كيف نجح حزب الله بالحفاظ على حكومته، أين أخفقت 14 آذار في معركتها المعارضة؟

كتبت ميشلين أبي سلوم*

 

شكّل نجيب ميقاتي عنوان مرحلة جديدة من التسلط السياسي نهاية العام 2010. بادعائه التضحية والحرص على السلم الأهلي؛ قَبـِل ميقاتي رئاسة حكومة أتى بها "حزب الله" على انقاض حكومة سعد الحريري التي أسقطها الحزب المذكور–ومعها اتفاق الدوحة- بقوة السلاح.

 

ونجيب ميقاتي يروّج أنه امتنع عن الاستقالة انقاذاً للبنان من الفراغ المجهول. إلا أن المراقبين يرون أنه في امتناعه هذا يكون قد ألقى بلبنان الى ما هو أخطر من الفراغ والمجهول، بعد أن رفض الحل الدستوري باستقالته، تاركاً أمر المواجهة الى الشارع، الذي يصر على التخلص من هذه الحكومة، لأسباب معيشية واقتصادية وأمنية، والتي كان اغتيال اللواء وسام الحسن بمثابة الشعرة التي قصمت “ظهر الشارع” وفجرت غضبه.

 

إسقاط الحكومة وسيلة ردع للقتلة!

لا شك في أن اغتيال وسام الحسن كان جريمة مزدوجة، أصابت  لبنان بشقيه الأمني والسياسي. وكانت من الخطورة بحيث حولت المياه اللبنانية الراكدة، التي غرقت فيها الحالة السياسية الهامدة والوضع الأمني الهش، إلى طوفان يستحيل تجنب آثاره وتداعياته.

 

ومع اغتيال اللواء وسام الحسن؛ انطلقت حملة سياسية هادفة إلى إسقاط الحكومة. في الواقع فإن المطالبة بإسقاط أية حكومة عقب جريمة بهذا الحجم أمر مبرر وطبيعي، فكيف إذا كانت الحكومة تضم فريقاً متهماً بالقتل، ليس في جريمة اغتيال الحسن فحسب، وإنما في عدة جرائم سابقة اعتباراً من محاولة اغتيال مروان حمادة في العام 2004! لكن ما هو أكثر أهمية في هذا السياق أن إسقاط الحكومة فيما لو نجح؛ لشكّل ردعاً للقتل أو ثمناً كبيراً يدفعه فريق القتل جراء ما اقترف. كيف ذلك؟

 

كما هو معلوم؛ فإن حكومة ميقاتي كانت ولا تزال حاجة سورية-إيرانية، فهي -من جهة- لعبت –وما تزال- أدواراً دبلوماسية، حلّت فيها محل الحكومة السورية المنبوذة في المحافل الدولية، كما أنها – من جهة أخرى-عوّضت تضعضع المحور السوري-الإيراني بعد اندلاع الثورة في السورية، وهي فوق هذا وذاك وسيلة هامة من وسائل سيطرة "حزب الله" على البلد؛ وقد تطلب حصوله عليها مخاضاً؛ نقض خلاله عهوده بعدم إدخال السلاح في المعادلة السياسية الداخلية، ومسح توقيعه على اتفاق دولي يقضي بعدم الاستقالة من حكومة الوحدة الوطنية... وعليه؛ فإن إسقاط الحكومة يعني خسارة محضة لـ "حزب الله" يمكن وضعها في مقابل خسارة فريق السيادة الوطنية قائداً أمنياً؛ تجرأ على فضح وتوقيف شبكة سماحة –المملوك التي تنتمي إلى المحور السوري-الإيراني.

بهذا المعنى يشكّل إسقاط الحكومة وسيلة ردع، لأن كل ثمن يدفعه فريق القتلة يجبره على التفكير في عواقب ما يقترف في المرات القادمة، وفي كل الأحوال فإن إسقاط الحكومة كان سيعتبر مكسباً سيادياً يخفف من آلام استشهاد اللواء الحسن... لكن الأمر لم ينجح!

 

كيف نجح "حزب الله" بالحفاظ على حياة حكومته؟

رغم أن موجة الغضب عقب اغتيال الحسن كانت كبيرة، وردود الأفعال تجاوزت ما توقعه كثيرون، إلا أن حكومة ميقاتي صمدت، والمفارقة أن سقوطها بدا في الساعات الأولى للجريمة أسهل من التوقعات، لكن ذلك الزهد المصطنع بها لم يكن إلا واحدة من الوسائل التي حافظت الحكومة من خلالها على حياتها!

