لبنانية مزارع شبعا والحوار

بقلم/الكولونيل شربل بركات

أهم ما في الحوار الجاري بين الزعماء اللبنانيين هو أنه لأول مرة منذ 1976 يسمح لهم بالاجتماع والتحاور بدون وصاية "ظاهرة". فقد كان الحوار بين اللبنانيين حول الأمور الأساسية لا يتم إلا بالواسطة أو بوجود "الوصي" السوري الذي لم يكن ليقبل بتفاهم واستقرار لا يكون هو فيه المرجع، ومن هنا عدم خروج لبنان من أذمته طيلة الثلاثين سنة الماضية.

اليوم وبعد خروج السوريين، ورغم تعلق البعض الدائم بهم بشكل أو بآخر وارتباطه بتحالفات مع غيرهم في المنطقة، هناك إرادة دولية سمحت بوجود توازن بين القوى الخارجية منع تدخلها المباشر، ما قد يؤدي إلى تفاهم الزعماء حول بعض الأمور. من هنا كان الإصرار على عدم الفشل والخروج بنقاط  تبشر ببداية التفاهم، ولو كان بعضها ملغوما.

النقاط الأربعة التي أعلنها الرئيس بري في نهاية آخر جلسة هي، برأي البعض إنجازا مهما، وبرأي البعض الآخر بديهيات لم تضف الكثير على آمال اللبنانيين بانتهاء الأزمات وبداية السير في طريق الاستقرار والبناء.

ولكن الإصرار على إعلانها قبل التأجيل الثاني كان لا شك ضروريا لاستمرارية الحوار وظهوره بنتائج ولو شكلية.

فالاعتراف بوجود أزمة حكم هو أول البديهيات وإلا فلما كان الحوار؟ ولكن الإشارة إليه هي بدون شك بداية البحث عن الحلول.

أما العلاقات اللبنانية السورية وضرورة أن تكون خاضعة لمبدأ الندية والتعامل بالمثل فهي مطلب مهم انتظر اللبنانيون إعلانه طويلا لأنه يؤسس لعلاقات طبيعية بين البلدين وهي غاية كل لبناني، يبقى أن تقبل سوريا بالتعاون في هذا المجال.

أما موضوع السلاح الفلسطيني، الذي كان منذ البدء ما أشعل النيران في الهشيم اللبناني، وعملية ضبطه في مرحلة أولى داخل المخيمات وفي مهلة حددت بستة أشهر، فهو مهم للبدء في سيطرة الدولة على الأمن وحمايتها للمواطنين.

وهنا كانت الإشارة إلى الأوضاع الإنسانية للفلسطينيين مقبولة، ولا بد للحكومة أن تسهم، بمساعدات عربية ودولية، بتحسين الأوضاع المعيشية والقانونية لهؤلاء وعدم التخفي دوما خلف مقولة العودة، فلا يمكن لأجيال فلسطينية أن تعيش في لبنان بأوضاع غير إنسانية.

ولكن ما يتعلق بمزارع شبعا وإعلان لبنانيتها هو موضوع قد يكون له دون شك ذيول وعواقب، فهل هو تكملة طبيعية لرسم العلاقات بين لبنان وسوريا ومطالبة لبنان بالتالي بالسيادة على هذه المزارع كجزء من الأراضي التي سيطرت عليها سوريا بدون وجه حق منذ 1957؟

أم أنه سيكون حجة فقط لاستمرار التأزم على الحدود مع إسرائيل الذي سينعكس دون شك على استقرار البلد؟

نحن نرى في إعلان لبنانية مزارع شبعا شيء طبيعي، لأن ملكية المزارع ولبنانيتها منذ إعلان لبنان الكبير لا يختلف عليها اثنان. وهنا نشكر حزب الله الذي أثار الموضوع، لأنه بذلك أعاد التشديد على حق لبناني كانت سوريا قد اغتصبته منذ 1957 ولم يجرؤ أحد من المسؤولين اللبنانيين على المطالبة به طيلة ما يقارب النصف قرن.

فدقة المرحلة في 1957 بين لبنان وسوريا وما تبعها من ما سمي بثورة 1958، لم تكن لتسمح بإضافة أي تأزم في العلاقات بين لبنان وسوريا، ما جعل لبنان ينسى هذا الموضوع أو يضعه على الرف، ولكن أية حكومة لبنانية لم تدون أو توثق هذا الموضوع، ولم يعترض لبنان بشكل رسمي، لا في جامعة الدول العربية ولا في الأمم المتحدة، عليه، ولم يكن بين لبنان وسوريا أية علاقات ديبلوماسية رسمية لكي يتسلم السفير السوري، مثلا، مذكرة حوله.

