في إنتقاد غبطة البطريرك وتحييد السيد حسن نصرالله

بقلم/مهى عون

 

 فيما يعتبر رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة أن موقع البطريركية الماروني هو من أهم المرتكزات التي ساهمت في إقامة لبنان، يصف الوزير السابق سليمان فرنجية البطريرك "بالموظف" لدى السفارتين الاميركية والفرنسية. ويزيد بأنه قارب ال90 سنة من العمر، وعليه أن يتنحى. ولقد قال حرفياً :"لا يمكنني أن أسلم مصيري ومصير أولادي لشخص عمره 90 سنة ينسى ما يقول بعد ساعة، وهذا ما يقوله لنا بعض الاكليروس ويطلبون منا أن نصبر عليه".

 

 وعزا فرنجية هجومه هذا على البطريرك صفير بسبب وصفه بعض أطراف المعارضة "بالأدوات" عند النظام السوري. وقال "نحن لسنا أدوات وهذا كلام تقوله الموالاة ولا بد لنا من الرد". لذا رأى الوزير فرنجية أن كلام البطريرك صفير في السياسة يعرضه للإنتقاد كما هو دارج بالنسبة لكل رجال السياسة، وإنه إذا تكلم في الدين فهو حر، وغير معرض لأي مراجعة، بل هو محترم في نطاقه، أما إذا تكلم في السياسة فسوف يتحمل تبعات تدخله فيها. وهو كلام قد يبدو للوهلة الأولى منطقياً، كونه جاء على لسان زعيم ماروني يعتبر أن البطريرك متحيز، ويأخذ موقف فريق مسيحي ضد آخر. وهو خطاب قد تطرب لسماعه الاطراف المعهودة والمحِّركة من وراء الكواليس، ولكن خطورته تكمن في مدى تأثيره على بعض الشرائح الشعبية، التي تنقاد وتتطبع غرائزياً بهذه المواقف. والمؤسف أن لهجة الشارع اليوم وبعض الناس ليست بعيدة عن تصديق، بل ترداد هذا الكلام.

 

ولكن ومن أجل وضع الامور في أطارها الصحيح، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الانتقادات وإن كانت منطقية ظاهرياً، إلا إنها متحيزة في نسبة كبيرة، لأنها تخفي عمداً جزأً مهماًً من الحقيقة، وتغيب واقعاً معاش كل يوم على الساحة السياسية اللبنانية. ولا يحق بالتالي لسياسي مطلع توجيه إنتقاد لاذع، ومن هذا "العيار"، لمرجعية طائفة معينة، متهماً إياها بالتدخل بما لايعنيها، أي في الأمور الدنيوية، متناسياً في الوقت ذاته، تدخلاً فاضحاً ويومياً، لمرجعية من طائفة أخرى، تعتبر تدخلها بل تحملها مسؤولية شؤون وشجون العباد الدينية كما المدنية أمراً طبيعياً، ومن غير الوارد مجادلتها فيه.

 

 فعلى "راس السطح" يدير حسن نصرالله من مربعه الأمني حالة "المعارضة" السياسية، ولا تراه متوجساً أو مرتبكاً من خلطه فيما بين مسألتي الدين والدولة. بل على العكس تراه يقرر من يشارك، ومن لا يشارك في الحكم، ومن يعتكف، ومن يهول، ومن يهدد، ومن يناور عند اللزوم. وإذ قرر أنه لا بد من شل البلد، قام بالتظاهرات، واحتل الساحات، ورفع النبرة وتوعد بالتصعيد. وهو جر البلاد إلى حروب تدميرية، وها هو اليوم يهدد بحروب جديدة، من دون استشارة احد، ولا احد يجرؤ في المعارضة على إنتقاده. أما انتقاده من قبل الموالاة فحدث ولا حرج، فهو يعتبره خيانة عظمى، بل انحياز لجانب إسرائيل. وإذا ما تجاصرت بعض وسائل الاعلام، وذهبت إلى مجرد تقليده، مثلما حدث السنة الماضية، في برنامج "بس مات وطن"، تقوم القيامة ولا تقعد، أما وقد رأينا كيف هجم أنصاره والمحبين على الأشرفية عبر شارع مونو، مزمجرين متوعدين بالشر المستطير، وكأن منطقة الأشرفية وأهلها هم مسؤولون عن أي تطاول على صورة الزعيم الروحي والمدني، مرجعية ولاية الفقيه في لبنان. هذا مع العلم أنه بالمقابل ممنوع على رعية البطريرك اليوم التحرك ضمن مسيرات تاييدية له، على خلفية التهديد بنزول مسيحي مضاد إلى الشارع.

