السيادة.. جدلية الدولة والعولمة مفهوم يتعرض للتغيير والتطوير منذ نشوء مفهوم الدولة حتى عصر العولمة

السيادة الوطنية .. سلاح ذو حدين استخدم لحماية الاستقلال وتكريس الديكتاتوريات

المواجهة بين الكنيسة الكاثوليكية  وحكام أوروبا أدت إلى فصل السلطات

اعداد- ليلى حلاوة  - السياسة 19/5/2005

 على الرغم من تعدد التعريفات التي يوردها الباحثون لمفهوم السيادة الوطنية, فإن بينها جميعا قاسما مشتركا يتمثل في النظر إلى السيادة باعتبارها السلطة العليا للدولة في إدارة شؤونها, سواء كان ذلك داخل إقليمها أو في إطار علاقاتها الدولية, وبالتالي فإن السيادة تشير إلى معنيين أحدهما إيجابي ويشير إلى قدرة الدولة -كوحدة سياسية مستقلة- على التصرف بحرية كاملة ودون أي قيود تفرض عليها, فضلا عن تلك القيود التي ترتضيها هذه الدولة بالتقدير المنفرد أو بالاتفاق الدولي, والآخر سلبي يقوم على عدم إمكانية خضوع الدولة لأي سلطة غير سلطتها. وبذلك يكون لمبدأ السيادة وجه داخلي ينصرف إلى علاقة الدولة بمواطنيها داخل إقليمها بحدوده السياسية المعلومة, ووجه خارجي ينصرف نطاق تطبيقه على علاقة الدولة بغيرها من الدول والتي تقوم على وجوب احترام الاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية لكل دولة وعدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية.

وقد اكتسبت فكرة السيادة منذ نموها ثم صعودها في ظل نموذج الدولة القومية مكانة مركزية في السياسة الحديثة -فكرا وممارسة- بما جعلها تصبح شعارا للكرامة الوطنية باعتبارها أفضل تجسيد لمعاني الحرية والاستقلال والسلطة العليا على الإقليم وسكانه.. فبينما كان الملوك في أوروبا يرددون "الدولة هي أنا", ويرون أن حق إصدار القوانين التي يخضع لها رعاياهم هو حق منفرد من دون قيد أو شريك, كانت موجة من الأفكار الثورية تغزو أوروبا وتحاول أن تقتلع هذا المفهوم من أساسه.

\ وفي عام 1690 نشر جون لوك في انكلترا كتابه »رسالتان في الحكم« ليؤكد فيه أن حرية الإنسان الطبيعية هي ألا يكون خاضعا لأي قوة عليا على الأرض, وألا يقع تحت إرادته أي إنسان أو سلطة تشريعية, وألا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها, وأن المجتمع السياسي لا يمكن أن يقوم ويستمر إلا إذا كان لديه في ذاته سلطة المحافظة على الملكية, ولهذا الغرض تكون لديه سلطة عقاب على الجرائم التي يرتكبها أي فرد في المجتمع, فهنا وهنا فقط يوجد المجتمع السياسي حيث تنازل كل فرد فيه عن سلطته الطبيعية وسلمها للمجتمع (وليس لنظام الحكم كما ذهب هوبز).

دور الثورة الفرنسية

 وفي فرنسا انطلقت أفكار جان جاك روسو في كتابه الأكثر شهرة »العقد الاجتماعي« (نشر عام 1762م) ثم جاءت الثورة الفرنسية فسعت لإنشاء تلك الدولة التي كانت تحلم بها أوروبا.

ونعرف من التاريخ أن مبادئ الثورة الفرنسية قد حكمت حياة أوروبا والغرب وشعوبا كثيرة في العالم رغم أزمات تلك الثورة وتعثرها, ورغم تغير الدساتير ونظم الحكم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فإن مفهوم الدولة في العالم توحد على ضرورة أن تتوافر لها وفيها العناصر الأساسية التي أكدتها تلك الثورة وكرست بها بزوغ الدولة القومية مع صلح »وستفاليا«. وتشمل هذه العناصر التي اتفق عليها فقهاء القانون وعلماء النظم السياسية »الشعب« و»الأرض« و"سلطة شاملة للشعب والأرض" أي الكيان المعنوي للدولة, ثم يضاف لذلك فكرة نظام الدولة أو العقد الاجتماعي الذي يقوم على الحرية والإخاء والمساواة والحكم الديمقراطي.