 

في إعادة قراءة للأحداث والتطورات التي أعقبت اغتيال الحسن يظهر أن ميقاتي كان بارعاً في المناورة إلى درجة إعلانه بنفسه أنه وضع استقالته بتصرف رئيس الجمهورية، وأن الحكومة لن تعقد اجتماعاتٍ بعد اليوم، ليتبين أنه لم يضع استقالته فعلياً في تصرف رئيس البلاد، وإنما تشاور معه في الأمر، ثم ليعلن لاحقاً أنه بعد "اللي حصل بالأمس – محاولة الهجوم على القصر الحكومي- هناك حكي تاني"، ثم ليعلن فيما بعد أن الحكومة ستعقد جلساتها بشكل اعتيادي، لأن سقوطها يعني الموافقة على "الاشتراك في دم الحسن"، ثم ليصل –بعد أن هدأت الأمور- إلى حد المزايدة في الحرص على الطائفة السنية بالقول: "لا أحد أكثر حرصاً مني على الطائفة السنية... فليراجعوا أسلوبهم لأراجع أسلوبي واستقالتي اليوم غير واردة!"

 

بالتوازي صمت "حزب الله" في الأيام الثلاثة التي اعقبت الاغتيال بقرار مركزي يقوم على أساس أن أي دفاع للحزب عن الحكومة يزيد من فرص إسقاطها، لكن ما إن هدأت العاصفة حتى جاهر الحزب بحقيقة موقفه، وهو التمسك بهذه الحكومة حتى آخر رمق في جسد السلم الأهلي المريض، وصولاً إلى إعلان رئيس مكتبه السياسي بوضوح: "لا مطلب اسمه إسقاط الحكومة!"

بدوره بدا فريق الثامن من آذار، الممثـل في الحكومة "براغماتياً" إلى درجة الموافقة على طلب ميقاتي استقدام الـ FBI للتحقيق بالجريمة، فضلاً عن إفراجه عن كامل "داتا" الاتصالات (رغم اعتباره السابق أن ذلك ينتهك الخصوصية الشخصية)، واستتباعاً إحالة القضية إلى المجلس العدلي، وفوق ذلك؛ الاشتراك في مراسم التعزية جميعها باعتبار الحسن شهيداً للوطن... فيما مارس الرئيس نبيه بري "براعة" الظهور بمظهر الوسطي بطرحه حكومة وحدة يعلم سلفاً أنها غير ممكنة.

 

وغير بعيد عن "البراغماتية" بدا لافتاً جداً اهتمام فريق الثامن من آذار إياه بالموقف الدولي والرغبات الفرنسية الأمريكية الداعية للمحافظة على الاستقرار، والمحذرة من الفراغ السياسي!، والاحترام المستجد الذي بات يحظى به كلام المفتي محمد قباني لدى فريق 8 آذار، ومثل ذلك يقال عن محبة ميقاتي التي هبطت على العماد ميشال عون باعتبار أن "من العيب تحميل ميقاتي دم الحسن وهو الذي حماه"، وكذا الاستفادة من موقف رئيس البلاد الذي دعا إلى انعقاد سريع لطاولة الحوار، فتمسك أنصار الحكومة بالدعوة ابتداءً باعتبار أن "الحوار هو المكان الصالح لبحث مصير الحكومة"، ثم مع مرور العاصفة الشعبية صارت الحكومة مكاناً لحل المشكلات، مع سحب إمكانية إسقاط الحكومة كما أعلن "حزب الله" من بكركي بالذات قبل أيام!

 

 جنبلاط والشق المحلي في المعادلة الأمنية

وكما كان ثقل وليد جنبلاط سبباً في وصول نجيب ميقاتي الى السرايا، قد كان أيضاً السبب في تمسك ميقاتي بكرسي الرئاسة الثالثة. فبعد ساعات قليلة على انتشار خبر اتجاه ميقاتي الى الاستقالة، سارع جنبلاط الى وضع المسامير في ركبه المرتجفة. وبالسرعة نفسها، أدركت المعارضة أنها خسرت رهانها على وليد جنبلاط، الذي عاد الى إعلان تمسكه بالوسطية. لكن “الوسطية” لم تتمسك بموقعها الافتراضي، أي “البين ـ بين”، بعد أن اختارت الانحياز الكامل الى سياسات 8 آذار، حتى ولو احتفظت بالتسمية كتمويه، فقد قدرته على الخداع. وبذلك أصبحت الاطاحة بحكومة ميقاتي عبر الطرق الدستورية مستحيلة. فلا ميقاتي سيستقيل، ولا كتلة جنبلاط النيابية ستجعل بيضة القبان تميل الى الأقلية، لتجعل منها أكثرية مرة أخرى.

