الشرق الأوسط وتقاسم الثروة

بقلم/الكولونيل شربل بركات

 

من ينظر إلى الوضع في الشرق الأوسط اليوم يرى بأن حالا من الغليان تسود مجتمعاته وتهدد دوله التي كانت نشأت مع انتهاء الحرب العالمية الأولى. من نتائج هذه الحرب كان تقسيم تركة الامبراطورية العثمانية باعادة حق تقرير المصير لشعوبها وقيام مجموعة من الدول الناطقة بالعربية. هذه الدول حاولت فيما بعد، وفور انتهاء الحرب العالمية الثانية، تشكيل مجموعة اقليمية تحت اسم جامعة الدول العربية لتنظيم التعاون فيما بينها والاعتراف بحق كل منها بالاستقلال.

 

كانت الحرب العالمية الأولى قمة التمدد لدول أوروبا باتجاه الشرق الأوسط بعد حركات الاستعمار في كل من أفريقيا وشرق آسيا. والاستعمار نشاط قديم بقدم الحضارة ذاتها كان بدأ مع الفنيقيين الذين انتشروا بواسطة سفنهم في أرجاء المتوسط حيث أسسوا المستعمرات؛ ومن أهمها طيبة في اليونان وقرطاجة في تونس اليوم وترشيش في اسبانيا. وهم خرجوا من هذه المستعمرات إلى جزيرة النحاس (بريطانيا) ودخلوا بحر البلطيق وداروا حول أفريقيا وساهموا بنقل شعوب من بلاد المشرق لتسكن هذه المستعمرات الجديدة وتتعلم فنون التجارة. وقد تبعهم اليونانيون فأسسوا مستعمرات في أرجاء المتوسط.

 

هناك وجهان للاستعمار: الأول تجاري ويعني اقامة مراكز حضارية في بلاد متخلفة نسبيا تسهم في نشر الحضارة وتطوير هذه البلاد مقابل تقاسم ثرواتها مع المحليين الذين لا يعرفون القيمة الحقيقية لهذه الثروات أو كيفية الاستفادة منها. والمعنى الثاني عسكري يتم معه بناء مراكز لاقامة مجموعات جديدة من السكان الموالين للقوة المستعمرة وذلك لمنع السكان المحليين من السيطرة على القرار في بلادهم، وهذا ما يقوم به عادة من يرغب بالاحتلال. ولكن الأطماع جعلت المستعمرين الجدد حتى في الوجه الأول يلجؤون إلى القوة لحماية تفردهم بالتحكم بالثروات. وصارت القوة البحرية لدولة ما تعطيها القدرة على التوسع الاستعماري وبالعكس، فعدد المستعمرات وغناها كانت تمد هذه الدول بالقدرة على البقاء وزيادة التوسع. وقد كانت شجاعة المغامرين البرتغاليين في الابحار، وهم داروا حول رأس الرجاء الصالح وعبروا إلى بحر العرب ومنه إلى الهند، ومن ثم الاسبان الذين وصلوا إلى أميركا، مصدر قوة وثروة لهذين البلدين خاصة بعد سيطرتهما على أميركا الجنوبية، بينما توسعت فرنسا فيما بعد في أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا). ولكن تفوق الانكليز على الاسطول الاسباني ومن بعده على الفرنسيين أعطاهم اليد الطولى في أميركا الشمالية وحصر بهم تقريبا طريق الهند.

 

كان "العالم الجديد" مصدر رزق لبلدان أوروبا فقد وصلت منه أنواع من النباتات والمنتجات لم يعرفها العالم القديم كالذرة الصفراء والبطاطا والبندورة وغيرها وقد ساهمت هذه بوقف المجاعات التي كانت تضرب أوروبا مرات كثيرة.

 

بعد الثورة الفرنسية وانتشار مبادئها في الأخوة والحرية والمساواة تطورت العلاقات بين شعوب أوروبا وحكامها وانتقلت العدوى إلى المستعمرات فتحررت الولايات المتحدة ونشأت فيها دولة كبرى ما لبثت أن أخذت دورها في مجالات التقدم والحضارة.

 

في القرن التاسع عشر ومع الثورة الصناعية الكبرى زادت الثروات ومعها الطلب على المنتجات والمواد الأولية فكانت المستعمرات مجالات مهمة لتلبية حاجات الدول الصناعية. وبينما كانت المنافسة بين الدول الأوروبية تؤدي إلى المزيد من التطور كانت الأمبراطورية العثمانية تنام على حرير الاستبداد والتخلف، ولذا فهي سقطت بدون قتال وعند أول مواجهة، بسبب هذا التخلف وعدم اللحاق بالركب الحضاري من نواحي الانتاج والتطوير. ولكن فئة من المتنورين الأتراك الذين كانت تحركهم دوافع وطنية لتطوير الدولة ومنهم أتاتورك (الذي يعتبر أب تركيا الحديثة) ساهموا في الحفاظ على تركيا كبلد مستقل وقابل للتطور والتقدم بعد سقوط الأمبراطورية في الحرب العالمية الأولى فبنوا دولة علمانية على غرار الدول الأوروبية ونظموا البلاد سعيا وراء التقدم.