ولم يعد هذا المفهوم للسيادة الذي حققته الثورة الفرنسية والذي ركز على أن تكون السيادة فيها للشعب في مجموعه وأن تتولى الممارسة الفعلية لتلك السيادة حكومة ملتزمة بحدود ترسمها قواعد عامة ومجردة, هو المتاح الآن بعد أن تم تدويل السيادة أي بعد أن تم توسيع أبعادها الخارجية وأصبح للعلاقات الدولية ظل واضح على مفهوم السيادة مع نمو عدد الفاعلين الدوليين وتكريس فكرة التنظيم والقانون الدولي.. فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الدولي وهي الاعتراف المتبادل بين دول لها سيادة اتسعت بصورة أدت إلى وضع شروط لممارسة الدولة حقوق السيادة, أهمها ألا تؤدي ممارسة تلك الحقوق إلى إحداث اضطراب في النظام العالمي. ومع تنامي التفاعلات على المستوى العالمي صار للبعد الخارجي للسيادة دورا مهما تفاعل مع البعد الداخلي بقوة وبشكل مركب, بل ومعقد جدا.

وما زال مفهوم السيادة في الداخل والخارج يتعرض للتغيير والتطوير, ولم تتوقف نظريات العلاقات الدولية والقانون الدولي عن الاجتهاد في معنى ودلالات هذا المفهوم. ولعل ذلك يرجع إلى أن موضوع السيادة داخل الدولة في ظل المد الديمقراطي يثير عدة اعتبارات أيديولوجية ودستورية من شأنها أن تمس سلطات الدولة المطلقة على مواطنيها. كما أن تطور المجتمعات البشرية وازدياد علاقات الدول وما يترتب على ذلك من التزامات قانونية قد ساهم بدوره في تغيير وتطوير هذا المفهوم وتقييد خيارات الدولة في سياساتها العامة واليومية; لذا كان من الأهمية بمكان أن نبحث في نشأة مبدأ السيادة ونتتبع تطور مضمونه التاريخي السياسي حتى يومنا هذا, ثم نستشرف مستقبل المفهوم.

مبدأ السيادة.. وتطور الدولة

 يشيع في أمهات كتب علم السياسة الحديث وكتب القانون الدستوري أن فكرة السيادة ظهرت منذ بروز الدولة الحديثة وذلك في التاريخ الحديث. وإذا كان البعض يرجع الفضل للعلامة جان بودان في تفصيل وتحديد مدلول استعمال هذا المفهوم وإعطائه هذه الشهرة, إلا أن فكرة السيادة بمستوياتها المتعددة ظهرت منذ ظهور المجتمعات البشرية وكياناتها السياسية الأولى. ويدلنا البحث في التطور التاريخي لمبدأ السيادة أنه وثيق الصلة بنشأة وتطور شكل ونظام الدولة; لذا فلا عجب أن يجد هذا الموضوع التفاتا من رجال الفقه الدستوري والدولي لارتباطه بدراسة النظم الاجتماعية والسياسية وعلم التاريخ السياسي والاجتماعي.

ويمكن بسرعة استعراض السيادة في مراحل تاريخية مختلفة; فالإغريق كانوا سباقين إلى إقامة مجتمع سياسي ضمن إطار تنظيمي ثابت, ولقد مهدت الفلسفة اليونانية إلى إقامة نوع من الديمقراطية التي تعد رائدة في التاريخ القديم. وشهدت مدن أثينا وإسبرطة وغيرهما من المدن اليونانية القديمة مظاهر لهذه الديمقراطية. كما قامت اليونان بتنظيم علاقاتها مع الدول المجاورة على أساس من الالتزام, وأنشأت قانونا لحسم الخلافات عن طريق التحكيم, ولهذه الأفكار -رغم ما عليها من مآخذ وما كان لها من حدود وسقف- يدين الفكر المعاصر, حيث أضحت الديمقراطية وتحديد صلاحيات الحاكم شعاراً ومنهاجاً حتى يومنا هذا.

