الأبطال لا يموتون
بقلم/الياس بجاني*

مسيرة صلاة على ضوء الشموع في مدينة ماسيسوكا الكندية لراحة نفس الشهيد الجندي الكندي – اللبناني مارك دياب

 

المئات من أبناء الجالية اللبنانية في كندا، ومن أبناء بلدة عين إبل الجنوبية، ومن رفاق وأصدقاء ومحبي الجندي الكندي – اللبناني الشهيد الشاب مارك دياب، شاركوا مساء أمس الثلاثاء في مدينة ماسيسوكا الكندية- مقاطعة أونتاريو، في مسيرة شموع وصلاة مهيبة تقدمها الأب الأنطوني عمانوئيل نخلة، راعي كنيسة سيدة لبنان المارونية في تورنتو، فيما حمل رفاق الشهيد صورة كبيرة له باللباس العسكري وساروا في مقدمة المسيرة وهم يجهشون بالبكاء حزناً على فقدان مارك الذي كان شعلة من العطاء والنشاط، ومثالاً يقتدى به في الشجاعة والنخوة والتضحية.

 

المسيرة انطلقت من أمام منزل عائلة الفتاة اللبنانية، وهي أيضاً من بلدة عين إبل، والتي كان الشهيد ينوي أن يتقدم إلى خطبتها فور عودته من أفغانستان حيث كان من المقرر أن تنتهي في نهاية الشهر الجاري فترة خدمته العسكرية هناك. إلا أن القدر حال دون ذلك، وتحولت الفرحة، فرحة العائلتين إلى حزن وأسى ولوعة، حيث انفجر لغم أرضي بالآلية المدرعة التي كان يستقلها الشهيد ضمن دورية عسكرية كندية، فقتل على الفور متأثراً بجراحه، في حين جرح أربعة من رفاقه الجنود.

عائلة الشهيد أرادت من خلال المسيرة أن تسلط الأضواء على الإرتباط الروحي والوجداني الذي ربط ولدهم بمنزل عائلة الفتاة التي أراد بمحبة ورجاء أن تكون رفيقة لدربة، وشريكة له في بناء عائلة المستقبل.

 

والدة الشهيد وحتى الآن تكاد لا تصدق أن الموت قد خطف ابنها الوحيد، وهي ورغم الفاجعة، ودون وعي، وبقلب الأم الكبير تتصرف وكأن مارك سيعود بعد أيام لتفرح به، والدموع لا تفارق عيناها تتقبل التعازي من المئات الذين يتوافدون إلى منزلهم وتسمع منهم عن ابنها قصص وقصص كلها تحكي هذا الشاب الذي سبق زمنه وعمره ورحل وهو في عز شبابه.

 

 والد الشهيد السيد هاني دياب تمتم بصوت منخفض والدموع تزرف من عينيه، "يا فرحة ما تمت". وقال بأن مارك كان يُحضر لمفاجأة الفتاة ماري وتقديم خاتم الخطوبة لها فور عودته من أفغانستان خلال أيام.

 

تكلم الوالد عن ابنه بفخر واعتزاز واتزان، ولكن بحزن وحرقة وصدمة، فمارك ابنه الوحيد، ولمارك شقيقتان، وكانت كل أماني وطموحات العائلة تتمحور حول مستقبل هذا الشاب الواعد الذي ما عرفه أحد إلا وتأثر به وأعجب بشخصيته الممتلئة فرحاً وحياة وأمل.

 

طاقاته لم يكن لها حدود وأنشطته وهوياته متنوعة وكثيرة ومميزة وكأنه عرف قدره مسبقاً وتوجس بما يخبئه له القدر فأراد من حيث لا يعلم أن تكون سنواته القصيرة نبعاً معطاء ودافقاً.

 

أجاد مارك في العزف والموسيقى، كما في الرياضة بأنواعها، وتفوق في العمل الكشفي حيث ولسنوات أشرف وبحماس واندفاع على المخيم الذي تقيمه كل صيف كنسية سيدة لبنان المارونية في مدينة تورنتو المحاذية لمدينة ماسيسكوا حيث تقيم عائلة مارك. علماً أنه يقيم في هذه المدينة ما يزيد عن 300 عائلة من بلدة عين ابل الجنوبية تربطهم ببعضهم البعض أواصر القربة، وهم يمارسون عاداتهم الاجتماعية، وشعائرهم الدينية، ونمط حياتهم اليومي وكأنهم مقيمون في عين إبل.