 

بعد الحرب العالمية الأولى بدأت أهمية النفط تظهر جلية كمادة أولية مهمة وبدأت صناعة السيارات تنتشر خاصة في الولايات المتحدة، وبزيادة الحاجة إلى النفط زادت أهميته وأهمية البلدان التي تمتلكه. في نفس الوقت كانت حركات التحرر التي قادتها مفاهيم أوروبا وصانتها شرعة حقوق الانسان ومنظمة الأمم المتحدة تسهم في استقلال الدول النفطية وسعيها إلى التقدم والتطور، فإذا بها تصبح مجالات مهمة للاستثمار وأسواق أساسية للتجارة العالمية.

 

ويشاء القدر أن تكون منطقة الشرق الأوسط مصدرا مهما للطاقة النفطية فتكثر فيها مجالات العمل والثروات وفي نفس الوقت تتجمع حولها المصالح فتصبح نقطة أساسية في استراتيجيات الدول الكبرى. من هنا تبدأ الأطماع الاقليمية والدولية بالتركيز عليها.

 

ولما كانت الدول الغربية هي التي أطلقت شعارات الأخوة والحرية والمساواة وضمنتها في قيمها ودساتيرها وهي التي أسست المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) التي استندت شرعة حقوق الانسان فيها لهذه القيم، لا يسعها أن تناقض هذه المبادئ ولا أن تتنكر لها، فقد تركت الحرية للشعوب باختيار مصادر القيم التي ترتكز عليها وبالتالي كيفية التعاطي مع الآخرين. من هنا نرى الاختلاف بالنظرة إلى الأحداث في عالم اليوم، ومن هنا الخوف على مستقبل هذه المنطقة في ظل عودة قوى إقليمية إلى الظهور على الساحة حيث بدأت بالتدخل في شؤون الدول النفطية ترهيبا وترغيبا خاصة في ظل تفتت المجموعة العربية التي كانت تشكل الضمان الأفضل لحماية هذه الثروات من ضمن مصالحها المشتركة.

 

يبرز اليوم التهديد الإيراني جليا على دول الخليج بغياب مصر القوية وبتحالف النظام في سوريا مع الإيرانيين الذين بدأوا بالتدخل في الشؤون الداخلية لبعض هذه الدول كما جرى في الكويت مثلا (شبكات التجسس) واحتلال أجزاء من الامارات (الجزر الثلاث) ودعم القلاقل في البحرين وعلى الحدود السعودية من اليمن في الجنوب (الحوثيين)  ومحاولة تعبئة بعض المجموعات الشيعية في الشرق. في نفس الوقت بدأ التودد التركي في ظل غياب المواقف الغربية الصلبة لتشكل هذه الدولة المسلمة والعضو في حلف شمال الأطلسي العون المحتمل في ظل أي تغيير في خارطة المنطقة.

 

الأتراك اليوم وفي ظل حكم أردوغان وحزبه الاسلامي يتقربون أكثر فأكثر من الدول ذات الأغلبية السنية ويقدمون أنفسهم كحامي لحقوق هذه الدول في حال تعرضها لأي نوع من المشاكل فهم بدأوا بالدخول إلى المنطقة كما فعل الإيرانيون قبلهم بالاهتمام بالقضية الفلسطينية ولكن من باب غزة وأسطول المساعدات الانسانية، وهم يحاولون اليوم لعب دور الوسيط بين النظام والمعارضة في سوريا، وقد شاركوا في قوات اليونيفيل في لبنان لتنفيذ القرار الدولي 1701، فيما يلعبون دورا مهما في الموضوع الليبي بصفتهم جزء من حلف شمال الأطلسي. وبينما ساهموا في السابق بتخفيف الضغط على أيران في موضوع برنامجها النووي، يحاولون اليوم، بعد توتر الأجواء في الخليج بسبب قضية البحرين، الابتعاد عنها بالاعلان عن عدم رغبتهم السماح بتزويد حزب الله بالأسلحة عبر أراضيهم.

 

اليوم وفي غياب اي دور لبلد عربي بسبب الأزمات الداخلية التي تعيشها أغلب هذه البلدان وفي تغييب الغرب "الاستعماري"عن اتخاذ أي دور فعال بسبب الهجمة التي تخترعها التنظيمات الاسلامية في المنطقة، فإن البلدان العربية الغنية في الخليج ستجد نفسها مرغمة على الاختيار بين إيران وتركيا وهي بالطبع ستدفع الجزية لكليهما إذا ما رغبت بالاستقرار. فهل إن تركيا التي خرجت من البلاد العربية في بداية القرن العشرين تحت ضغط جيوش دول الاستعمار ستعود بثياب السلاجقة؟ وهل تكون عودتها مشروطة ببقاء الدولة الفارسية التي كانت انتهت مع الفتح الاسلامي أو تلك الهيمنة التي لم تدم طويلا في عهد العباسيين؟     

 

الكولونيل شربل بركات

تورونتو - كندا     

03 حزيران/11