ما لكم كيف تحكمون !

السيد علي الأمين

 

ان المتابع لمجريات الاحداث والسجالات السياسية القائمة على الساحة اللبنانية بين مختلف القيادات يشعر بمدى الخطورة والقلق والخوف على المستقبل مما آلت اليه الأمور ولما يمكن ان ينجم عنها بسبب الابتعاد عن كل القواعد المعتمدة في المجتمعات العقلانية عند وقوع المخاصمة والاحتجاج. فالعقلاء عندما يختلفون يرجعون في انهاء الاختلافات في ما بينهم الى مؤسسات التحكيم التي اتفقوا عليها والى قواعد المنطق والتفكير والاستدلال والاستنتاج التي يظهر منها صحيح الحجة من فاسدها.

 

ولكن ما يجري في لبنان هو من أسوأ انواع الجدل، اين منه الجدل البيزنطي، الذي اصبح مضرب الامثال، وقد كان يوجد ما يشبه الحجة والدليل في الشكل والصورة في الجدل البيزنطي ومدرسة الشك في كل شيء رغم بطلان ذلك وعدم جدواه، ولكن الجدل الذي نشهده عند بعض اللبنانيين ليس فيه من الحجة والبرهان حتى شبيه الشكل والصورة، وقد برز هذا النوع السيء من الجدل الرديء والركيك خلال ازمة الرئاسة وما قبلها، والتي ما زلنا نعيش فيها حتى اليوم، وقد انكشف وهن الحجج وفقدان المنطق وضعف الادلة وسقوطها امام القاصي والداني. وقد كانت النماذج لتلك الحجج الساقطة والوعود الكاذبة كثيرة يصعب احصاؤها ولكننا نذكر بعضها عبرة لمن اعتبر وتذكرة لمن يتذكّر، وقد بدأ بعضهم بالتمهيد للفراغ الحاصل اليوم بالقول بأن مخالفة الدستور عنده كبيرة من الكبائر لم يرتكبها في حياته السياسية ولا يقدم عليها وان كان لديه من مخالفة فهي في القوانين وهي عنده من الصغائر! ونحن نوافقه على المسألة الأولى لأن تعطيل الدستور ومخالفته من قبل المسؤول عنه والمؤتمن عليه يشكل الخطوة الاولى في اتجاه تشريع شريعة الغاب.

 

ولكن السؤال من فعل ويفعل ذلك؟! لقد انتهت المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية وارتكب هذا الحرام الدستوري ولا يزال يرتكب بالتأجيل والتعطيل تحت شعارات مضحكة وحجج واهية ليس فيها شيء من العلم والمعرفة والثقافة سوى العناد والمكابرة كشعار نصاب الثلثين والحق الديموقراطي للنواب! ولا ندري فهل يوجد في العالم نظام يعطل نفسه بنفسه؟! وهل تبطل الديموقراطية نفسها؟! وهل غاب عن السادة النواب الغائبين والممثلين للشعب والمؤتمنين على الدستور ان الانتخاب اذا كان واجباً فقد وجب الحضور عليهم من اجل القيام بالواجب لحكم العقل والعقلاء بوجوب الاتيان بمقدمة الأمر الواجب لأن ترك المقدمة هو ترك للواجب فلا يمكن ان يكون شيء ما واجب الفعل وفي الوقت نفسه يجوز ترك مقدمته الموصلة اليه. فاذا وجبت الصلاة فقد وجب الوضوء واذا وجب التعلّم فقد وجب الذهاب الى صفوف المدرسة وليس الى ملاعبها. واذا وجب الانتخاب فقد وجب القيام بكل ما يؤدي الى انجازه بالذهاب الى قاعة الانتخاب وليس للجلوس في مكاتب النواب.

 

وهذا معنى القاعدة العقلية والعقلائية التي تقول "اذا وجب الشيء فقد وجبت مقدمته" وفي ضوء هذه القاعدة فان غياب النواب عن جلسة الانتخاب لا يقع تحت عنوان الحق الديموقراطي والانتخابي وإنما يقع تحت عنوان "العصيان النيابي" الذي يجب ان يعاقب عليه النائب الغائب عمداً باسقاط وكالته عن الشعب وابطال تمثيله له. وقد نسي رئيس مجلس النواب وهو يكرر قوله بأنه دعا تسع عشرة مرة لانتخاب رئيس للجمهورية ان واجبه الاساسي والمهم ليس في دعوته للانتخاب فحسب وانما واجبه الاساسي الحضور وترؤس جلسة الانتخاب، فمن دعا الناس الى شيء وجب عليه ان يسبقهم اليهم كما قال الامام علي (ع) (ما أمرتكم بشيء إلا وسبقتكم اليه وما نهيتكم عن شيء الا وكنت انهاكم عنه) (ومن نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بوعظ نفسه).