 

 يشار هنا إلى العشرات من الشباب والصبايا من أبناء رعية كنسية سيدة لبنان الذين دربهم مارك في المخيمات الكشفية شاركوا أمس هم وأهاليهم في مسيرة الشموع، وكان لكل صبية وشاب منهم قصة، بل قصص مع مارك.

 

ومن يسمع ما يقوله أقاربه ورفاقه، وكل من عرفه ومنهم العسكريين الكنديين من قادة وجنود، وفي مقدمهم قائد الجيش الكندي نفسه لا يصدق بأن هذه الشاب المميز هو ابن 22 سنة فقط، بل ربما مئة سنة وأكثر لما كان يتميز به من عطاء وانجازات متفجرة سابق بها ومعها الزمن.

 

 حُلم مارك كان أن يصيح جندياً، ورغم أنه وحيد عائلته، فقد أصر، وأصر بعناد وثبات على تحقيق هذا الحلم رغم حذر ورفض والديه والتحق بالجيش الكندي، وكان له ما أراد. وقد وصفه قائد الجيش الكندي في محادثة تلفونية أجراها أمس مع والده، بالمحارب وليس بالجندي وروى للوالد المفجوع كيف التقى مارك في أفغانستان مؤخراً وكيف تأثر بشخصيته وهو كان يتوقع له مستقبلاً واعداً جداً في الجيش الكندي.

 

والد الشهيد قال لصحيفة التورنتو ستار، في حديث نشر اليوم: "لقد غمرنا الناس بمحبتهم وتعاطفهم، وهناك أشخاص وهم بالمئات حضروا من كل المقاطعات الكندية لتقديم التعازي وأنا لا أعرف الكثيرين منهم. أنا فخور جداً بما قدمه ولدي البطل وقد استشهد وهو يقوم بواجبه دفاعاً عن كندا وصونا للسلام العالمي. الأبطال لا يموتون، ولكنني حزين حتى الموت على رحيله المبكر هذا".

 

 يشار هنا إلى أن عائلة مارك أجبرت على مغادرة بلدة عين إبل سنة 2000 عقب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وهاجرت إلى كندا، حيث كان عمر مارك 13 سنة، ورغم نشأته وتلقيه تعلميه في كندا، إلا أن هذا الشاب العين إبلي قلباً وقالباً وممارسة وإيماناًً، أحب لبنان في وجدانه وضميره وكل أحاسيسه وكان يفاخر بجذوره وبتاريخ وثقافة وطنه الأم.

 

رئيس الوزراء الكندي السيد ستيفن هاربر كان التقى والدة الشهيد ومجموعة من أقاربه أمس خلال وجوده في مدينة برامبتون المجاورة لمدينة ماسيسوكا وقدم تعازيه القلبية لهم وأعرب عن اعتزاز كندا حكومة وشعباً بما قدمه مارك زوداً عن بلاده في ساحة الشرف.

 

 هذا وسوف يصل إلى كندا اليوم على متن طائرة كندية عسكرية جثمان الشهيد حيث ستقام المراسيم العسكرية المتبعة في مثل هذه المناسبات بحضور وزير الدفاع وقائد الجيش وكبار الرسميين الكنديين. هذا وكان حاكم كندا ووزير الدفاع ورئيس الوزراء وقائد الجيش ورئيس الحزب الليبرالي المعارض قد نعوا الشهيد وقدموا لعائلته تعازيهم.

 

 مما لا ريب فيه أن هذا هو قدر اللبناني منذ القدم، وهو أن يكون سباقاً وصاحب رسالة مميزة وفريدة في أي بقعة من الأرض يحل عليها. إنها رسالة السلام والدفاع عن هذا السلام وافتدائه بالغالي والنفيس. مارك لم يمت، مارك حي في الحرية التي يتمتع بها كل كندي وهو قدم نفسه قرباناً على مذبح الحرية هذه.

 

 مارك لم يمت، مارك راقد على رجاء القيامة وقد جاء في رسالة القديس بولس الرسول الثانية لإهل كورنثوس 5-2: "ونحن نعلم أنه إذا هدم بيتنا الأرضي، وهو أشبه بالخيمة، فلنا في السموات بيت من بناء الله لم تشده الأيدي".

 

*الكاتب معلق سياسي وناشط لبناني اغترابي

*عنوان الكاتب الألكتروني phoenicia@hotmail.com

*تورنتو/كندا في 11 آذار/2009