الساسة وسياسة "الاستغباء" والتقلّب والتنكّر للثوابت والمبادئ الوطنية

بقلم الدكتور دريد بشرّاوي

أستاذ محاضر في القانون الجنائي الدولي والقوانين الجنائية العامة والخاصة والإجراءات الجنائية في جامعة روبير شومان- فرنسا

محام عام أسبق في فرنسا/محام بالاستئناف

 

حُراٌ وُلِدتَ فَلاَ تَكُن مُستَعبَدا       لاَ العَبدَ كُنتَ وَلاَ سِوَاكَ السَيِّدَا

 

غريب أمر بعض السياسيين في لبنان، يتغيّرون ويتبدّلون ويتنقلون من موقع سياسي إلى آخر على خلفيات يصعب وصفها أو فهمها، ووفقا لرغبات وطموحات شخصية لا تمت إلى المصلحة العامة أو الوطنية بأية صلة. فكما تغيّر الحرباء لون جلدها تحت أشعة الشمس، يغيّرون المبادئ والشعارات وتفسير القوانين والدساتير باسم الحرية والعدالة والنزاهة والاستقامة وحماية الوحدة الوطنية والعيش المشترك.

 

إن بعض هؤلاء ينتهكون الديمقراطية والحريات كلما أتتهم الفرص وسنحت، ويعيثون في الأرض فسادا باسم نظافة الكف والعفة، ويدنّسون المقدسات باسم الحفاظ على المسلّمات، ويخرقون المحرّمات تحت غطاء فك الأزمات، ويدوسون على المبادئ والإرشادات دون حرج أو ورب، لا بل بعزم وثبات، ويغذون النعرات الطائفية مدعين الحفاظ على الوحدة الوطنية وحماية الديانات والمعتقدات ورفع الغبن والحيف عن الذين ينقادون وراء شعاراتهم الزائفة ووعودهم الكاذبة كقطعان المشاة. أضف إلى ذلك أن بعضا ممن يمارسون السياسة في لبنان يعقد الصفقات والاتفاقات المشبوهة، متستّرا بشعارات المواجهة والمعاندة، ليعدم الحرية والسلام والسيادة في لبنان، وليسلّم الوطن للقاتلين المجرمين. كل هذا بهدف إلغاء منطق الدولة السيدة على أراضيها، وإقامة دويلات مذهبية مكانها، والحصول على منافع ضيقة متعددة، وإشباع رغبات شخصية وغرائز وطموحات سياسية ومذهبية لا تعد ولا تحصى، الوطنية منها براء.

 

عجائب سياسية حصلت في السنوات الأخيرة في هذا الوطن الذي تنهش ثعالب السياسة أوصاله من كل حدب وصوب. انقلبت المقاييس والمبادئ رأسا على عقب، فلم يعد المبدأ مبدأ وتحوّل إلى شواذ، وأضحت القواعد والمسلمات أحجار " داما" تنقل من موقع إلى آخر وفقا لرغبات اللاعبين من صنّاع السياسة في وطن الأرز الذي حكم عليه أن يكون رهينة في أيدي هذه الحفنة من الساسة التي تهيمن على لبنان، والتي لا تزال تستقوي تارة باللعب على الوتر الطائفي أو المذهبي، وتارة أخرى بالقوى الإقليمية أو الدولية التي تحرّكها بموجب إشارات وتعليمات، وتمدها بالمال " الحلال الوفير" وبالسلاح والعتاد.

 

 يعلنون ما لا يضمرون، وما يصرّحون به في وضح النهار يمحوه ظلام الليل. يفاوضون على الثوابت والمسلمات، ويمررون الصفقات في الكواليس على حساب الوطن، خدمة لمصالحهم ولمخططاتهم الخاصة ولحساباتهم السياسية الإقليمية التي لا تخدم مصالح لبنان بل مصالح مذهبية وشخصية بحتة.