 

ثم جاء بعد ذلك عهد المبادرات الأوروبية والعربية وبدأ مسلسل المغالطات المكشوفة من جديد. فتارة يقولون تنازلنا عن المشاركة في الحكومة لمصلحة الرئيس التوافقي فاذا ما حصل التوافق على رئيس عادوا الى المطالبة بالمشاركة من جديد بطريقة اخرى وبنود جديدة.

 

وجاءت بعد ذلك مبادرة الجامعة العربية بلسان عربي مبين فأظهروا فيها من التفسيرات والاجتهادات ما لم ينزل به الله سلطانا. اجتهادات في قبال النص وفي حضور صاحب النص حتى قال بعضهم له نحن اولى بفهم المبادرة ونصوصها منك وإن كنت مؤلفها وصاحبها! فكانت اجتهاداتهم من أسوأ وأبشع أنواع الاجتهادات التي سمعنا بها في تاريخ الاجتهاد.

 

وبعدما ظهر للعيان بطلان اجتهاداتهم احالوا القضية على الاحرف الابجدية وقالوا بان الحل في ابجدية العرب (س – س) ولم يفهم صاحب المبادرة ومعه العرب العاربة والمستعربة والعالم والناخبون اللبنانيون ما علاقة قيام المجلس النيابي ورئيسه بواجب انتخاب رئيس للجمهورية بالاحرف الابجدية التي لم يطلع عليها الناخبون عند انتخاب نوابهم؟!

 

والشيء غير المفهوم عند عقلاء العالم والبعيد عن لغة العقل والمنطق هو الربط بين الانتخاب الفوري لرئيس متفق عليه والبنود الاخرى التي تأتي بعده بالترتيب. فاذا قال القائل يجب تشييد بناء من ثلاث طبقات فورا فهذا لا يعني سوى الترتيب والتعاقب في الفورية ولا يعني ايجاد الطبقات الثلاث دفعة واحدة كما يصرون على السلة الواحدة ناسين ان المبادرة العربية هي وصفة دواء للازمة اللبنانية وان بالامكان استلام الوصفة دفعة واحدة ولكن ليس بالامكان تناول ما فيها من الادوية دفعة واحدة فكل دواء له وقته وموعده. وفي كل الاحوال فان العقلاء ينطلقون من الامر الذي عليه يتفقون الى الامور التي عليها يختلفون. قال الشاعر:

وليس يصح في الافهام شيء

اذا احتاج النهار الى دليل!

 

ثم انهم بعد انعقاد القمة العربية في دمشق واعلان زعمائها عن تأييدهم مجددا للمبادرة العربية، انقلبوا على الامر وقالوا ان المبادرة العربية بحاجة الى الحوار الداخلي ولم يعد لها من علاقة بالابجدية العربية وجاؤوا بابجدية جديدة هي ابجدية الحوار مع انهم كانوا قد رفضوه في ما مضى عندما اعلنوا الطلاق وآثروا الفراق على الوفاق! فهل عادوا الى الحق الذي تركوه على قاعدة المأثور (ما ترك المرء وجها من وجوه الحق الا واحوجه الله اليه)؟.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه ان المبادرة العربية التي دعت الى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية اللبنانية ليس فيها دعوة الى الحوار قبل الانتخاب وليس في الدستور اللبناني سوى انتخاب الرئيس بلا قيد ولا شرط.

 

فاين الالتزام بالمبادرة العربية كما يقولون؟! واين هم من احترام الدستور كما يزعمون؟! ومما يثير المزيد من العجب ان الحوار خارج المؤسسات هو امر ممكن التأجيل فكيف يكون سببا لتعطيل انتخاب واجب التعجيل؟!

 

وبعد كل هذا التأجيل والتعطيل وفشل كل محاولات التجميل، عليك ان تصدق ايها العاقل بان مجلس النواب مفتوح الابواب للسادة النواب وإن دعاهم رئيس المجلس وغاب! فما لكم كيف تحكمون! والى اين انتم بالبلاد تذهبون؟! وعلى اي جريمة بحق شعبكم انتم تقدمون؟! فالى محكمة التاريخ كما قال امير الشعراء احمد شوقي:

من عادة التاريخ ملء قضائه

عدل وملء كنانتيه سهام

وان محكمة الله كما قال الإمام علي لبعض ولاته: (فارفع إليّ حسابك واعلن ان حساب الله اعظم من حساب الناس).