أي استقلال نعيّد اليوم؟

بقلم/الكولونيل شربل بركات

تأتي ذكرى الاستقلال اليوم وبعد خروج جيش الاحتلال السوري من لبنان لتعطي، ولأول مرة منذ ثلاثين سنة ونيّف، طعما جديدا لهذا اليوم؛ الثاني والعشرين من تشرين الثاني.

فصحيح بأن لبنان قد تمتع بالاستقلال منذ 1943، وصحيح بأن هذا الاستقلال أنجز بدون إراقة دم حتى كان البعض يعيّرنا بأننا قد نلنا استقلالا بدون دم، ما معناه برأي هؤلاء، بأننا لم نستحقه ولم ندفع ثمنه.ولكن هل كان ذاك الاستقلال ناقصا لكي يقال بأنه مجاني؟ أو مبتوراً لكي نعيّر بأننا لم ننتزعه؟ وهل صحيح بأن الاستقلال يجب أن ينتزع انتزاعا ولا يمكن أن يعطى عطاء؟

اليوم وبعد ثلاثين سنة من الاحتلال "الأخوي"، وبعد مئة ألف شهيدٍ ومعاق، ومئات آلاف المشرّدين، والمغيّبين، والمهجرين، والمنفيين قسراً في بلاد العالم الواسعة.بعد عمليات الإذلال والقهر. بعد افتعال الفرقة والبغض بين أبناء البلدة الواحدة، والحي الواحد، والطبقة الواحدة، والطائفة الواحدة.بعد أن حكّموا الشر، وزرعوا الحقد، وطوّروا أساليب الانتقام من كل لبناني حر. عادت الإرادة الواعية، والرؤية الثاقبة، والتعاون المخلص، لينتجوا تنسيقا دوليا، ودعماً طبيعياً من جهة، قابله في الجهة الأخرى، جهل وتعنّت، حقد وتجبّر، توجّوا بتعجرف فارغ وقحة لا تضاهى.وإذا بالجريمة التي طالما ارتكبوها، وكرروها، وأرادوها أمثولة لكل صاحب عنفوان، تزلزل الأرض تحت أقدامهم، ومسيرة الشعب الموحد تسكت أصوات أبواقهم، وتذلهم، وتطردهم، وتؤلّب العالم عليهم، فيخرج لبنان كبيرا بقدر الألم الذي عاناه، متجددا بقدر الشوق إلى الحياة، طموحا بقدر المحبة التي دفعت بنيه دوما للتشبث بأرضه رغم كل المصاعب والمآسي، وعظيماً بقدر تلك الجموع الغفيرة التي زينت ساحاته ورسمت أطر المستقبل فيه. فهل يقدر أحد بعد أن يقول بأننا لم نستحق الاستقلال أو يدّعي أننا لم ندفع ثمنه؟

لبنان اليوم، وبالرغم من كل شيء، هو وطن بكل ما للكلمة من معنى. هو مجتمع يحلم بالخير ويتوق إلى التقدم، هو ِمعلم يتطلع صوبه الكثيرون ليستهدوا الطريق.وبالرغم من أنه لا يزال يعاني بعض التشرذم، إلا أنه قد اجتاز أشواطا ليست بالقليلة، وعواقب ليست بالسهلة، ومطبات رسمت لتوقعه.

لبنان بلد التعدد والانفتاح، بلد الحرية والكرامة، بلد العدالة والحق، سينزع عنه أثواب الشر البالية، أثواب الحقد الأسود، أثواب الرجعية القاتلة، المنكفئة على ذاتها، والتي لا تجدد فيها، والتي لا تعشق إلا الموت.

لبنان الخارج من الحرب القذرة، وأصوات الانفجارات، وغبار المعارك. لبنان القادر على الخلق، المنبعث من رماده، المنطلق إلى آفاق الخير والبركة. هذا اللبنان، يحق له أن يعيّد، ويحق له أن يستقل، ويحق له أن يقود الشرق إلى النور، والغرب إلى القيم الإنسانية المعتّقة في ثنايا أوديته والتلال، حيث صوامع القديسين وخلوات الزاهدين في الدنيا تقترب من الله بدون منة وبدون جحود، وهي تمجّد اسمه وترتفع إليه مع كل فجر، ولا تحفّزه على القتل أو تستقوي به للسيطرة على الآخرين ونفث أحقادها البعيدة عنه كبعد الأرض عن السماء.