وعلى الرغم من ريادة اليونان في هذا المضمار فإنه يلاحظ أن القانون كان وقفا على قادة من زعماء الكهنة أو الأشراف, وأدى ذلك إلى انفراد هذه القلة بالعلم بالقانون وتفسيره دائما لمصلحة طبقتهم; وهو ما دفع عامة الشعب إلى المطالبة بتدوين العرف حتى يقفوا على حقوقهم والتزاماتهم. ويرى هذا الجانب من الفقه أنه في ظل هذا التدوين لم يترتب على ذلك خضوع الحاكم للقانون بل ظلت سلطاته مطلقة. وقد أدرك فلاسفة اليونان السيادة بمفاهيم مختلفة, حيث ذكرها أرسطو في كتابه "السياسة" على أنها سلطة عليا في داخل الدولة رابطا إياها بالجماعة, أما أفلاطون فاعتبر السلطة لصيقة بشخص الحاكم, ورأى البعض الآخر أن السيادة للقانون وليست للحاكم. ونظرا لأن اليونان قد تكونت من عدد من الدول المستقلة, فإن مفهوم السيادة -آنذاك- كان يعني حق تقرير المصير بالمفهوم الحالي.

وعرَّف الرومان السيادة تحت مفهوم الحرية والاستقلال والسلطة, وعنوا بتحديد مركز إمبراطوريتهم والتزاماتهم, إلا أن سلطة الدولة ظلت مطلقة بحكم الظروف الحياتية للعلاقات التي أنشأتها, فالدولة كانت مالكة لجميع الأراضي بينما لم يكن للأفراد إلا امتيازات موقتة على تلك الأراضي وهي امتيازات كانت قابلة للإلغاء في كل وقت, وللإمبراطور حرية مطلقة في التصرف فيها.

وبالتالي لا يختلف الرومان عن اليونان في نظرتهم إلى الدولة باعتبارها كيانا مقدسا لا يجوز محاسبتها ومن ثم كانت السلطات لا حدود لها. ولا يمكن القول بأن اليونانيين والرومانيين عرفوا الدولة القانونية بمفهومها الحديث على الرغم من وجود كثير من مظاهر هذه الدولة, فقد اقتصرت الديمقراطية في بلاد الإغريق على المواطنين الأحرار, وحقهم في ممارسة الحكم دون أن تعترف بحقوق أو حريات فردية في مواجهة الجماعة. وقد كان بإمكان الحكام أن يسلبوا الأفراد أموالهم أو حرياتهم, دون أن يكون بإمكان هؤلاء الأفراد أن يحتجوا بحقوق مكتسبة, أو حريات مقدسة, حيث لم يكن للأفراد حرية شخصية أو حرية تملك, أو حرية العقيدة أو حرية المسكن, ولم يكن للعبيد والنساء أي حقوق, إلا أنه يرجع لليونانيين الفضل في نشأة بعض الأفكار والمبادئ القانونية الراسخة في عالم اليوم مثل الديمقراطية والحرية والمساواة وغير ذلك وإن لم تصل إلى المفهوم العصري لها ومدلوله الشامل.