 

هذا ما يسمى النظر إلى الأمور بمنظارين واليكل بمكيالين. فلماذا يحق للسيد حسن نصرالله ما لا يحق لغيره من المرجعيات الدينية؟ وأين حقوق المساواة في "المواطنية الطائفية" ؟ وأين التطبيق الفعلي للمادة "ي" من مقدمة الدستور والتي لا تنفك أبواق المعارضة عن تردادها على مدار الساعة، والتي تقول بأن "لا شرعية لسلطة تناقض العيش المشترك"؟ وأين هو هذا العيش المشترك في ظل استفراد مرجعية دينية ما، بحق اصدار فتاوى"شرعنة" حق التدخل في الأمور السياسية على هواها، واستنسابياً، وتبعاً لمصالحها؟ ومن خولها يا ترى شرعية التحكم بمصير كل اللبنانين عن طريق الامساك بقرار السلم والحرب وغيرها من القرارات، في حين لا تتقبل صدور رأي مغاير من أي مرجعية دينية أخرى؟

 

 من هذا المنطلق وبسبب هذه الهجمة على بكركي، يمكن الاستنتاج ان شرعية "سلاح المقاومة" هي وحدها التي تقرر من هي "الشرعيات الدينية" الاخرى، أو المرجعيات الدينية الاخرى التي يسمح لها بالتدخل بالشؤون السياسية، على أن تحدد لها أيضاً سقف هذا التدخل، وعلى أن يعمم هذا القرار على كل الناطقين باسم المعارضة، ومن ضمنهم الوزير السابق سليمان فرنجية. وذلك للوصول تدريجياً إلى قناعة عند اللبنانيين بأن شرعية "المقاومة"هي فوق كل الشرعيات، ومن غير الوارد أن تتعرض للمساءلة أو المحاسبة أو الانتقاد. ولقد صرّح أكثر من مرة نواب وقادة حزب الله بأن الشك بشرعية المقاومة هو بمثابة "الغاء لكل حالة ممانعة ومقاومة للعدو الاسرائيلي". وكأنهم يريدون إدخال وترسيخ في عقول اللبنانيين إيديولجية "ولاية الفقهيه" المعصومة عن كل خطأ.

 

 وللتذكير، وللوزير فرنجية بشكل خاص، نورد حرفية ما قاله الشيخ نعيم قاسم في سياق مقابلة أجرتها معه محطة "كوثر" الإيرانية بتاريخ 16/4/2007، آملين ورود تعليق "صريح" منه على فحواها. ومما جاء فيها:"حزب الله اعتمد في الموقف الفقهي الذي له أيضاً علاقة بحركته العامة، وبحركته الجهادية الخاصة، على الولى الفقيه. فهو الذي يسمح والولى الفقيه هو الذي يمنع. وعندما انطلقت مقاومة "حزب الله" عام 1982، إنما اطلقت بنأً على رأي وقرار فقهي من الامام الخميني قدس الله سره، الذي يعتبر أن قتال اسرائيل واجب وبالتالي نحن نلتزم بهذا الرأي.

 

 فالكلام واضح مثل عين الشمس، والقتال مع اسرائيل حتمي وأبدي حتى آخر لبناني، وهذا ما قرره الامام الخميني، ولا رأي حسب وجهة نظرهم، لأي مرجعية لبنانية أخرى فيه. هذا مع العلم أن عجقة رجال الدين بشكل عام حول القرار السياسي، ومحاصرتهم له هي غير طبيعية، بل غير مرغوب فيها، لاعاقتها قيام النظام العلماني المدني المنشود. وإذا شكل النظام الطائفي المتحكم في لبنان، حتى اليوم، حاجزاً أساسياً أمام قيام النظام الديمقراطي الصحيح، فعن النظام الاتوقراطي المتمثل "بولاية الفقيه"، مثلما هو مطبق في ايران، ومثلما تسعى الثورة الاسلامية إلى تصديره إلى لبنان، حدث ولا حرج، كونه يشكل قفزة إلى الوراء، بالنسبة لطموحات اللبنانيين الساعية إلى التطور والاصلاح وإلى مواكبة الحداثة. وإذا كان من بقايا للديمقراطية في هذا البلد، ومنها حرية التعبير عن الرأي، لا بد وتبعاً لايديولوجية "ولاية الفقيه" الشمولية، من الاجهاز المنهجي والمتواصل عليها، حتى لا يبقى على الساحة السياسية سوى صوت واحد، وموقف واحد، هو صوت وموقف "ولاية الفقيه" التابعة لإيران. من هنا يمكن فهم الحملة المبرمجة ضد البطريرك صفير بشكل خاص، والمستهدفة مرجعية بكركي بشكل عام.

 

بيروت في 26/1/2008