هل يقف لبنان على عتبة حرب جديدة؟

بقلم/الكولونيل شربل بركات

 

كنا نبهنا في مقال سابق إلى خطورة أن يكون حزب الله يسعى في محاولاته للضغط على الحكومة إلى المقايضة بين ساحة رياض الصلح وساحة الجنوب، وهو في تصعيده إنما يحاول أن يحشر الحكم بين موقفين: الأول الاستمرار بالضغط ومنع أي  حل من رؤية النور، والثاني إطلاق يده مجددا في الجنوب ليعود شيئا فشيئا ساحة صراع مع إسرائيل. وكانت الإشارة تلك تستند، ليس إلى وقائع ميدانية واضحة، بل إلى تحليل لمعطيات الوضع ودراسة لما عُرض على حزب الله من أبواب للحلول ومجالات للمناورة رفضها الواحدة تلو الأخرى، وبنفس الوقت معرفتنا لأهمية دوره في الصراع المرتقب بين المحور الإيراني السوري والعالم الحر، مجتمعا هذه المرة.

 

كان حزب الله في الصيف الماضي، وبعد أن أمن غطاء محليا من غير حلفاء سوريا التقليديين، وخاصة من العماد عون، الذي كان شكل خلال 15 سنة من المنفى رمزا للبنان السيد المستقل الذي لا يرضى بديلا عن الحرية ولا يقبل بالدولة المزرعة أو الدويلات التي تعيش ضمن الدولة وتفرض نفسها عليها، كان نفذ قرار أسياده بشن حرب على إسرائيل عرفوا مسبقا بأنها خاسرة، ولكنهم أرادوها لبلبلة الوضع الداخلي ولحسم مواضيع عدة؛ أهمها حرية التحرك واستغلال السلاح والشعارات التي أبقت لبنان طيلة 30 سنة رهينة لها وساحة صراع لتغطية أي عجز للحزب الحاكم في "بلاد الشام"، أكان ذلك على الصعيد الداخلي أم الخارجي.

 

وكانت الضربة التي تلقتها سوريا وحلفاؤها بعد صدور القرار 1559 وما تلاه من عمليات قمع واغتيال سرعت خروجها، قد دفعت قيادتها للعودة إلى الملفات القديمة، فصممت على خلق أجواء من البلبلة وعدم الاستقرار لتعرض نفسها، كما في كل مرة، كمنقذ وحيد. ومن هنا كان على حزب الله حليفها أن يحضر لقلب الوضع ودب الفوضى بأي ثمن. ولكنه كان يخشى من أن يكون هناك غطاء دوليا وعربيا كافيا لدعم الحكم، وبالتالي الانتهاء من وضعه الشاذ، بدل أن يكون هو من ينهي الحكم الديمقراطي الذي يبعث أملا بين شعوب الشرق الأوسط، ويعطيها حافذا للنهوض من كبوتها والسيطرة على تيارات الإرهاب والرجعية التي تسير بها نحو التخلف والتقهقر وتترك مجالات المناورة لأسياده في دمشق وطهران. ومن هنا كانت لعبته لكسب الوقت في ما أسماه يومها بطاولة الحوار، وإجماع اللبنانيين على المبادئ، والاستراتيجية الدفاعية... وما إلى هنالك.

 

صحيح أن كل عاقل عرف أن حرب حزب الله مع إسرائيل كانت حربا خاسرة للبنان وأهله، وقد اعتقد البعض بأن عبقرية السيد حسن حولت الهزيمة إلى انتصار (وأي انتصار؟). ولكن من يعرف أهداف حزب الله الحقيقية، يعرف بأنه بالفعل قد انتصر، ليس في مواجهة إسرائيل، كما يحاول الظهور، ولكن بوضع لبنان مجددا داخل حلقة العنف، وداخل مسلسل الصراع الذي لا ينتهي، وهي الأجواء الملائمة لمثل هذه الطفيليات لتنمو وتعمل. وبالفعل، وبمجرد أنه تمكن من وقف الحرب بدون قرار الانتهاء من سلاحه وحله حتى كحزب سياسي، لأنه ليس حزبا لبنانيا بشيء، يعتبر حزب الله بأنه انتصر.

 

فهو انتصر على مبدأ وحدة السلطة واستفرادها بالقرارات الوطنية المصيرية من مثل إعلان الحرب، وهو انتصر بمنع الحكم من وضع الجنوب تحت الحماية الدولية الفعالة، أي أن تعمل القوات الدولية تحت البند السابع من القانون الدولي، الذي كان سيسمح بإنهاء دوره ودور غيره من المصطادين بالماء العكر والمتاجرين بقصة السلاح ومحاربة إسرائيل. وهي شعارات تخفي تحتها كل الشرور التي تخرب البلاد وتذل العباد وتوقف حركة التطور والتقدم وتفرض أجواء الاستبداد والظلم والقهر والإرهاب الذي يمارس على الأهل تحت شعار محاربة العدو.