 

 بعض هؤلاء الساسة رفعوا شعارات رنانة طنانة ومغرية شعبيا، ليس لشيء إلا للتعبئة "الشعبوية"، ولكسب أكبر عدد ممكن من أصوات الناخبين في يوم الاقتراع. قالوا إنهم ضد الإقطاع بكل أشكاله وخصوصا في شكله العائلي، لكنهم ما إن تذوّقوا حلاوة الزعامة السلطوية، وتنعّموا بمواردها وخيراتها سياسيا وماليا واجتماعيا، حتى بادروا إلى ممارسة الإقطاع العائلي بأقصى درجاته وبأبشع صوره، فأقصوا المفكّرين وأصحاب العلم والكفاءة ليستعينوا بأفراد العائلة الحاكمة من الأبناء والمقرّبين، ليس على قاعدة الكفاءة وإنما بهاجس الحفاظ على الإرث السياسي والعائلي وعلى السلطة، وبهاجس بناء إمارة سياسية إقطاعية، ضاربين بعرض الحائط مبادئ النزاهة والكفاءة والديمقراطية، ومتناسين الشعارات الزائفة والرنانة التي كانوا يرفعونها قبل تربّعهم على عرش الزعامة.

 

 يقولون أن لبنان يحتضر اقتصاديا، وان مقدّراته الاقتصادية أصبحت ما دون الصفر، وان هذا الوضع الخطير ينذر بأشد العواقب ومنها ما نشاهده اليوم من معاناة لفئة كبيرة من الشعب اللبناني أصبحت تئن من الجوع.لكنهم بسلوكياتهم يزيدون الأزمة الاقتصادية تأزما، إذ لا يقدمون على أية خطوة تسمح للاقتصاد بالانتعاش، ويوتّرون الأجواء السياسية والأمنية عن قصد أو عن غير قصد، فتتعطل مواسم الاصطياف، ويمتنع السائحون عن المجيء إلى لبنان، ويقطع الطريق أمام كل مشاريع باريس 3 التي تهدف إلى إغاثة لبنان اقتصاديا وردء النكبات الاقتصادية عنه.

 

يتكلّمون عن هدر الأموال في مؤسسات الدولة، وعن الفساد المستشري في بعض القطاعات العامة، ويوظفون سياسيا شعارات محاربة الفساد والمفسدين، لكنهم يمتنعون عن محاسبة أقرب المقربين إليهم الغارقين في وحول الفساد وفي مستنقع الاتجار بالعقارات وعقد الصفقات المشبوهة عليها ببيعها خدمة لأهداف تقسيمية ومذهبية في الوطن.

 

  هم على حق عندما ينتقدون الصرف والهدر العشوائي لأموال الدولة في بعض الإدارات والقطاعات العامة، ولاسيما الرواتب والمرتبات والعلاوات الخيالية التي تدفع للوزراء ولبعض الموظفين من الفئة الأولى ولغيرهم، لكنهم في الوقت عينه ينتهكون حرمة المالية العامة في بعض الوزارات التي يضعون اليد عليها، ويحثّون مناصريهم ومؤيديهم على عدم دفع الضرائب للدولة وفواتير الكهرباء وغيرها، ويحاولون بكل قوة تأزيم الوضع السياسي بتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، ما ينعكس سلبا على الوضع الاقتصادي وعلى المواسم السياحية في لبنان، ويحتلّون الوسط التجاري باعتصام لا فائدة منه ولا رجاء سوى خلق مربّعات أمنية خدمة لأهداف سياسية ومذهبية معروفة.   

 

مشكلتنا مع هؤلاء الساسة هي أنهم "يستحمرون" الشعب اللبناني، ولا يقيمون لأي فرد من أفراده أي اعتبار أو مكانة تذكر. يحكمون باسم الشعب، لكنهم ينكّلون بهذا الشعب المقهور. ينهبون خيرات الوطن ويضربون اقتصاده، ولا يعبأن بمشاكله الاقتصادية أو الاجتماعية. همهم الوحيد هو التربّع على كرسي الزعامة، ووضع اليد على خيرات لبنان، والتمتع بالسلطة وثمارها وأجبانها وان كان بغير الحلال. فمن منهم لا يقطن القصور الفخمة؟ ومن منهم لا يقتني العديد من السيارات والمركبات الباهظة الثمن؟ ومن منهم لا يملك الأراضي الشاسعة والبيوت والشقق الفخمة في لبنان وفي بلدان أوروبا أو أميركا؟ ومن منهم لا يستخدم العشرات من الحشم والخدم وعناصر الحماية الأمنية والمواكبة؟ ومن منهم لم يقبض أو لا يقبض من خزينة الدولة اللبنانية أموالا طائلة بصفته نائبا حاليا أو نائبا سابقا أو وزيرا أو مديرا أو مسؤولا؟

