فيروز

بقلم/شربل بركات

 

أن تغني فيروز اليوم وفي العقد السابع مهم جدا لنا جميعا. فهي ربما تودّع الغناء وقد تكون هذه الإطلالة الأخيرة لها على خشبة المسرح، من يدري؟ وفيروز آخر الأعمدة في ثالوث أسطورة المحبة التي سميت الأخوين رحباني.

 

ماذا يريد منا الشر وهو أخذ كل شيء؟ فهل يريدنا أن نعترف له بالقدرة حتى على منع صوت فيروز من أن ينطلق؟

 

لقد خسر لبنان كل جميل أتحف العالم به في مرحلة العز السابقة وهو بدا لهذا العالم وكأنه يرفض كل ماضيه الجميل، كل ما أعطى من مثل وتعاليم وكل ما أنتج من حكايات قد تؤثر إيجابيا في سير البشرية نحو التعاون المجدي.

 

لم يخف اللبنانيون من العيش مع الآخر كائنا من كان هذا الآخر لأنهم كانوا اعتادوا العيش بجانب بعض، بالرغم من تلونهم وتنوعهم، وبالرغم من كل التجارب القاسية عبر تاريخهم، هم عاشوا في ظل دولتهم الفتية والمستقلة بكل محبة واحترام حتى قيل بأن هناك مثالا حيا لتعايش الأمم يمكن اختباره في لبنان، ولذا كانت الحرب التي بدأت تفصل بالقوة وتمنع بالتقنيص ذلك التواصل.

 

حاولوا الفرز فلم ينجح، وحاولوا العزل فلم يفد، فجاؤوا بالإرهاب وعملوا على قلة ليلبسوا البذل والتضحية التي تنتج عن أعلى مستوى من المحبة والانفتاح وجه الانتحار الذي يجسّد أقسى أنواع الحقد والانغلاق، وصار الدفع نحو التباعد مهمة إعلانية يستعمل من أجلها وسائل حديثة وتصرف عليها أموال أكثر من السلاح وينادي بها حتى من يجب أن يبشّر بالعدل ويدعو للرحمة. ويوم لم ينجحوا في عزل المسيحيين قاموا بعزل الشيعة واستعمالهم لفرض العنف حتى يصبح اسم لبنان مساوي للإرهاب.

 

ماذا يريدون اليوم أن يقولوا لنا؟ هل يجب أن تصرّح فيروز بأن كل صور وأحلام التعاون الرحبانية غير موجودة أصلا؟ وأن المجتمعات وحتى داخل العائلة الواحدة يجب أن تكون "مدينة حديد" لا دليل فيها سوى "المحامي"؟

 

قال منصور مرة على لسان "قرنفل"، في مسرحية "صح النوم"، "رميت السعادة للناس زهّرت بإيدي..." فأين السعادة اليوم وأين تلك اليد التي ترميها للناس؟

 

قد تكون الحاجة، صحيح، سببا للمشاكل ولكن أين الحاجة اليوم من درّاجتي عاصي ومنصور اللتان استعملاهما للذهاب إلى عملهما كل صباح؟ وهل كانت نمت العبقرية الرحبانية الممزوجة بالنقاوة ووضوح الرؤية لولا ذلك الجهد اليومي الذي أطلق العنان للعطاء الرحباني؟ وهل نسي "الورثاء" بأنهم لم يرثوا المال والحقوق فقط بل يجب أن يكونوا ورثوا معهم الروح الرحبانية؟ وأن كل علمهم وآلاتهم والأجهزة والتمويل لن يعطوا مرة "حبيتك والشوق نقال وليلات الحلوة عل البال" لأن الحب لا يشرى والشوق لا يباع بل يزهر كلاهما في أرض طيبة ترعاها أيادي الفلاحين البسطاء أو على دروب خيّرة تزينها أقدام الرعاة الحافية وألحانهم المنبعثة من منجيرات بدائية.

 

حزين بلدنا اليوم لا لأنه لم يبلغ من القوة أو الثراء مبلغا ولكن لأنه يتخلى عن خصائصه وجماله ليستجدي الغمّ ويستجلب صراعات الآخرين إليه.

 

فويل لأمة لا تعرف أن ترى عطايا الله لها، وويل لشعب يرمي في النفايات أحلام البشرية وآمال الأمم، التي عشعشت في دياره وشكلت أجمل ألوانه التي حسده عليها الكل، ليستبدلها بالزائل من المتاع والرخيص من المظاهر.

 

لا نريد أن "نحكم بالعدل" كما قال الرحابنة على لسان فخر الدين و"لنحكم بالصداقة" لا بل بالمحبة، ولما لا، فكلنا عائلة واحدة والكل سائر إلى ربه بدون استثناء ولو اختلفت التواريخ. فلنترك التصارع للسياسيين ولننسى القسمة والميراث ولنتعرف على جمال الرحابنة بصوت فيروز هذه المرة لأننا قد نستفيق من الحلم فلا نجد من هذا التراث الرحباني شيئا كما أفقنا ولم نجد من لبنان الذي عرفناه أية معالم.

 

فرحمة بالأجيال القادمة لا تشوّهوا وجها حضاريا بأوساخ المادة التي لا تدوم ولا تثمر في مجالات الحضارة الحقيقية تلك التي تستمر لتنتقل عبر الأجيال. واعلموا أن ما يبقى في الذاكرة الجماعية أغلى بكثير مما ينتقل في أرصدة البنوك، وأن الصور الجميلة حساسة جدا وهي كالزجاج لا تتحمل أي خدش. فهل من سميع مجيب أم أن الآذان كما العيون والقلوب قد صمها الطمع وأعماها الجشع وأثقلتها الأنانية التي بعدت كثيرا عن فن الرحابنة وإنتاجهم المتكامل؟

 

ويا رب هل بعد كل هذا مزيدا من القصاص لنا نحن اللبنانيين؟ وهل هناك من أمل في تغيير صورتنا البائسة التي طمستها محاولات التجميل وزيادة الألوان واختراع المستحضرات ومزج الحلول حتى باتت لا تشبهنا أبدا فكيف بها أن تتشبه بك وأنت الوحي والجمال؟ وإلى متى يبقى لبنان الذي كان يوما هيكلا لك وملاذا لكل مضطهد ساحة لصراعات الآخرين ومركزا لتصفية الحسابات؟ وكيف سنجتاز هذه المرحلة الصعبة من الحقد التي بلغت بيوتنا وفسّخت أعمدتنا ولم تترك لنا مثالا نتشبه بعطائه ولا صورة نعتز بتكاملها؟

 

وهل نقول وداعا لتلك الأسطورة الرحبانية التي عاشت في مخيلتنا زمنا طويلا، لمن رفض التفرد حتى بالإسم وأختار دوما المشاركة كرمز للتعاون المجدي؟

 

وداعا يا فيروز؟... أم إلى اللقاء مع كل العائلة الرحبانية متماسكة كما الآباء؟...

 

شربل بركات

تورونتو- كندا
1-آب-2010