متواضعاً، مؤنساً، يتدفّق الشلال

بقلم سمير عطاالله

 

"إنك لا تملك من روما سوى البلاطة التي سيحفر عليها اسمك. فحاول أن تستحقها".فيرجيل

 

أحاول أن أعِدَ نفسي، صباح كل يوم، بألا أدخل في ذكر الاسماء السياسية في باب الاعتراض. وأحاول أن أؤكد لنفسي ولضميري، وليس لأي مخلوق آخر، علا او هبط او بقي معلقاً، ان الموضوعية شاقة وصعبة وأحيانا غير أخلاقية، أما استقلالية الكاتب فليست خياراً.

 

وقد انتميت في حياتي فقط إلى جانب الضعفاء والخاسرين وإلى قيمهم، وعندما كان رفيق الحريري حيا وفي ملء قوته ونفوذه، لم أكن أؤيده ولم يكن هو يطيقني. ولم أقدّر رفيق الحريري ما في انجز ولم افتقده الا عندما شاهدته جسماً يحترق على الأرض ويحترق معه لبنان.

 

وعندما انقسم لبنان هذا الانقسام المريع، كنت أحاول، جاهداً وبما استطعت من احتراف، أن أبدو مستقلا عن فريقين لا يلزمني إياهما شيء ولا أحد. لكنني لم أنجح. لم أستطع أن أكون حيادياً ولا مستقلاًّ حيال سقوط لبنان. وقد هزتني كثرة التعالي وفجاجة الغرور وتكاثر الديوك الصغيرة التي لها صياح عال وريش قليل ومزروع. واكثر ما يشعرني بالذل أن أحس انني مع أحد ضد أحد. وشعوري المؤكد الوحيد ان لبنان يستحق غير من يدّعون محبته وانهم وحدهم يعرفون سبل خلاصه. وكنت اتدثر دائما بذكرى الغائبين لانه لا يمكن احدا ان يهزم شراهة الاحياء سوى نقاء الذين فقدنا. وأنا أعرف أن ريمون إده لن يعود، وتقي الدين الصلح لن يعود، وصائب سلام لن يعود، ولكن ليس من أحياء نحارب بهم جور الاحياء الجائرين علينا.

 

وكلما قلت سوف أكتب في مسألة اخرى، وأبحث عن موضوع آخر أرى الجور قد احتد والتعالي قد استوحش.

ويسألنا كثيرون في سخرية لطيفة: لمن تكتبون؟

 

لست أدري بماذا يجيب زملائي، أما أنا فأقول انني بالتأكيد لا اكتب للبنانيين، لكني اكتب للبنان. كل زهرة منه تستحق هذا الموقف. وكل ارزة، او بالاحرى كل شتلة تبغ، كما يفضل الرئيس نبيه بري. وأنا كفرد، أمس واليوم وغدا، لا فرق عندي ان كان العَلَم يحمل ارزة، او شتلة تبغ، او شرش الزلوع، اذا كان ذلك يضمن قيام بلد سوي ودولة عادلة. لقد حمل علم فرنسا بيتان وديغول. الاول وضع ثقته في الفرنسيين وتعاقد معهم على قبول الاحتلال، والثاني لم يثق الا بفرنسا، وتعاقد معها على الحرية.

 

الثري الذي يفقد محفظته يتصل بالبنك لالغاء البطاقات. الفقير الذي يفقد جزدانه يحزن. ولا أحد يتصل به. لقد اصبحنا فقراء في الرجال. لسنا معدمين، ولكن بالتأكيد فقراء. قال انطوان دو سانت ايكزوبيري: "أذا عدت، فسوف يكون عندي هاجس وحيد: ماذا يجب ان اقول للرجال؟".

 

عندما يخاطبنا السادة السياسيون، في الصباح، والمساء، ينسون دائما اننا بشر. والبشر عبارة عن مشاعر صغيرة واشياء صغيرة وتفاصيل صغيرة. كل شيء صغير في الناس الا كرامتها – اذا كانت لديها كرامة. لذلك كانت الحروب والمقاتل والعداوات التاريخية، تبدأ دائما باعتداء على كرامة، لا على مال. وعندما ارادت الثورة الفلسطينية ان تجيّش الناس خلفها انتقت "الكرامة" موقعا لمعركتها الاولى.

