حكمة الاعتذار... وإنكار "الأخيار"

بقلم/محمد سلام

الاحد 21 أيلول 2008

 

الأمم تبنى على قاعدتين:

 

1- قاعدة المصالحة مع الذات منطلقا للمصالحة مع الآخر المكتمل باختلافه جزءا من الذات الجماعية التي تكون الأمة.

 

وبهذا المعنى لا تكون المصالحة مع الآخر تنازلاً، بل تمسكأ بالذات الجماعية المكونة من كل "الذاتات" المتصالحة التي تتألف منها "أمة المواطنين" المتساوين في الحقوق والواجبات تحت سقف قانون ارتضوه لدولة تحتضنهم.

 

2- قاعدة الأخيار، وهم مجموعة ترى نفسها متمايزة عن بقية المجموعات التي تعيش حولها، فتتولى قيادتها إلى "أمة الرعايا".

 

رعايا هذه الأمة لا قانون يحدد حقوقهم وواجباتهم إلا القانون الذي يضعه الأخيار ولا دولة تعبر عن هويتهم إلا الدولة التي يرسم هؤلاء الأخيار أطرها. 

 

هذه المقدمة الأكاديمية المبسطة في علم السياسة ونشوء الأمم كان سردها ضرورياً لإظهار الفرق الشاسع بين موقفين يتنازعان الأمة اللبنانية اليوم:

 

1- موقف الاعتذار "العميق الصادق الكامل عن كل جرح أو أذية أو خسارة أو ضرر غير مبرر تسببنا به خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية خلال مرحلة الحرب الماضية" الذي قدمه رئيس الهيئة التنفيذية الدكتور سمير جعجع للبنانيين في ذكرى "شهداء المقاومة اللبنانية".

 

2- موقف "حزب السلاح" الذي يتمسك به في رفض الاعتذار عن مسلسل اجتياحات أيار الماضي على الرغم مما حفل به من جروح متعمدة، وأضرار متعمدة، وأذية  متعمدة، واستهداف متعمد للمجتمعات التي استهدفها ... وللدولة اللبنانية في الإطار الأشمل والأعم للمشهد السياسي.

 

السؤال البديهي الذي يطرحه تناقض الموقفين هو:

 

لماذا يستطيع الحكيم أن يعتذر؟ بل لماذا يستطيع الحكيم أن يفاخر باعتذاره؟ ولماذا يرفض "حزب السلاح" الاعتذار، بل لماذا يطالب "حزب السلاح" باعتذار منه؟

 

الدكتور جعجع يستطيع أن يعتذر لسببين:

 

1- لأنه يقود تنظيماً سياسياً "آدميا". أي تنظيم مكون من مخلوقات بشرية تحاسب وتقبل المحاسبة، كونها متمسكة بالتصالح مع ذاتها منطلقا للمصالحة مع الذات الجماعية بهدف تكوين الأمة اللبنانية وفق قوانين الدولة اللبنانية التي تمثل المواطنين اللبنانيين.

 

2- لأنه يريد أن يستمر في مسيرة "المقاومة اللبنانية السياسية" لتحقيق هدفه الأول.

 

"حزب السلاح" يرفض الاعتذار لسببين:

 

1- لأنه يعتقد أنه حزب إلهي، وهذا الاعتقاد وارد في تصريحات معلنة لمسؤوليه على مختلف المستويات، ومنهم من يعتقد أن الحزب طاعن في ألوهيته إلى درجة أنه سيبقي حتى بعد زوال كتب الله وأديانه. ومن ضمن هذا المفهوم، لا يستطيع الحزب أن يعتذر لأن الاعتذار يكون عن خطأ أو أذى أو ما شابه من ضمن إطار السلبيات، والله، عز جلاله لا يخطئ. فكيف يعتذر من يعتقد أنه إلهي؟ هذا مأزقه العقيدي.

 

2- ولأنه يعتقد أنه من الأخيار، وهذا أيضا اعتقاد راسخ وارد في المواقف المصرح بها علنا من أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله. والأخيار، كما اسلفنا، يكونون أمة الرعايا. والأخيار، بما أنهم أخيار، لا يقدمون اعتذارا لمن هم أدنى منهم من العامة، أي الرعايا ... أي جميع الآخرين.

 

مسألة الاعتذار الذي تقدم به الدكتور جعجع كبيرة لأنها خطوة تأسيسية على مسار الأمة اللبنانية ودولة المواطنين.

 

مسألة رفض "حزب السلاح" الاعتذار صغيرة، فعلا، لأن هدفه النهائي هو إقامة دولة "الرعايا" الخاضعين. وبالتالي فإن مجرد المراهنة على تقديمه اعتذارا هي من باب مضيعة الوقت... والأخطر هو أنها، أي المطالبة باعتذاره تؤسس لإضاعة بوصلة دولة المواطنين.

 

المسألة بهذه الخطورة. فمن يعتقد أن "حزب السلاح" يقبل بأن يكون "شريكا" في دولة مواطنين متساوين، في دولة الأمة اللبنانية، يكون في الحد الأدنى ساذجا.

 

"حزب السلاح" يريد، بالسلاح، إقامة دولة الأخيار التي تحكم العامة على قاعدة تقسيمهم إلى فئتين.

 

1- العامة الأخيار.

2- العامة الأشرار.

 

"حلفاؤه" من خارج إطاره التنظيمي المباشر، ومن ضمنهم شيعة "حركة أمل"، هم العامة الأخيار، كونهم الأدوات التي يكافئها بالفتات.

 

ما تبقى من اللبنانيين هم العامة الأشرار... الذين يجب إخضاعهم.

 

لذلك، المتاح فقط لقادة "المصالحات" مع "حزب السلاح" هو الانتقال من مرتبة العامة الأشرار إلى مستوى ... العامة الأخيار في دولة الرعايا الخاضعين للأخيار، وبالتالي تحولهم إلى أدوات.

 

شهد العالم، وما زال، نماذج عدة من هؤلاء الأخيار: في الحقبة النازية في ألمانيا، وفي الحقبة الستالينية في الاتحاد السوفياتي... في كوريا الشمالية ... وإيران.

 

المفاضلة هي بين أن يكون لبنان دولة مواطنين يعتذرون من بعضهم عن أخطائهم، أو دولة على شاكلة أحد النماذج الأربعة لا تقبل الاعتذار من... العامة-الرعايا.