أوفوا إذا عاقدتم، واعدلوا إذا حكمتّم

الياس بجاني

مسؤول لجنة الإعلام في المنسقية العامة للمؤسسات اللبنانية الكندية

 

لا شك أن لبنان دخل حقبة جديدة إيجابية جداً وواعدة على شتى الصعد بعد خروج الجيش السوري منه، طبعاً بمقتضى القرار الدولي رقم 1559، ثم وضعه تحت المجهر الدولي والعربي الثاقب. ففي فترة قصيرة جداً، نسبياً، بدأ الوطن بتضميد جراحه واستعادة دوره الريادي المغيب، بعد نهشٍ وتهميش قاتلين استمرا طوال ثلاثين سنة عجاف من ممارسات القهر والاستعباد والإجرام "الأخوي" الشقيق والشقي.

 

وعلى عجل وثبات انطلقت ورشة الترميم بعزيمة لا تكِلّ حيث راح اللبنانيون متكاتفين متعاضدين يستعيدون المواقع الأمنية والمخابرتية الواحد تلو الآخر، ويستردون القرار ويسترجعون الحريات بإزالة الحواجز الاصطناعية التي شيدها المحتل البعثي بين شرائحهم على قاعدة أسلافهم بني عثمان "فرق تسد".

 

في هذه الأجواء المشجعة ارتفعت الأصوات صارخة من هنا وهناك مطالبة بإحقاق الحق وإعادة فتح ملفات قضائية كثيرة فبركها المحتل وزنادقته ضد قيادات ومجموعات وأفراد سيادية لقهرها والحؤول دون أي تحرك تحريري له.

 

رحب اللبنانيون باللجنة الدولية المكلفة التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، تحرك عدد كبير من النواب والقيادات في مسعى حثيث لتأمين الإفراج عن الدكتور سمير جعجع المعتقل ظلماً وعدواناً، وقام الرئيس العماد عون بزيارة تضامنية له في سجنه فاتحاً صفحة جديدة بين القوات والتيار، بعد عودته من المنفي والوزيرين عصام أبو جرة وادغار معلوف ومعهم عشرات المبعدين من ضباط الجيش وناشطي التيار الوطني الحر والمجموعات السيادية. أعيد بقوة وعلى كافة المستويات فتح ملفي المعتقلين في السجون السورية والمفقودين، تصالحت القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتوجوا صلحتهم بتحالف انتخابي في الشوف ومناطق أخرى. تصالحت القوى البيروتية كافة. تحركت المرجعيات السنية للإفراج عن معتقلي أحداث الضنية ومجدل عنجر  ولإعادة الحقوق لأفراد ما كان يعرف بـ "جيش لبنان العربي". علت الأصوات في بعلبك ومحيطها مطالبة بعفو عام عن المحكومين بقضايا مخدرات. وسلطان أبو العينين هو الآخر طالب بعفو يشمل الفلسطينيين في المخيمات.

 

واللافت هنا أن الشريحة الوحيدة التي لم يتجند حتى الآن أي مسؤول رسمي، نائب أو ومرجع، للمطالبة أن تشملها أجواء الانفتاح والعفو، هي شريحة أهلنا المبعدين منذ العام 2000 إلى الأراضي المقدسة عقب تنفيذ إسرائيل القرار الدولي 425 وانسحابها من الجنوب. علماً أن الآلاف من أفراد هذه الشريحة الضحية، وهم من كل المذاهب، طاولتهم أحكام جائرة باعتراف العديد من جمعيات حقوق الإنسان ودول العالم الحر، وصلت إلى حد استهداف ما يزيد عن السبعين منهم بأحكام الإعدام والأشغال الشاقة.

 

نسأل لماذا هذا الاستثناء الظالم غير المبرر، ولماذا الجميع، سياسيون ومراجع يتجنبون خوض غمار هذه القضية الإنسانية والوطنية بامتياز، وهي تخص كل مكونات المجتمع اللبناني؟ في حين أن القيمين على الشأن العام في لبنان ودول الجوار يعلمون علم اليقين أن أهلنا في الجنوب ظُلموا ظلماً كبيراً، وهم الذين رفضوا ترك أرضهم وممتلكاتهم، وقدموا الغالي والنفيس كرمى لوطنهم ولشلوح أرزه وليبقى علمه خفَّاقا على أخر شبر من الحدود.

 

علت أصوات الجميع مطالبة بالعدل الذي حرمهم منه المحتل "الشقيق" وأدواته المحلية في ظل قضاء مُسَّيس، استنسابي، انتقائي، ووقائي. لقد سخر المحتل وأدواته المحلية قدرات الدولة وكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والإعلامية والمالية لخدمة مخططات ومصالح الغير على حساب لبنان وناسه، بما فيه العدل، واليوم بعد أن تحرر الوطن لم يعد من الجائز أن يستمر  العدل انتقائياً، ولا غض الطرف عن مأساة المنسيين من أهل الجنوب.

 

نعم تحرر الوطن وسقطت حواجز الخوف والفرقة، ولكن حتى يستقيم قوس العدل وتشعر كل الشرائح أنها تحت مظلة الدولة، مشمولة بالانفتاح، ومتساوية مع غيرها في الحقوق والواجبات، من الضرورة بمكان أن يظلل هذا العدل كل المناطق والتجمعات والأفراد وخصوصاً أولئك المبعدين من أهلنا إلى إسرائيل الذين قهروا وظلموا دون وجه حق.

لن يستقيم قوس العدل في وطننا ولن تكون هناك مصالحة شاملة وحقيقية طالما بقى الظلم والجور واقعين على أهلنا المبعدين عن وطنهم المطعون بوطنيتهم والكرامات.

للقيمين على الشأنين العام والسياسي في لبنان، ولدول القرار نقول: تحلوا بالشجاعة الأدبية وضموا ملف أهل الشريط الحدودي لباقي الملفات الخلافية، ولا تتركوا أي شريحة خارج الوفاق والعفو والانفتاح. وبذلك يضحك الإنصاف لأسياد الديمقراطية ويبدأ إعلاء شأن الوطن.

 

نختم بشهادة المغفور له المفتي الشهيد حسن خالد: "إن في الوطن – على  صغر مساحته – متّسع لجميع أبنائه على أساس من العدالة وصون الحريات، وإن أي فئة من الفئات لا يمكنها أن تبني لبنان على صورتها، سواء كانت حزبية أم طائفية أو عنصرية، ومهما تمادت هذه الفئة أو تلك في مثل هذه المحاولات، فإنها ستعود في الخاتمة إلى منطق المواطن الحكيم المدرك مسؤوليته الوطنية، لأنّ لبنان لا يمكن أن يكون إلا على صورة من التجانس البديع بين جميع طوائفه، تظلّله الكرامة وتحفظه العدالة والمساواة".

من يشهد للحق، الحق يخلصه.

 

25 أيار 2005