العصور الوسطى

أما السيادة في فترة العصور الوسطى فإن أهم ما تتصف به هو سيطرة المفاهيم المسيحية باعتبارها نظاما مميزا عن الدولة والصراع القائم بين السلطة الدينية والزمنية وتفشي نظام الإقطاع. وقد ولدت فكرة السيادة الحديثة من رحم هذه الظروف وشهدت تحولا في مفهومها, فقد كان تقديس الحكام معروفا في العصور القديمة وامتد إلى بداية العصور الوسطى, حيث استمد الحكام مكانتهم من ترويجهم لفكرة أنهم ظل الله على الأرض وأنهم يستمدون سلطتهم من الله مباشرة وليس من الشعب, وكان لذلك أثر مباشر في جعل سلطان الحاكم مطلقا وبلا حدود أو ضوابط. وبدأ تغير مفهوم السلطة بعد أن شهد هذا العصر مواجهة كبيرة بين السلطة الزمنية ممثلة في الإمبراطورية وسلطة الكنيسة ممثلة في البابا, وعلى الرغم من ظهور القاعدة الكنسية الشهيرة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله), إلا أن هذا المفهوم لم يمنع التصادم بين هاتين القوتين المتصارعتين نظرا لعدم وضوح الاختصاصات والحدود بينهما في ذلك الوقت, وهكذا فإن هذا العصر شهد بذور فكرة فصل السلطتين ثم لاحقا الفصل بين السلطات السيادية.. التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وشهدت فكرة السيادة تحولا على يد القديس (توما الأكويني) الذي قاد الحركة الفقهية المسيحية أثناء التحولات التاريخية لفكرة السيادة في العصور الوسطى, وكانت لأفكاره أثر بالغ في تطور مفهوم السيادة من الوجهتين القانونية والفلسفية, حيث اصطبغت السلطة بصبغة مسيحية وحررتها من رواسب فكر العصر القديم, وذلك بإهدار فكرة السلطان المطلق والتزام الحاكم بالقواعد العليا للقانون الإلهي, وهي وإن بدت الآن فكرة مطلقة وغير ديمقراطية فإنها في حينه كانت تحديا للسلطة المطلقة للملوك وكانت فكرة انتقالية نحو تأسيس السيادة على الإرادة الشعبية.

الدولة الإسلامية.. ومفهوم السيادة

وبالمقابل وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترزح تحت ظلم العصور الوسطى المشبعة بالسلطان الكلي للدولة والسلطة المطلقة للحاكم دون حدود أو قيود, ولدت في الجزيرة العربية أول دولة متعددة الأديان والعرقيات والثقافات تكفل المواطنة المتساوية للنساء والعبيد والمسلمين من غير العرب والعرب من غير المسلمين بعدل وفق دستور المدينة, وذلك بعد هجرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة عام 622م. وظلت هذه الدولة قوية فتية في عهد الخلفاء الراشدين والتابعين من بعدهم, حيث اكتملت منها جميع عناصر "الدولة القانونية" بالمفهوم العصري والتي تعتمد على وجود دستور وتدرج في القواعد.

وبدأت السيادة في ظل الدولة الإسلامية بصبغة دينية باسم الخلافة, ثم اتجهت اتجاها زمنيا في عهد بني أمية, وعادت لتصطبغ بصبغة الحق الإلهي في العهد العباسي ومفهوم السيادة في النظرية الإسلامية حيث قامت الدولة على أسس ثابتة في القرآن الكريم والسنة. وقد اعترفت دولة الإسلام مبكرا بوجود إرادة عامة غير إرادة الأفراد, لكن بعض حكام المسلمين خاصة في عهد بني أمية انحرفوا عن هذا المفهوم حيث تم تحويل الخلافة إلى ملك وراثي عضوض.

العصر الحديث.. مفهوم جديد

فإذا ما انتقلنا للسيادة في العصر الحديث أو ما يطلق عليه البعض عصر النهضة في القرن الخامس عشر نجد الدولة الحديثة قامت على أنقاض النظام الإقطاعي, حيث أدى ضعف السلطة البابوية إلى إبراز فكرة السيادة وإعطائها مفهوما جديدا.

فمع بداية القرن السادس عشر وصلت فكرة الدولة كفكرة قانونية إلى مستوى مقبول من النضج بعد أن ساهمت في ذلك عوامل سياسية واجتماعية مختلفة واستطاعت أن تتحرر من رواسب العهد الإقطاعي وأصبحت السيادة ميزة أساسية للدولة وجزءا من شخصيتها. وأخذت فكرة السيادة المطلقة في الزوال لتحل محلها السيادة المقيدة التي استعرضها الفقيه جان بودان 1576م منذ أن كانت فكرة قليلة الشيوع والاستعمال إلى أن أخذت نصيبها من الشهرة والتقدير. وعلى الرغم مما أصاب هذه الفكرة من تطور على يد بودان فإنها لم تسلم من النقد, فقد دافع عن سيادة الدولة ومجد سلطانها حتى تسمو على الأفراد وتعلو على القانون, وبالتالي فلم يصل بالسيادة إلى الحد الديمقراطي المطلوب حيث استمرت مظهرا من مظاهر السلطة المطلقة.