 

أوهم حزب الله الحكم في لبنان أن موضوع الخلاف الأساسي هو المحكمة الدولية وأنه سيساوم عليها، ثم بدأ بالمرحلة الثانية من هجومه؛ وهي تعطيل السلطة ووقف الإنتاج، وهذه أخطر ما يمكن أن يهدد المجتمعات الحرة.

 

هدف حزب الله يقوم على شل الحركة وحشر الحكم بالضغط عليه وتهديده بالسقوط، ولكن دون إسقاطه لأنه يريد غطاء لمشروعه ولا يريد مواجهة شاملة تضعه في المسؤولية المباشرة حيث يفشل في إدارة البلاد، وهذا ما رأيناه في كل حقيبة وزارية تسلمها وظهرت فيها واضحة طريقته الفاشلة في إدارة الشأن العام. ولكن ماذا يريد إذا حزب الله من كل هذه الضغوط؟

 

التطور الجديد والذي أوضح بالفعل أهداف حزب الله كان في التعرض للقوات الدولية، وقد بدأ هذا التعرض بإطلاق شعارات مثل وجود مستشارين من جيش لبنان الجنوبي مع قوات الأمم المتحدة، ثم اتهام القوات الاسبانية بتصوير المستحمين في نهر الليطاني ومنعهم من التقاط الصور التي تثبت ما يقوم به جماعة حزب الله من تحصينات جديدة ومد شبكات اتصال سلكية وإعادة تأهيل البنية التحتية التي كانت دمرت الصيف الماضي.

 

المشكل هو أنه لا قرار من الحكومة اللبنانية بمنع جماعة حزب الله من القيام بهكذا أعمال، وتقع القوات الدولية بين نار حزب الله وأعوانه من المسؤولين الأمنيين في الجيش الذين لم يتبدلوا بعد حرب الصيف، وبين الحكم الذي لم يحزم أمره بعد في هذا الموضوع كونه واقعا تحت ضغط الشارع الذي يحركه حزب الله وأعوانه، والتهديدات التي يتلقاها كل يوم، وقد اضطر لسحب نصف عديد الجيش الذي كان يتمركز في الجنوب لمنع حزب الله من العودة إليه.

 

الجنوبيون اليوم وحدهم يشعرون بما يحصل، وهم يعرفون أن الأمور تسير بالطريق الخاطئ ولا بد من مواجهة مقبلة تتصعد بعدها المجابهات مع القوات الدولية، فإما أن ترضى هذه بالأمر الواقع وتصبح مجددا شاهد زور، كما جرى مع الفلسطينيين سابقا حتى تستدعي تدخلا إسرائيليا جديدا، وإما أن يتحول مجهود حزب الله نحو محاربة هذه القوات بطريقته المعهودة من التفجيرات الانتحارية ليدفعها إلى الرحيل ويعود وحده إلى الساحة متسلحا بانتصاراته على دول الغرب. ومن هنا فقد بدأ هؤلاء يخشون من المستقبل ويحسبون له الحسابات. وفي قرى حدودية كان تأمل أهلها بمرحلة من السلم والاستقرار بعد عودة الجيش وقدوم القوات الدولية، بدأ من جديد نوع من الهجرة نحو الساحل قد يزداد مع الأيام.

 

الإسرائيليون هم أيضا يعرفون ما يدور على الأرض، وهم بدأوا يتحضرون على ما يبدو للمرحلة المقبلة، وما اختيارهم للجنرال أشكينازي لرئاسة الأركان إلا من هذا القبيل، كونه أكثر من يعرف المنطقة، فقد سبق أن تسلم قيادة وحدة الارتباط في جنوب لبنان منتصف التسعينات، وقيادة المنطقة الشمالية بعدها. وبدأت الأخبار ترد عن اكتشاف أجهزة ومتفجرات قرب الحدود مع لبنان، لتعود أجواء التصعيد شيئا فشيئا. فهل نحن على عتبة حرب قادمة؟ أم أن الرئيس السنيورة الذي عرف خطورة حزب الله سوف يقدم على الطلب من الأمم المتحدة، وقبل فوات الأوان، أن تضع الجنوب والحدود السورية اللبنانية تحت الحماية الدولية وتطبق أحكام الفصل السابع من القانون الدولي الذي يطلق لها حرية التصرف، فتقوم بواجبها كما يجب، وتمنع عن لبنان كأسا مرة أخرى، وهو بذلك يكون قد حرر الحكم من مسؤولية الصراع مع جيرانه، وأمّن شر الشقيقة الكبرى بأن وضع بينه وبينهم حكما هو مجلس الأمن الدولي؟...

 

الأيام القادمة سوف تكشف أكثر فأكثر ما يخبئه الإيرانيون والسوريون للبنان والردود من قبل الأطراف اللاعبة كافة، وجل ما نتمناه ألا يحجب معسكر ساحة رياض الصلح، بكل مظاهره العسكرية والفلكلورية، ودخان الإطارات المشتعلة في شوارع بيروت، رؤية الخطر الفعلي على مصير لبنان، وأن يدرك من يجلس في السراي الكبير أن القرارات المصيرية هي التي تدخل التاريخ، وتحمي المستقبل، وتنقذ البلاد...

 

كندا/تورونتو

 

في 6 شباط 2007