غزة الحزينة وثقافة الجيف

الكولونيل شربل بركات

فليسقط النظام...

فليمت الأعداء...

فليعدم الخونة...

وليقتل المتآمرون على الأمة...

وليحيا الشهداء... ومجتمع المقاومة... والنصر لنا...

 

هذه هي اسطوانة الحقد التي تتردد أصداءها بعد كل مشهد من مسرحية القتل التي تطال فيما تطال أرزاق وأعناق الناس المفترض أن يعيشوا آمنين في بيوتهم لأنهم يدفعون من عرق الجبين لمن يدير شؤونهم ويسهر، من حيث المبدأ، على راحتهم ومستقبل أبنائهم...

 

ولكن شتان بين من يحمي ومن يقتل...

 

بين من لا يعرف إلا العيش على مآسي الناس ومن يحاول ضبط النفس مرات ومرات قبل أن ينفجر دمارا وخرابا...

 

يقولون أن إسرائيل مجرمة ويقولون بأنها وحش كاسر يعيش على الدم، هذا ما يروج له كل كاتب بلغة الضاد وكل أديب وكل خطيب، وهو ما يدّعيه كل زعيم أو مسؤول، وكأن الناس لا ترى ولا تسمع وإن رأت فهي بالتأكيد لا تعرف "مصلحة الأمة"، وإن سمعت فهي لا تدرك معاني "النضال"...

 

مسكين شعب غزة التي أوهم أبناؤها بأنهم أبطال العرب ورافعو رأسهم وبأنهم سيعيدون حقوق "الوطن السليب" بدمائهم وبالألعاب التي يزعجون بها مجتمع منظم لا يتحمل كثيرا هذا الإزعاج خاصة عندما يتعلق ذلك بحياة بنيه وأمنهم واستقرارهم.

 

في غزة كما في كثير من دول العرب شعوب بدون عمل وإن عمل البعض فإن هناك من لا يعجبه ذلك ويفضل منعه عن العمل بافتعال "أعمال أعظم"، أعمال تبررها الفتاوى وتثيرها الغرائز...

 

مساكين أطفال غزة وقبلهم أطفال لبنان وأطفال العراق والصومال وكل أمة القهر التي اختارها الله لتصلح الناس فتقتل في سبيل هذه المهمة بيد زعمائها وقراراتهم الهمجية والغير منطقية...

 

يمكننا أن نفهم أن تثير إسرائيل وعملاء إسرائيل (مثلا) من يدمّر مستقبل الفلسطينيين في غزة ومن بعدها الضفة، ولكن أن يتبجح هؤلاء ويدّعون أنهم إنما يدافعون عن أبناء غزة وتقوم قيامة الأمة من المحيط إلى الخليج لتثأر لدماء الشهداء، فتلك هي المصيبة.

 

سوف تقوم المظاهرات طبعا في الضاحية الجنوبية من بيروت وسيلحقها مظاهرات في كل العواصم، كيف لا وإلا فلن نكون عربا أقحاح، فالعربي القح هو من يثور في ردة فعل لما يجري بدون تفكير وهو من يتهيّج في مظاهرات تخرّب مظاهر الحضارة التي هي العدو الحقيقي للعرب والمسلمين، وإلا فكيف عادت طالبان بأفغانستان مئتي سنة إلى الوراء، وعادت القاعدة بالعراق إلى عصور ما قبل الحجاج بن يوسف، وعادت الجماعات الإسلامية بالجزائر إلى عهد السواطير، والصومال إلى عهد قراصنة البحر، والحبل على الجرار...

 

غزة الجريحة اليوم هي بكل أسف نتاج حضارة الحقد التي لا تعرف أن تخاطب الناس ولا تعرف أقل مصالحهم وهي تتصرف مع شعبها بوسيلة الإرهاب وتتصرف بمثلها مع الآخرين معتقدة بأن ضبط النفس جبن وأن الامتناع عن القتل ضعف وأن إثارة المارد النائم هي المراجل بعينها. فمتى يتعب القتلة من التسبب بقتل أبناء شعبهم؟ ومتى يتحرك العالم لمنع الفوضى القاتلة؟ وهل سيصمد أبو مازن في وجه موجة الانتحار فبنقذ ما تبقى من الفلسطينيين أم أنه سيلحق بالمنتحرين وينهي الحلم بدولة فلسطين؟

 

يبقى أن ثقافة الجيف ومناظر الدماء تغلب على كل مظاهر الحضارة العربية التي تحاول اللحاق بالركب العالمي وتثير غرائز الانتقام والتدمير الذاتي لتصبح محطة الجزيرة والأفلام المحضرة مسبقا من قبل التلفزيون الإيراني هي الأساس وهي صورة العرب ومسارهم بدل عمران دبي ومؤتمرات الحوار السعودية ومنطق التعقل الذي تحاول مصر أن تتبناه في معالجة ظاهرة التخريب التي تسيطر على الشارع في أماكن كثيرة.

 

فهل ستصمد غزة الجريحة بعزتها فتنزع عنها سلطة القتلة وتلحق بركب فلسطين أم أن العكس هو الصحيح وسوف نرى الشارع الهائج يدفع بمنطق خذ وطالب إلى الهاوية ويأخذ معه أحلام الأجيال التي بدأت تستطعم الاستقرار وتسوق في طريقها استقرار لبنان الهش؟

 

الكولونيل شربل بركات

 

تورونتو -  كندا

27 – كانون الأول -  2008