وبفضل "جروشيوس" الذي اعتبر بحق أبو القانون الدولي الغربي وصاحب مدرسة القانون الطبيعي, تطورت فكرة السيادة باتجاه مفهوم جديد يأخذ في اعتباره تطور المجتمع الدولي, حيث استطاع أن يخلص السيادة من التصاقها بالحاكم وأن يحررها من رواسب الإطلاقية وأخضعها لمبادئ جديدة هي مبادئ القانون الطبيعي إضافة إلى القانون الإلهي.

وفي القرن الثامن عشر نادى المفكر جان جاك روسو في كتابه الشهير "العقد الاجتماعي" بالإرادة العامة للشعب, وبالتالي شهدت السيادة قيدا جديدا يجد أصالته في منبع جديد أشد التصاقا بالشخصية الإنسانية وبالحرية. وانتقلت السيادة من مصادرها الإلهية إلى مصادر اجتماعية أساسها الإرادة العامة للشعب والأمة, وهذه الإرادة هي التي تراقب الحاكم تمهيدا لإعلان مسؤوليته في حالة خرقه للعقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين.

مما سبق نستطيع أن نحدد مضمون السيادة آخذين في الاعتبار الظروف التاريخية التي نشأت فيها هذه الفكرة والغرض الذي نشأت لتحقيقه.

خريطة المفهوم

 يعرف جان بودان السيادة في مؤلفه المعنون "ستة كتب عن الجمهورية" الذي نشره 1576م بأنها سلطة عليا على المواطنين والرعايا, وفي تحليله لهذه السلطة العليا يرى بودان أنها أولا: سلطة دائمة.. بمعنى أنها تدوم مدى الحياة وبذلك تتميز عن أي منحة للسلطة تكون مقصورة على فترة زمنية محدودة.. وتأسيسا على ذلك لا يمكن أن توصف السلطة المطلقة الموقتة بالسيادة. ولهذا السبب يفرق بودان بين "السيد Souverain " والحاكم الذي تكون سلطته موقتة ولذلك فلا يمكن وصفه بأنه صاحب سيادة وإنما هو مجرد أمين عليها فقط. ثانيا: إن هذه السلطة لا يمكن تفويضها أو التصرف فيها, كما لا تخضع للتقادم. ثالثا: وهي سلطة مطلقة لا تخضع للقانون لأن صاحب هذه السلطة هو الذي يضع القانون ولا يمكن أن يقيد نفسه, كما لا يمكن أن يكون مسؤولا مسؤولية قانونية أمام أحد.

والخاصية الأساسية لهذه السيادة أو السلطة المطلقة في نظر بودان تكمن في وضع القوانين »سلطة التشريع«. وبذلك نجد أن بودان وضع ثلاثة حدود للسيادة, وهي:

\ أولا القانون الطبيعي: فصاحب السيادة يتقيد بالقانون الطبيعي وبقواعده ويجب عليه أن يتقيد بالمعاهدات والاتفاقيات التي يعقدها, ولكن من الذي يلزم صاحب السيادة باحترام القانون الطبيعي. هنا نجد بودان في موقف محرج يجعل نظريته في موقف متناقض ومع ذلك لا يعترف بأي جهة تفرض احترام القانون الطبيعي على صاحب السيادة, وإلا كانت هذه الجهة حسب النظرية صاحبة السيادة الحقيقية.

\ ثانيا القوانين الدستورية الأساسية: ويخص بودان بالذكر قوانين وراثة العرش التي كان يرى أن الملك لا يستطيع أن يغيرها لأنه كان يؤمن بالدستور, وبأن التغيير في قوانين وراثة العرش يؤدي لإحداث القلاقل والاضطرابات; وهو ما يترتب عليه حدوث انقسامات في الدولة.

