"الورقة" التي حرمت ليزا من الصوص

بقلم الكولونيل/شربل بركات

 

تزوجت كارلا من شاب لبناني يقيم في استراليا سنة 1998 وعاد العريس إلى البلد الذي يقيم فيه وأرسل الأوراق المطلوبة إلى زوجته لتتميم المعاملات والسفر إلى استراليا. وبما أنه من سكان المنطقة الحدودية في جنوب لبنان كان من الطبيعي أن يرسل الطلب إلى السفارة الأسترالية في تل أفيف، فأبناء المنطقة الحدودية لا يستطيعون الذهاب إلى الشام لملاحقة طلباتهم. وهكذا عندما انتهت المعاملات ونالت كارلا الفيزا كان عليها السفر من مطار تل أفيف.

 

صيف 2002 حاولت كارلا العودة إلى لبنان عن طريق مطار بيروت الدولي لرؤية والديها وقضاء شهر الصيف في ربوع لبنان وفوجئت بتوقيفها في المطار لأنها من أبناء المنطقة الحدودية. وبعد التحقيقات والذل الذي تعرضت له تم إطلاق سبيلها بعد أن "جرمت" بالسفر من أرض "العدو" في الوقت الذي كان يستقبل فيه النائب الإسرائيلي عزمي بشارة بكل حفاوة في لبنان وبعض الدول العربية الأخرى بدون عقد.

 

جريمة كارلا كبيرة لأنها اضطرت إلى السفر من مطار "العدو" يوم كانت دولة لبنان غير قادرة على بسط سلطتها على كامل أراضيها ولا هي كانت قادرة على حماية السفارات الموجودة في لبنان ليضطر المواطن إلى الذهاب إلى دول الجوار لتأمين تأشيرة السفر. ولكن جريمتها الكبرى أنها عادت بعد أربع سنوات عبر مطار بيروت ولذا فهي يجب أن تهان وتذل وتتبع "القنوات" الخاصة بأبناء المنطقة الحدودية فهولاء لم "يتمتعوا" بالذل قبلا ويجب أن يعرفوا معانيه.

 

كان على كارلا أن تذهب إلى صيدا بعد إطلاق سراحها بكفالة وإنهاء التحقيق ثم الذهاب إلى قيادة الجيش أيضا لتكملة جزء آخر من التحقيق وفي النهاية المثول أمام المحكمة العسكرية للحكم وقد قامت بكل هذه "العمليات" بصدر رحب معتقدة بأنها تتبع القانون، وعندما تجتاز هذه العواقب يعود لها حقها الطبيعي وينتهي فصل "التمييز العنصري" لأبناء المنطقة الحدودية الذين كان جرمهم أن جذورهم كانت أعمق من الأحداث فلم يرحلوا يوم رحلت الدولة عن أرض الجنوب وتعايشوا مع الواقع وتحملوا كل الصعوبات منتظرين بفارغ الصبر أن تعود إليهم دولتهم التي، يوم اعتقدوا بأنها عادت وهللوا لعودتها، اعتبرتهم خوارج وقامت بمعاقبتهم.

 

بعد أن انتهى فصل التحقيقات والمحكمة العسكرية أمضت كارلا بعض الوقت بين الأهل ما كاد أن ينسيها العذاب والذل وعندما توجهت إلى المطار للسفر فوجئت بتوقيفها مجددا ومنعها من السفر بحجة أنها لم تنه كافة الأوراق. وبعد ثلاثة أيام تمكنت أخيرا من السفر وكادت أن تلعن الساعة التي فكرت فيها بالذهاب إلى هذا البلد.

 

كان يرافق كارلا في هذه الرحلة ابنتها ليزا التي لم تكمل السنتين ولكن ليزا لم تعرف ما يدور حولها في هذه المرة سوى أن والدتها كانت تتركها أحيانا عند جدتها وتذهب مع جدها إلى بيروت.

 

قررت كارلا أنها لن تعود إلى لبنان، وفي صيف 2004 دعت والديها إلى الذهاب إلى استراليا لتمضية بعض الوقت معهم وتهنئتها بالمولود الجديد. ثم تغيرت الأمور بعض الشيء وقيل بأن السوريين خرجوا وأن البلاد أصبحت مستقرة أكثر وعاد بعض الزعماء من المنفى، حيث كان زوجها معجبا بالمواقف الوطنية للعماد عون. كل ذلك، إضافة إلى لجاجة الأهل الذين لم يريدوا تحمل صعوبات السفر للذهاب إلى أستراليا، جعل كارلا تقبل أن تسافر مجددا إلى لبنان في صيف 2009 وقد كان الاستقبال حافلا ولم يتعرض لها أحد في المطار ما جعلها تعتقد بأن لبنان بالفعل أصبح دولة راقية. وأمضت كارلا وابنتيها شهرا جميلا في ربوع البلد حيث تعرفت ابنتها الكبرى على بعض الرفاق وتعلمت الصغرى العربية وأمضى الجميع أحلى الأوقات بين الأهل والأصدقاء ولكن يوم السفر وعند الوصول إلى الأمن العام في المطار فوجئت كارلا بعدم السماح لها بالسفر ثم أعيد الأولاد إلى الأهل وتم توقيفها هذه المرة بشكل أكثر إذلالا فهي اقتيدت مكبلة في سيارة السجناء وأمضت ليلة في السجن ثم اضطرت إلى البقاء شهرا كاملا لإنهاء المعاملات الجديدة والحصول على "الورقة" التي ستخولها السفر.

 

اتصلت كارلا بالمدرسة في استراليا للحصول على مواد لتعليم ابنتها الكبرى كي لا تضيع سنتها وقامت الجدة بشراء صيصان صغيرة ليلعب معهم الأولاد كي لا يضجروا من الانتظار وبعد مضي شهر كامل حصلت السيدة كارلا على "الورقة" وقررت العودة إلى بلدها "الحبيب أستراليا" وعندما سألت الجدة الطفلة ليزا عن رغبتها بأخذ الصيصان معها إلى أستراليا أجابت الطفلة:

 

- لا يا تيتا بصير بدنا نتأخر تننتظر "الورقة" لأن الصيصان ما معن "ورقة"

هذه هي قصتنا مع هذه الدولة التي وعد رئيسها بأن يعيد حق اللبنانيين بالكرامة فإذا بحكومتها توعدهم بالذل وما يسمى بأجهزة الأمن، وهي التي لا تعرف من الأمن سوى ملاحقة اللبنانيين الشرفاء، تزيدهم إهانة يوما بعد يوم فهل يمكن أن يفهم أحد ليزا بأن الصوص يحق له بالخروج من لبنان بدون "ورقة"؟

 

كل عام وأنتم بخير...  

26/12؟09