والطائفية والمذهبية وأمراض الاحتلالات والوصايات، واستنزف بلدهم، بشراً وامكانات متواضعة.

 

اما لبنان الواحد، فكان الغائب الدائم في كل مرة اختارت احدى الفئات اللبنانية تغليب قضية خارجية على المصالح الوطنية، ونالت بذلك «عقدا من الباطن» مع احدى القوى الاقليمية.

 

وبدلا من ان تكون الازمات المتلاحقة التي بدأت في لبنان مع هزيمة العرب في 1967 دروسا يستفيد منها اللبنانيون لتحصين الداخل الوطني وتقديمه على ما سواه، حصل العكس تماما وصار الارتهان للخارج اكبر واعمق في كل مرة. وتداخلت مرحلة التضامن مع المقاومة الفلسطينية التي انتجت حربا اهلية استمرت قرابة عقد من السنوات وانتهت باجتياح اسرائيلي لبيروت، مع مرحلة تلازم المسارين اللبناني والسوري التي كانت خلاصتها العملية وجود عسكري «شقيق» لمدة 30 عاما رغماً عن اتفاق الطائف، وجاءت اخيراً المرحلة العابرة للحدود الإقليمية لتملأ البلد الصغير بالصواريخ والمجاهدين بأكثر مما يحتمل، قبل ان تزيد من معاناته مواجهة اخيرة مع اسرائيل لا تقنع ذرائعها ولا تقي من شبهة الاجندة الخارجية.

 

وفي كل مرة، حزم اللبنانيون حقائبهم وهاجروا. وفي كل مرة دفعوا من دمائهم، بعضهم القليل برضاه، والغالبية العظمى مجبرة. قرابة الاربعين عاما مرت منذ اتفاق القاهرة في 1969 واللبنانيون لا يزالون يقفون صفوفاً امام السفارات الاجنبية. قضى الاب والولد والحفيد ولا يزال مصير الوطن معلقاً بخلاف، او توافق، بين نظامين او محورين لا تربطهما باللبنانيين سوى لعنة الجغرافيا واستسهال عبور الحدود. وليس ذلك بسبب أخطاء اللبنانيين أنفسهم فحسب، بل لأن القوى الدولية، بلا استثناء، شاءت ان تحمي مصالحها على حسابهم، وتبرم اتفاقات تمهرها بتقليص استقلالهم ووحدتهم.

 

حين طالب الراحل ريمون إده في أواخر الستينات ومطلع السبعينات بقوات دولية في جنوب لبنان لحماية حدوده ومياهه من اطماع اسرائيل وعدوانيتها، كان يدرك ان ثمة من يريد التضحية بلبنان وتحويله معبرا لتبادل الرسائل وساحة لشد الحبال والتفاوض. وبالطبع كيلت له آنذاك كل انواع الاتهامات وتعرض لأكثر من محاولة اغتيال. وبعد أربعة عقود كانت وبالاً على لبنان واللبنانيين، انتشرت هذه القوات التي طالب بها عند الحدود الجنوبية.

 

واليوم هناك من يطالب بتحييد لبنان بحيث يكون ذلك مدخلاً لاستعادة وحدته الوطنية وتكريس الطاقات لاعادة بنائه، بعدما تبين ان الترسانات وارتال المقاتلين لا تستطيع حمايته طالما «يناضل» وحده ويتحمل عبء القضية القومية وحده، وطالما ليست هناك منظومة عربية للمواجهة ينضم اليها، بل جرى تحويله الى مجرد منطقة عازلة ترد الاذى عن الآخرين ولا يراد لها ان ترده عن نفسها.

 

ان تحييد لبنان عن الصراعات الاقليمية لا يعني نزع هويته العربية او إلغاء التزاماته القومية، بل يعزز دوره الذي سبق ان لعبه كبلد مميز ورائد في ثقافته ونظامه التعليمي وديبلوماسيته وانفتاحه، وهو أمر يحتاجه العرب كثيرا في هذه المرحلة التي تحول فيها العالم قرية كونية صغيرة لا يزالون هم الجزء المتخلف فيها، كما يعيده نموذجا عصريا يدحض وهم التفوق الاسرائيلي، ويكرس جهود ابنائه للتنمية الداخلية ويغلب تدريجاً انتماءهم الوطني على تعلقهم بالطوائف والملل، ويحصنهم من المغامرات المكلفة والارتهان وانتظار رضا العواصم والمحاور.