الخيارات وأطباق السموم !!

بقلم/الياس بجاني

 

منذ قيام دولة إسرائيل في الأربعينات دأب حكام الدول العربية العناترة من ملوك، أمراء، عسكر وسياسيين، على انتهاك الحريات وافتراس كرامات وحقوق شعوبهم المغلوب على أمرها بشكل فاضح "واستكرادي". حكموا وتحكموا بالمصير والرقاب، كموا الأفواه بقوة الحديد والنار، وسخروا ألسنة الطرواديين للتمويه والكذب فارضين قوانين طوارئ فصلوها على مقاس كراسيهم والعروش. تمترسوا وراء أولويات وهمية منها محاربة إسرائيل فيما هم بالواقع استهدفوا شعوبهم بلقمة عيشهم والحقوق وأشبعوهم اضطهاداً وسجناً، تهميشاً، قهراً وتهجيراً.

 

أما أشرس أساليب قمعهم المستمرة تسويقاً وفرضاً فاختُصرت في حصر وتقنين خيارات الناس باثنتين لا ثالث لهما: إما مع الحاكم والحكم "على عماها" تحت رايات العروبة اللغز، وسلاح الدين والأصولية، وإما مع إسرائيل وتحمل العواقب التركيعية القصاصية من تخوين وفبركة ملفات قضائية وسجن وإعدامات وغيرها من أساليب القمع والإرهاب.

 

وخلال حقبة ظلم وظلامية الاحتلال البعثي للبنان فرض على شعبنا حكام الشام في ظل حرابهم والوعيد خيارين لا علاقة لهما بوطننا والمصير: إما مع سوريا قلب العروبة النابض وبعثها المنقذ، والخنوع بصمت لكل ما تفرضه مخابراتها والعسكر من مفاهيم سياسية ووطنية مغلوطة، وقمع للحريات، وتعهير لأسس السلم والحرب، وتجارة مقاومة، وانتهاكات وهرطقات لا حصر لها، وإما مع إسرائيل وبالتالي التعرض للمحاكمات الكاذبة والتهم المفبركة والسجن الاعتباطي، ولكل فنون ومبتكرات التعدي والإذلال.

 

لم يشذ البعث الأسدي عن القاعدة "العرباوية" هذه ففرض على شعبنا اللبناني حكام وسياسيين ومرجعيات مسخ مخصبين في حاضنته "العنجرية"، مدجنين على تبن معالفه ومبرمجين على مسح الأعتاب وطأطأة الرؤوس. باعوا الوطن بثلاثين فضة واقترعوا على دم ناسه والكرامات.

 

بفضل نضال شبابه البطولي، وتضحيات رجاله والإيمان، تحرر الوطن من رجس الاحتلال البعثي وكفر عسكره والمخابرات في نيسان 2005 بعد أن توفر له ولمناضليه الدعم الدولي المطلوب والظروف الإقليمية الموآتية.

 

دخل لبنان حقبة استقلالية جديدة لطالما سعى إليها أناسه حالمين قطف ثمارها حرية وسيادة وراحة بال، وقد علقوا عليها الآمال والأماني الجسام، إلا أن الأكثرية النيابية التي أنتجها قانون "غازي كنعان" الانتخابي أصابتهم بالخيبة ووضعتهم في مواجهة واقع أمني مكشوف ضاغط، وضبابية سياسية محيرة معطوفة على عقلية حكام مغربة بمكنوناتها عن ألآمهم والمعانات. ابتلى الناس بقوم منقسم على نفسه توهم في غفلة من الزمن أنه أمسى الآمر والناهي، أولوياته غير أولوياتهم وتطلعاته لا تمت لتطلاعاتهم بصلة.

 

بهدف الاستئثار والاستفراد واستبعاد ممثلين حقيقيين لخيارات الناس وضعت الأكثرية النيابية وحكومتها الجميع أمام خيارين تماماً كما كان الحال الشاذ خلال حقبة الاحتلال، وكما هو سائد حالياً في الدول العربية: إما الموالاة "الغنمية" والتعامي الكامل عن كل الأولويات الوطنية والمعيشية والأمنية والاكتفاء بدور المتفرجين و"الزقيفة"، وإما التعرض لكل ما في القواميس والمعاجم العكاظية من اتهامات أقلها التعامل مع سوريا ضد الوطن، حماية الرئيس المدد له سورياً ومنع إسقاطه، فرط عقد الوحدة الوطنية لـ 14 آذار، عرقلة جهود الحكومة الأمنية والاقتصادية، وشق الشارع المسيحي، وتطول القائمة لتطاول كرامات وتضحيات السياديين وعطاءات عمادهم ورفاق دربه الشرفاء، إضافة إلى محاولات تزوير الحقائق والسطو الوقح والفج على محطات نضالهم والانجازات.

 

ستفشل كل محاولات فرض التسلط والاستفراد، كما فشلت محاولات مماثلة لا تعد ولا تحصى للمحتل طوال سنين هيمنته والقمع، لأن خيار المناضلين الشرفاء من أهلنا وعمادهم كان وسيبقى لبنان الحق والعدل باستقلاله وسيادته وحرية إنسانه، كما أن السياديين هم الذين يحددون أولويات وخيارات أهلهم والوطن طبقاً للثوابت والكرامات، وهم لن يقبلوا أن يفرضها عليهم الغير مهما اشتدت بوجههم الصعاب والمضايقات، وقست ضدهم حملات الإعلام المبرمجة الملغمة بالغيرة والحقد، ومهما تفننت في ولولتها والعويل أبواق "القناديل" "والفوارس"، وتمادت افتراءات وخزعبلات "النصير" و"الزافانيين"، ومهما زاد قصف وإسقاط ((Projection ربع  "النوعيات" وتزلف المتصابية!!

 

ذاكرة السياديين حية كما ضمائرهم والوجدان، لن يقعوا في شباك وفخاخ تنصب حولهم، ولن يجرعوا أطباق السموم المموهة التي تعد لهم. من حق كل فريق أن تكون له خياراته والمواقف، فليجاهر بها ويسوق لمحاسنها والفوائد بالوسائل الحضارية والديمقراطية، وليتعود على مواجهة الناس بنتائجها نجاحاً وفشلاً، ولكن ليترك كل فريق للغير حرية انتقاء خياراتهم والمواقف، ولا يُحمل هذا الغير أوزار فشله والإحباط.

 

ليستفيق البعض من أوهامهم والأحلام، ويتفحصوا أحجامهم والقدرات.

إن إنقاذ الوطن يستوجب العودة إلى الرشد والشهادة للحق، ولا يغيب عن بال أحد أن من يُصارع الحق يصرعه، وأن الحقيقةُ كما يقول نبينا جبران هي كالنجومِ لا تبدو إلا من وراءِ ظلمةِ الليل.

 

14 كانون الثاني 2006