مصطفى جحا شهد للحق وانتهى قرباناً على مذبحه

بقلم/الياس بجاني*

 

لا تخافوا الذين يقتلون الجسد ولا يقدرون أن يقتلوا النفس، بل خافوا الذي يقدر أن يهلك الجسد والنفس معا في جهنم. (متى10/28)

 

يتذكر أحرار لبنان اليوم شهيد الكلمة الحرة والحقيقة المجردة من كل منفعة ذاتية، الكاتب والمفكر، مصطفى جحا، في السنة الثامنة عشرة لاغتياله. ففي يوم الأربعاء 15 كانون الثاني سنة 1992 في بلدة السبتية، قضاء المتن الشمالي، كشر تنين الشر عن أنيابه وافترس بوحشية غرائزية ودون رحمة المفكر جحا حيث أطلق يومها القتلة الأبالسة النار عليه وهو في داخل سيارته فأردوه قتيلاً، فيما أطفاله الثلاثة الذين كان في طريقه لإيصالهم إلى مدارسهم يشاهدون الجريمة البشعة دون أن يتمكنوا من مد يد المساعدة له بعد أن سقط أمامهم ملطخاً بدمه الطاهر.

 

حتى الآن لم يتم القبض على أي من هؤلاء القتلة الأشرار، علماً أن مرجعياتهم السياسية والعقائدية معروفة، وهو بالطبع حال مأساوي وهرطقي معيب ينطبق على وضعية كل الجرائم التي طاولت وتطاول قادة ومفكرين ورجال دين أحرار وسياديين في لبنان، هذا إن لم يُجرَّم القتيل ويكافأ القاتل.

 

آمن مصطفى جحا عن قناعة وعلم بحق الآخر بالتميز المطلق مذهباً وحضارة وجذوراً وثقافة ونمط حياة، ورأى ضرورة قصوى لفهم هذا الآخر والتعامل معه بعلم ومحبة ومساواة وعدل وإيمان، وقد مارس قولاً وفعلاً وفكراً كل ما بشرَّ به وسوّق له بقلمه الذي تميز بالصدق والجرأة والتجرد والشفافية.

 

رفض هذا المفكر اللبناني المقدام والثاقب البصر والبصيرة وصاحب الضمير والوجدان الحيين، رفض التحجر والتعصب والتقوقع، وقال لا بصوت عال وصارخ ومدوي لثقافة الموت، ولا للجهلة المسوّقين لها تحت رايات التعصب والأصولية والهمجية.

 

اجتهد وكد واستقصى وبحث وغاص في المراجع والمدونات والكتب الدينية والتاريخ والاجتماع ولم يترك باباً علمياً وثقافياً إلا وطرقه باحثاً عن الحقيقة والتاريخ والمعرفة. كتب بحرفية وصدق ومسؤولية في مواضيع فكرية وإيمانية وحياتية وتاريخية متفرقة دون مسايرة لمقامات أحد عاملاً بقول القديس بولس الرسول: "فلو كنت إلى اليوم أتوخى رضا الناس لما كنت عبداً للمسيح" (غلاطية 1/9 و10)، وقد وصل عدد مؤلفاته إلى 25 كتاباً.

 

صراحته، وجرأته، ومنطقه السليم، ومقاربته للمواضيع الشائكة بجدية وموضوعيه وتجرد، وانفتاحه الصادق على الآخر واحترامه له ولمعتقده وتميزه، وعدم خوفه من المجاهرة بالحقيقة وحمل مشعلها، كل هذا أزعج، لا بل أخاف أصحاب العقول العفنة من الأصوليين والمارقين والإرهابيين واعتبروا أن ما يكتبه يمس بالمحرمات. حقدوا عليه وخططوا لقتله ونفذوا ما ضمروه له لينتهي شهيداً لما آمن به، وقرباناً ذكياً على مذبح العلم والحقيقة.

 

لم يساوم مصطفى جحا ولم يخف ولم يماشي مخططات أعداء لبنان والإنسانية ووقف في وجه الداعين للعنف متصدياً لهم بقلمه وفكره وعزيمته الحديدية. دفع حياته ثمناً لقناعاته ورحل بطلاً شامخاً أبياً. إلا أن ذكراه باقية في القلوب والضمائر، وفكره باق في وجدان لبنان الرسالة، ودمه الطاهر امتزج بتربة وطن الأرز المقدسة فزادها طهارة وقداسة.

 

لقد صمد وانتصر وطن الأرز على كل المارقين والغزاة والأباطرة والمحتلين طوال 7000 آلاف سنة بفضل التضحيات الجسام التي قدمها ويقدمها أبطال كبار من أمثال مصطفى جحا أحبوا وطنهم وأهلهم وتفانوا بتضحياتهم. ألم يقل السيد المسيح: "ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل الآخرين"؟ (يوحنا 15/13)

 

لقد بذل مصطفى جحا نفسه من اجل لبنان الإنسان والحق والحقيقة والرسالة، فرحل بجسده إلا أن ذكراه باقية طالما بقي لبنان.

 

*الكاتب معلق سياسي وناشط لبناني اغترابي

*عنوان الكاتب الألكتروني phoenicia@hotmail.com

*تورنتو/كندا في 16 كانون الثاني/2010