 

 هل سمعتم أن أحدا من هؤلاء تنقطع في قصره أو في شقته الفخمة مياه الشفة؟ هل سمعتم أن أحدا من هؤلاء ينقطع عن قصوره أو دارته الواسعة التيار الكهربائي فيمضي ليلته من دون إنارة أو تدفئة في أوقات البرد القارس كما هي حال مئات الآلاف من اللبنانيين الذين يعيشون على عتبة الفقر المدقع؟ طبعا لا، ذلك أنه وفقا للأعراف اللبنانية البالية والمخجلة، ممنوع على الزعيم، أو على ابن الزعيم، أو حتى على صهر الزعيم، أو على كلب الزعيم، أو كل محسوب على الزعيم، أن يعطش، أو أن يجوع، أو يمضي ليلته في العراء، أو من دون تدفئة، أو إنارة. أما ذاك الذي لا ينتمي إلى طبقة الزعامة، أو إلى الطبقة الأرستقراطية اللبنانية، فان جاع فلا مشكلة، إذ عليه أن يجوع، وان عطش فلا مشكلة، إذ عليه أن يعطش ويكدح " كالحمار" في سبيل أن يعيش الزعيم، لا مشكلة إن مات الشعب بأكمله، فالمهم أن يحيا الزعيم. وحمار الزعيم.

 

أن يعطش، أو أن يجوع، أو أن يتشرد، أو أن يهاجر اللبناني، فلا مشكلة عند الزعيم الذي لا ينادي برفعة الشعب اللبناني وبعيشه الهنيء إلا خلال حملته الانتخابية.

إذن من حق اللبناني الفقير والمقهور، لا بل من واجبه أن يجوع ويعطش ويترك بلاده إلى عالم الاغتراب والغربة، ولكن ليس من حقه أن يفكّر. لماذا يفكّر؟ فالزعيم يفكّر عنه. ولماذا ينعم بالحرية إذا كانت الحرية حكرا على الزعيم وأفراد عائلته؟ ولماذا يشبع؟ فالزعيم يشبع عنه، وهذا يكفي.

 

هؤلاء الزعماء يتمنوّن لو أن لبنان يبقى إلى الأبد ساحة لأتون التوترات الطائفية والمذهبية لكي يحافظوا على زعاماتهم لهم ولأولادهم، أو لأصهارهم من بعدهم، ولكي تبقى لديهم الأسباب الموجبة التي تستعمل أداة لتحريض جهة ضد جهة، أو مذهب ضد مذهب، أو طائفة ضد أخرى، باسم الحرص على مصالح لبنان وعلى الحرية والديمقراطية والعيش المشترك.

 

 ما يدعو للأسف وللخجل هو أن الكثيرين من اللبنانيين المثقفين تعوّدوا على هذا النوع من النمط السلوكي المطبق في عملية ممارسة السياسة في لبنان، وعلى هذا الأسلوب المهين المعتمد من قبل بعض الزعماء اللبنانيين، والذي أضحى بالنسبة إليهم أمرا طبيعيا، إلى درجة أنهم ينقادون وراء الزعيم من دون تفكير كما لو كانوا في حالة إغماء، أو غيبوبة، أو واقعين تحت تأثير تنويم مغناطيسي. فإذا قال الزعيم إن "اللبن أسود"، رددوا وراءه "ببغائيا" وبحماس لا نظير له: طبعا إن اللبن تحوّل لونه من أبيض إلى أسود.  ولهذا تراهم يتنكّرون للمبادئ وللمسلمات لا عن اقتناع، وليس لشيء إلا لإرضاء أهواء زعيمهم الذي يعتبرون كلامه آيات سماوية منزلة من لدن الله سبحانه تعالى.