 

من المعلوم أن حاجة جنبلاط لتجنيب البلاد والدروز تحديداً تبعات هجوم عسكري يشنه "حزب الله" على خصومه المحليين (على غرار السابع من أيار) هو الذي دفع جنبلاط للانسحاب من الأكثرية النيابية السابقة، وتالياً تشكيل حكومة ميقاتي التي أصبح جزءاً منها، ذلك أن انسحابه من الأكثرية النيابية أتى بعد رسالة القمصان السود المعروفة.

 

ومع أن جنبلاط حرّر نفسه من ربقة النظام السوري بعد اندلاع الثورة السورية، مبرراً مواقفه السابقة و"لحظة التخلي" التي سبق وأعلن عنها، بأن "المسدس كان مصوباً إلى رأسه"، إلا أن جنبلاط لم يتخذ بعد قرار تحرير نفسه من ربقة الخوف من غضب "حزب الله" وتبعات ذلك على البلد، ولهذا السبب فإن جنبلاط اتهم بوضوح النظام السوري بجريمة اغتيال الحسن، دون أن يصوّب قط باتجاه حليف هذا النظام؛ "حزب الله"، مع أنه يدرك تمام الإدراك أن جريمة اغتيال الحسن لا يمكن أن تتم بلا شريك محلي!، والأهم أن جنبلاط المخضرم أدرك سريعاً أن "حزب الله" لن يرضى بسقوط الحكومة، ولو كان الثمن استعماله السلاح، فأعلن الحرص على الحكومة، ورفضه استقالتها، وصولاً إلى قوله "مصيري وميقاتي مشترك"، وأنه يوافق على حكومة جديدة لكن برئاسة ميقاتي نفسه!

وهكذا تكون “الجرة التي انكسرت” بين سعد الحريري ووليد جنبلاط، قد قطعت آمال الأخير بالحضن السعودي، من دون أن تعيد الحرارة الى علاقته السيئة بإيران، وبذلك سيفتقد جنبلاط، لأول مرة، علاقاته الاقليمية والعربية، وربما الدولية، مما يزيد في عزلته، بعد أن اختار المختارة مكاناً لإقامته شبه الجبرية

 

وأخطاء 14 آذار

زاد الطين بلة أن 14 آذار نفسها بدت مرتبكة وضعيفة في معركة إسقاط الحكومة؛ إذ لم تظهر بشكل واضح –وحتى الآن- معالم مسار التعامل مع الحكومة ومراحله، وأهم من ذلك أن عيوباً بالغة في جسم 14 آذار ظهرت أثناء خوضها هذه المعركة السياسية. على سبيل المثال لا الحصر:

-أولا, بان واضحاً أثر الإبعاد "القسري" للرئيس سعد الحريري عن البلد لدى تيار "المستقبل" على الأقل، وفي الشارع السني على وجه التحديد، حيث النمو المتصاعد لجماعات وقوى دينية، تتجاوز "المستقبل" في حجم ونوعية خصومتها لـ "حزب الله".

-ثانيا, ظهور ضعف السيطرة على الشارع السني الغاضب والمتمرد على قيادته، بل قياداته جميعها، إلى درجة مجاهرة قطاعات واسعة منه بحمل السلاح، خلافاً لأدبيات التيار الأكثر تمثيلاً لهذا الشارع أي تيار "المستقبل".

-ثالثا, ارتكاب أخطاء تكتية كبيرة أهمها الدعوة المرتجلة للهجوم على السراي الحكومي، وقطع الطرقات بشكل عشوائي وفي المناطق التي لا تؤيد الحكومة أساساً.

-رابعا, عجز القيادات السياسية عن لجم الاشتباكات العبثية في غير مكان، لا سيما في بيروت، حيث شكّل الاقتتال لغاية ساعات طوية لغزاً لم يفهم الناس خلاله من يقاتل من!

-خامسا, تضعضع المستوى القيادي في 14 آذار نفسها وظهور خلافات، وصلت إلى حد غياب ممثلين أساسيين عن الاجتماعات العامة التي يعقدها هذا الفريق.

الواضح إذاً؛ أن معركة إسقاط الحكومة عقب اغتيال اللواء الحسن أخفقت- أقله مرحلياً- وهذا يعني أن الحكومة ستبقى إلى محطة جديدة، ربما تكون اغتيالاً جديداً –لا سمح الله- أو تصل إلى موعد الانتخابات النيابية، حيث سيتجدد النقاش جدياً حول شرعية إشرافها على انتخابات نزيهة... في الأثناء ثمة من لم يعد يهتم لا لوجود الحكومة الحالي، ولا لموعد الانتخابات العامة القادم، فالمشكلة بنظره تبدأ وتنتهي عند السلاح، إذ لا حياة سياسية بوجوده، ولا أكثرية ولا من يكسبون انتخابات تشريعية!

*صحافية لبنانية

13 تشرين الثاني/12