\ ثالثا الملكية الخاصة: كان جان بودان يؤمن بأن الملكية الخاصة قاعدة أساسية من قواعد القانون الطبيعي ولكنه أفرد لها بحثا خاصا, وكان يقول بأن السيد (صاحب السيادة) لا يستطيع أن ينتزع الملكية الخاصة من أي فرد في الدولة كما اعتقد بوجود حدود تتعلق بسلطة فرض الضريبة.

\ وبذلك يظهر التناقض في نظرية بودان بوضوح فهو في الوقت الذي يؤكد أن السلطة العليا لا حد لها في الدولة نراه يذكر أن هناك عدة عوامل محددة لها. هذه العوامل في الواقع تصيب النظرية بالصدع لأنها توجد بجانب السلطة العليا سلطات أعلى منها, كما أنه لا يستطيع أن يجد من يقوم بفرض وتنفيذ هذه الاستثناءات. ونجده لهذا السبب يضطر إلى الإيمان بحق الثورة في حالة التعدي علي أي من القيود الثلاثة التي حددها.

وإذا كان بودان عالج السيادة من زاوية الشؤون الداخلية وعلاقة الدولة بالمواطنين, فقد عالجها هوغو جروشيوس من زاوية الشؤون الخارجية وعلاقة الدولة بغيرها من الدول. فقد فسر جروشيوس السيادة بأنها السلطة السياسية العليا التي تتركز في الشخص الذي لا تتمكن أي إرادة إنسانية من نقض أعماله. وعلى الرغم من هذا التعريف فقد نقضه جروشيوس نفسه عندما أباح الحد من هذه السلطة وتقسيمها في بعض الدول الأوروبية. ويرجع هذا التناقض إلى رغبته في إنهاء الحروب التي كان يشعلها الأمراء ضد بعضهم البعض, فقد حاول أن يحد من سلطات الهيئات التي لها حق إعلان الحرب وعارض مبدأ السيادة الشعبية; لأنه رأى أنها تتعارض مع المحافظة على الأمن والنظام, واعتبرها المسؤولة عن الاضطرابات والخلافات التي سادت في العصر الذي عاش فيه. ومن ناحية أخرى رأى جروشيوس أن للشعب حق اختيار نوع الحكم الذي يعيش في ظله, ومتى تم هذا الاختيار فيجب على الشعب أن يخضع لهذا النظام ويطيع الأوامر التي تصدر عنه.

وأنكر جروشيوس على الشعب حقه في معارضة ومقاومة حاكميه, وتتميز أفكار جروشيوس في الدفاع عن الملكية المطلقة والسيادة على أراضي الدولة والمساواة بين الدول.

واتبع هوبز طريق بودان في إطلاقه للسلطة صاحبة السيادة, إلا أنه كان منطقيا أكثر فلم يأت بمضمون السيادة من الخارج وإنما حاول استخلاصه من هدف الدولة ذاته. فقد كانت حالة الفطرة في نظره تقوم على الفوضى وسيطرة الأقوياء, ولهذا السبب وبدافع خوف الإنسان من غيره, وبغريزة حب البقاء, اضطر الإنسان إلى الاتفاق مع غيره من أبناء جنسه على أن يعيشوا معا تحت إمرة واحد منهم وكان ضروريا أن يحتاج هؤلاء الأفراد أساسا آخر بالإضافة إلى العقد لكي يجعل اتفاقهم دائما مستمرا هذا الأساس هو سلطة مشتركة تلزمهم وتوجه أعمالهم للصالح المشترك بينهم, والوسيلة الوحيدة لإقامة هذه السلطة هي أن ينزل هؤلاء الأفراد إلى واحد منهم عن كل سلطاتهم وحقوقهم الطبيعية, فإذا ما تم ذلك فإن الشخص الذي اتحد فيه المجموع يكون صاحب السيادة ويكون بقية الأفراد رعايا له.