 

منهم من يؤلّه الزعيم السياسي لاقتناعه بأفكاره وبطروحاته المذهبية وان كانت غريبة عجيبة، حتى وان تعارضت مع مبادئ الوحدة الوطنية وسيادة الدولة اللبنانية وحرية القرار، ومنهم من يرفع الزعيم إلى مرتبة الأنبياء والقديسين أملا بأن يتوصل إلى مركز القرار والسلطة فينتفع معه من كرسي أو نيابة أو وزارة أو مقعد إداري أو سياسي ( هؤلاء تنطبق عليهم تسمية جماعة النفيعة والزقيفة)، ومنهم من لا يجرؤ على مخالفة الزعيم أو من لا يتمتع بالشجاعة الكافية لكي يعارض الزعيم الذي يتبعه وان طرح هذا الأخير نظريات سياسية مناقضة لقناعاته ولمبادئه وحتى لقناعات وثوابت الجماعة التي ناضلت من أجل هذه المسلمات سنين طويلة مليئة بالعذابات المرة والاضطهاد والشهادة.

 

هؤلاء يمكن جمعهم كلهم في بوتقة واحدة، بوتقة الذل والخنوع والممالأة والتعبّد للزعيم في سبيل نيل المغانم والمكاسب والمقاعد.

 

آن الأوان كي يقلب شباب لبنان المثقف الطاولة على كل هذه الطبقة البالية التي حكمت لبنان بأساليب الإقطاع والكذب والنفاق، وباسم الطائفية والمذهبية، والتي دمّرت هذا البلد بسياساتها القائمة على المصالح الذاتية الضيقة متناسية مصالح الوطن العليا.

 

نحن بحاجة اليوم إلى شباب مثقف واع وواعد يؤمن بالحرية، وبسيادة الدولة اللبنانية، وبسلطة الجيش اللبناني وحده على الأرض اللبنانية، وبالعدالة والعلمانية والديمقراطية كمبادئ يبنى الوطن على أركانها بعيدا عن عقلية الإقطاع والتوريث السياسي والطائفية والمذهبية والتبعية الإقليمية أو الدولية.

لبنان بحاجة اليوم إلى ثورة شبيهة بالثورة الفرنسية، بحاجة إلى شباب حر شجاع وغير مرتهن لتقاليد هذه الطبقة السياسية التي لا زالت تنكّل باللبنانيين وتنهش خيرات الوطن على حساب شريحة واسعة من شعبنا الصامت.

 

تعالوا إذن لننفض عنا غبار الذل والخنوع، ولنتحرر من هذه القيود الثقيلة التي فرضتها علينا مجموعة من السياسيين الإقطاعيين والمذهبيين. فلننهض بلبنان إلى مستوى الأوطان الحرة على أساس من الحرية والسيادة والديمقراطية والمحاسبة والمساءلة والعدالة والمساواة والعلمانية، ولنحيّد هذا الوطن عن كل الصراعات الإقليمية والدولية ليصبح وطنا مستقلا أبيا سرمديا لكل اللبنانيين من دون تمييز طائفي أو مذهبي أو عنصري.   

 

أيها الساسة المستكبرون، كلمة أخيرة: كفاكم "استغباء " للشعب اللبناني. كفّوا عن إقحام لبنان واللبنانيين في مغامرات مذهبية وشخصية وإقليمية خطيرة، لا تجرّ على الوطن إلا الويل والدمار والتفتيت. كفاكم سرقة لخيرات هذا البلد. كفاكم كذبا ونفاقا ومخادعة. كفاكم استعبادا. كفوا عن التفكير عنا. ارحلوا عنا، لننعم بالراحة والطمأنينة والحرية والسلام.

 

أخي اللبناني:

حُراٌ وُلِدتَ فَلاَ تَكُن مُستَعبَدا       لاَ العَبدَ كُنتَ وَلاَ سِوَاكَ السَيِّدَا

 

6/05/08