 

هنا أعود الى بداية المقال، او بداية القول، لأعرب عن أسفي لاستحالة الكتابة دون الاضطرار احيانا الى ذكر الاسماء، او التذكير بما قال اصحابها. فقد نسب الى المفكر السياسي في حزب "التيار الوطني الحر" السيد جبران باسيل، ان الحزب ذاهب الى جزين (يوم الاحد تاريخ 25 آب، الشهر الامبراطوري) "من اجل استردادها".

 

وانا قروي بسيط من قرى جزين. لست اقول ذلك بأي تواضع كاذب، بل ثبتا لحقيقة جميلة لا مفر منها ولا رغبة في الفرار منها، سواء كانت جزين ملكا ضائعا للسيد جبران باسيل واندلس حزب "التيار"، وها هما على وشك استعادتها.

 

انا، كانت لدي فكرة خاطئة تماما عن ملكية جزين. كنت اعتقد انها ملك رجال مثل سليمان كنعان الذي اعتقلته الآستانة في معركته من اجل استقلال لبنان. او ملك رجل مثل البطريرك بولس بطرس المعوشي، المعروف ايضا بـ"محمد المعوشي". او ملك استاذها وشاعرها أمين رزق. او ملك نائبها النادر ابرهيم عازار. او ملك قضاتها الكبار. او ملك اطبائها المشاهير من آل سرحال. او ملك ابنها كارلوس سليم الذي أعلن العام الماضي اغنى رجل على الكوكب. واخجل من تعداد الاحياء في حضرة السيد باسيل.

 

ولم يحدد وزير الاتصالات وهي احدى الحقائب "التي في تصرفنا" كما يسميها العماد ميشال عون، ان كان يريد استرداد جزين، وحدها او معها بلدات القضاء وقراه ايضا، ومنها المكنونية التي كنا نعتز بأن منها خرج الجنرال عون، ولا يزال فيها اهله وجذوره، وتقع في الطريق الى جزين ومهرجاناتها النيابية، وكانت تستحق زيارة سريعة لمرقد الاهل.

 

في اي حال، اذا كان المنظّر السياسي لـ"التيار" يريد ايضا استرداد قرى القضاء، فما علينا الا ان نضع له لائحة ببعض من يجب تأديبهم: فيكتور خوري في بكاسين، وجميل عازوري في عازور، ومطارنة روم، وشهداء الصالحية، ولويس الحاج في قيتولي، وبولس سلامة في بتدين اللقش، ولائحة طويلة لا تقع، ويا للاسف، في ملكية السيد باسيل ولا يمكن اعادتها اليه لانها كانت ملك لبنان.

 

لا ادري لماذا لم يطالب باسيل باسترداد جزين عندما كانت تحت جنازير الاحتلال الاسرائيلي وبنادق انكشارية لحد؟

اين كنت يا عزيزنا عندما كانت جزين بين الفقر المطلق والحصار المذل والحصار العفن؟

لماذا لم تطلب صكوك الملكية آنذاك؟

 

دعني اقل لك انه اذا كنا نذكر شيئا لإميل لحود فهو صورته في جزين بعد التحرير. ولا ادري اين كنت معاليك ولا مَن من اهل "التيار" كان يحارب اسرائيل، وخصوصا اولئك الذين اكتشفوا اليوم، بسعادة بالغة، شيئا يدعى القضية الفلسطينية فضموها الى لائحة خطابية لا خسارة فيها.

 

لقد بقيت عشرين عاما لا ارى ارضي وها معاليك تريد استردادها. ممن؟ كيف تريد استعادة هذا القطيع؟ لماذا لا تخاطب اللبنانيين الا بلغة الصكوك والجلول والعقارات؟ الا يستحق اللبنانيون خطابا آخر منكم؟ دعني أجب: طبعا لا يستحقون. كما تكونون يولى عليكم يا مولاي.

بقلم سمير عطاالله     

27 آب 2008