لبنان، ولو كان المركز الأول فيه اليوم لا يزينه رجل عنفوان، ولا يزال رئيس مجلسه من بقايا عهد الوصاية، ونصف سياسييه من طينة تعودت التقلّب من أجل المصالح، ولم يخرج أكثرهم بعد من الخوف الذي تحكّم في البلد طيلة ثلاثة عقود. ولكن الأمل الذي يضجّ بالحياة في عروق شبابه، والتاريخ الذي يشهد على عظمة أهله، والطموح الذي يتمثّل بمغتربيه الموزعين في الأرض كلها، وبعض من التعالي على المصالح الخاصة من أجل الوطن واستمراره، وتلك الأجيال الحالمة بالتقدم والرقي، والتي تؤسس لمستقبل زاهر ووطن عامر يقوم على الإنتاج والعمل، على تقديس الحرية والتعاون من أجل حمايتها، وعلى حق الكل بالتساوي في الحقوق والواجبات، لا بد له من أن ينهض منتصرا على ذاته أولا، وعلى الشرور التي زرعت فيه، وعلى الحقد الذي غلّفه، ويعود إلى قيادة السفينة وإنارة الطريق.

لبنان، وبمناسبة استقلاله، يحاول بعض الذين صادروا قرار أهله، وعطّلوا مفاعيل الانفتاح التي تحلى بها، واستزلموا للمحتل، وتحالفوا مع الغريب، وعقدوا المعاهدات السرية الفردية، وتحت عيون أشباه الرؤساء، دون رأي الشركاء في الوطن، وسيطروا على مناطق ومواطنين، ونظّموا أجهزتهم ومخابراتهم وجباياتهم ومقاتليهم وأسلحتهم، وفرضوا على الوطن حربهم وسلمهم بدون أن يكون لأي كان رأي فيما يفعلون، وهم يستغلون خوف الآخرين من الانقسام، ومحاولتهم جمع الصفوف، واعتبارهم جزء من أهل البيت، ليزيدوا تعنتا واستهتارا بأمن الناس ولقمة عيشهم. هؤلاء، يوم لم يستطيعوا القيام بالمظاهرات التي طالب بها أسيادهم في دمشق تحت حجة المازوت لإسقاط الحكومة، ذهبوا في مناسبة العيد ليفسدوا أول احتفال للبنانيين فيه ويجعلوه نقمة عليهم، فإذا بهم يخرجون بضاعتهم التي لا يعرفون غيرها، ويفتحون حرباً في الجنوب بدون مبرر، فتعود أجواء القصف إلى أذهان اللبنانيين، ودخان مفرقعاتهم، وبطولاتهم الفارغة إلا من البيانات المدوية، ليعرف الكل بأن البلاد لا تدار بالصبية أو "القبضايات" (حتى لا نقول "الزعران")،وأن الدول التي تحترم نفسها لا تسعى إلى الحرب دون مبرر، ولا إلى القتال لمجرد النزوة، وأن الذي يدّعي الدفاع عن الناس إنما يقوم بحمايتهم وليس بتهديدهم كلما توقفوا عن تمجيده. ولا نفهم مشكلة اليوم على الحدود إلا من هذا القبيل.وهذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع الكل إلى طلب تسليم سلاح هؤلاء للدولة ومنعهم من فرض حرب على البلد ساعة يشاؤون وعندما يحلوا لهم ذلك.

إن لبنان، وقد شوّه هؤلاء المرتزقة فرحة أهله بالعيد، وذكّروهم بأيام الاحتلال البغيضة، حيث كانت الشعارات تبرر القتل، والكذب يغطي الجرائم، والقومية والعروبة كلمات مبتذلة تستعمل لزيادة القهر والتمادي في الغي، لن يرحم القتلة ولن يسمح إلى ما لا نهاية للغي والشر أن يستمرا، وسوف يقف شعبه وقفة رجل واحد ليردع هؤلاء ويسترجع قراره وحرية الذين من أهله قد صودرت حريتهم، واستغلوا طيلة عقدين من الزمن، وقتل أبناءهم من دون سبب أو مبرر ليتربع الأسياد على حرائر العز والرفاهية وينطقون بالحقد الأعمى الذي لم يثمر منا ولا أمطر سلوى إنما وبالا ومزيدا من الدماء والدموع.

في مناسبة الاستقلال هذه نرى لبنان الآتي وقد تخلّص من الشرور والأشرار، وتجمّع على الخير والعمل، وتنّور بقيم الأديان التي تزيّن أرضه وتطبع بنيه، وهي إنما تدعوا كلها للمحبة والتعاون، ينهض قويا متعافياً يوزّع معرفة وجمالاً على الشرق كله المتعطش للخير والمنتظر رحمة من عند الله، لا مصائب ومآسي، وهو سوف يمد الغرب ببعض من قيمه واتزانه وينيره بشيء من الزهد والتقشف، ليكون لعالم اليوم وسيطا يقرّب ولا يلغي، ويساند دون أن يفرض، ويتعاون مع الكل من أجل خير الكل.

فليكن هذا العيد دعوة لنا على الصبر أمام الصعاب والتشبث بالحق والعمل على الارتقاء لنكون القدوة. وليكن الاستقلال حافزا لنا على حماية الوطن من المغامرين والمتشددين، من العابثين والمستهترين.

ولنكن كلنا للوطن.

كندا- تورونتو في 22/11/2005