من هنا، وعندما سلم الجولان أو احتل في 1967، أي بعد عشر سنوات من ضمها، اعتبرت مزارع شبعا أراض سورية ودخلت ضمن القرار الدولي 242. وبعد أكثر من عشر سنوات من الحروب الكلامية والشعارات الهجومية من قبل كل الجماعات "الوطنجية"، وبعد أن تسلم عرفات منطقة العرقوب الموازية وأعلنها "دار حرب" على إسرائيل، وبالرغم من السجال الكلامي بين اللبنانيين، يومها، على أحقية عرفات في إعلان الحرب من لبنان وتوريطه بما لم تقدر دول عربية أكبر وأقدر منه على النجاح به، لم نسمع يوما بأن أي طرف لبناني أطلق شعار "استعادة أراض لبنانية محتلة".

وبعد خراب البلد وتحويله إلى دويلات، وبعد دخول إسرائيل إلى لبنان في 1978 (أي بعد عشرين سنة على خروج هذه المزارع من السيادة اللبنانية بدون اعتراض رسمي)، صدر قرار دولي حمل الرقم 425 طالب إسرائيل بالخروج من كل الأراضي اللبنانية التي احتلتها يومها، أي في ما أسمته عملية "الليطاني".

وجرى ما جرى طيلة 22 سنة أخرى من الحروب على أرض لبنان تغيرت التحالفات خلالها أكثر من مرة، فتحارب الأصدقاء وتعانق الأعداء، وبالنتيجة فرضت سوريا سيطرتها الكاملة على البلد، وعينت الرؤساء والنواب، ونفت زعماء وسجنت قادة، وعزلت منطقة من لبنان بشعبها وأرضها وجيشها، وشرعت حزب الله مقاومة لبنانية وحيدة.

وفي 1992 جاء مؤتمر مدريد، وقبل العرب كلهم فيه بمبدأ "الأرض مقابل السلام"، وذهبت الوفود تتفاوض، ومنها وفد لبنان. وقال يومها الرئيس بري نفسه، بأن لبنان غير معني بالقرار 242، وليس بينه وبين إسرائيل سوى تطبيقها للقرار الدولي 425 وبعد ثمان سنوات من السيناريوهات والمآسي التي جرها النظام السوري على لبنان بتشريع ما سماه مقاومة تقوم بالحرب بينما يقوم هو بالتفاوض والمساومة، قررت إسرائيل تنفيذ القرار الدولي 425 وانسحبت من كل الأراضي التي احتلتها منذ 1978 والتي كان ينطبق عليها القرار المذكور والذي دأب لبنان على المطالبة به.

واعترفت الأمم المتحدة والدولة اللبنانية بهذا الانسحاب وبما سمي الخط الأزرق.

ولكن النظام السوري الذي أراد الإبقاء على مسمار جحا وعدم ترك لبنان ينعم باستقرار، دفع حزب الله لإثارة موضوع مزارع شبعا.

اليوم ومن خلال هذا الحوار الجاري بين القوى اللبنانية، يجب أن التأكيد حول عدم جواز الاستمرار بتواجد السلاح بأيد خارج أجهزة الدولة المسؤولة، وتعريض الوطن للخطر بدون قرار يتحمل أعباءه من يمثلون الشعب ويقدر هذا الشعب على محاسبتهم. ومن المقبول أن يثبت لبنان حقه في مزارع شبعا، ولكن من الضروري أن نعرف أن استعادة هذه الأراضي اللبنانية تدخل ضمن مبدأ "الأرض مقابل السلم" وليس القرار 425، فإذا كان لبنان يريد أن يدخل في مفاوضات مع إسرائيل من أجل استعادة مزارع شبعا مقابل السلام، فنحن نعتقد أن اللبنانيين بغالبيتهم قد يؤيدون ذلك كما نعتقد أيضا أن بإمكانه التوصل بهذه الطريقة إلى استعادة هذه المزارع بأقل خسائر وبشكل شبه أكيد، وذلك بسبب الدعم الدولي الكبير الذي يواكب عملية استعادته لاستقلاله وسيادته على أراضيه.

ولكن اعتقاد البعض بأن مجرد القول بلبنانية مزارع شبعا في مؤتمر الحوار الوطني هو الحل، فإننا نبشر هؤلاء بأن هذا الحل ليس بأكثر من تطويل للأزمة سيسمح لإسرائيل أن يبقى لها باب لتمرين جنودها على الحرب وسيبقي حزب الله المسلح "بالمقاومة" مشكلة لبنانية داخلية تمنع أي حل جذري لمشاكل التسلح والخروج على القانون والجزر الأمنية والتجاوزات عبر كل الحدود بما فيها المطارات والموانئ.

فهل يريد زعماء لبنان، مهما كان خلافهم ومصالحهم الانتخابية، أن يسمحوا بعرقوب جديد و"عرفات" لبناني هذه المرة؟

أم أنهم سيتحاورون بكل جدية ووضوح وسيضعون الأمور على الطاولة ويكلفون السيد حسن نصرالله نفسه، الذي أظهر عن براعة في التفاوض مع إسرائيل، على رئاسة وفد لبنان للمفاوضة حول السلام مقابل الأرض؟

تورونتو 18 آذار 2006