وما دام الأفراد قد نزلوا عن كل حقوقهم دون أن يلزموا الحاكم بشيء فإن سلطانه عليهم يكون مطلقا لا حدود له, ومهما أتى من تصرفات أو أفعال فلن يحق للأفراد أن يثوروا عليه أو أن يخالفوا أمره, وإلا عُدوا خارجين عن العقد ناكثين للعهد. ويهاجم هوبز الرأي القائل بأن الأفراد لم ينزلوا بالعقد الذي أقاموا به السلطة إلا عن جزء من حقوقهم واحتفظوا لأنفسهم بالجزء الباقي فالتنازل الجزئي في رأيه غير ممكن وإلا أبقينا على الحياة البدائية التي تسودها الفوضى والحروب بين الأفراد.

ونتيجة لذلك فإن السلطة عند هوبز تكون دائما مطلقة ويذهب هوبز في فكرة السلطان المطلق إلى حد القول بأن الدولة مالكة لجميع الأموال بحجة أن الأفراد قد نزلوا للحاكم الذي اختاروه عن جميع حقوقهم, وبالتالي لا تكون لهم على الأموال حقوق وإنما مجرد امتيازات يقررها الحاكم ويسحبها كما يشاء. وأخيرا فإن هوبز يرى أن الحاكم غير مقيد بأي قانون لأنه هو الذي يضعه ويعد له ويلغيه حسب هواه, وهو الذي يحدد معنى العدالة. وهكذا يبدو رأي كل من بودان وهوبز واضحا, فما دام الشعب قد تخلى كلية عن سلطته لكي ينقلها إلى الملك فإن هذا الملك لم يعد جزءا ضمن الشعب وإنما انفصل عنه وأصبح مستقلا عنه بل وساميا عليه وأصبح هو صاحب السيادة الذي يحكم من فوق المجتمع السياسي كله, فعندما يقول بودان »إن الأمير صاحب السيادة هو صورة الله في الأرض« فإن هذا التعبير يجب أن يفهم بكل ما يعنيه, فهو يعني أن صاحب السيادة يسود الشعب كما يسود الله الكون.

لكن مضمون السيادة تغير مع كتابات »جان جاك روسو« الذي يقول: إن العقد الاجتماعي يعطي المجتمع السياسي سلطة مطلقة على كل أعضائه, وهذه السلطة المطلقة التي تتولاها إرادة عامة تحمل اسم السيادة "والسيادة التي ليست سوى ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أبدا التصرف فيها, وصاحب السيادة الذي هو كائن جماعي لا يمكن لأحد أن يمثله أو ينوب عنه سوى نفسه«, ويضيف روسو إلى ذلك أن »السلطة العليا لا يمكن تقييدها; ذلك أن تقييد السلطة العليا معناه تحطيمها", وأن »السلطة صاحبة السيادة ليست في حاجة إلى ضمانات بالنسبة لرعاياها".

ويفسر روسو فكرة العقد الاجتماعي بقوله: إن الالتزام الاجتماعي والخضوع للسلطة لا يمكن أن يكون أساسها القوة, ذلك أن تأسيس السلطة على القوة وحدها يعني إنكار فكرة الحق كلية وينتهي روسو إلى أن كل جماعة سياسية لا يمكن تصور وجودها إلا باتفاق الأفراد فيما بينهم على الحياة في جماعة, وهذا الاتفاق أو العقد الاجتماعي لن يكون سليما ومشروعا في نظر روسو إلا إذا صدر من إجماع الإرادات الحرة. فالسيادة إذن ليست شيئا آخر سوى الإرادة العامة للمجتمع الذي أنشأه العقد الاجتماعي, والقانون هو التعبير عن هذه الإرادة العامة ليست هي الإرادة الإجماعية لكل المواطنين ولكنها إرادة الأغلبية, وهذا الخضوع لرأي الأغلبية هو أيضا أحد الشروط الضرورية للعقد الاجتماعي; لأن اشتراط الإجماع لكي يصبح القانون ملزما للجميع سوف يكون معناه الحكم على المجتمع بالعجز. ومن المعروف أن روسو كان يؤمن بالديمقراطية المباشرة لذلك السبب, أي لكي يمارس الشعب سيادته بشكل مباشر.

يتبع

* باحثة مصرية في العلوم الاجتماعية والإعلام