رحاب الضياع

الأب سيمون عساف

مسرح السياسة عندنا للنصر والغار أم للعيب والعار؟

وتنفجر الأسئلة على شفاه الصمت لتنقلب أجوبة في سمع الضجيج.

قد يكون لبنان الوطن الضائع، وقد نتكلم عن وطن في انتظار أن يتحقق، لكن الأكيد إننا أبناء الوطن البريء والبسيط والبعيد كل البعد عما نعيشه، خصوصاً في يومياتنا المشرقية التعيسة حيث تكثر الهموم والغموم ويتراكم التهديد والوعيد وتتفاقم الدسائس والمؤامرات.

 إلا أن المنعطف الأبرز في حياتنا هو زواجنا الروحي على جمالية التلال والسهول والأرز والسنديان والينبوع والشمس والقمر، لا بنسيج أكفان الضغينة والبغض وتنجير النعوش لأبناء الحياة في ربوعنا الناعمة.

مشينا درباً أثمرت آلاف الضحايا والشهداء وعشرات المشاريع على كل مستوى ومئات الحفلات الضخمة على أهم المسارح والمنابر في الشمال والجنوب والشرق والغرب.

ونستكمل المسير رغم كل العراقيل قناعة منا أن الإنسان هو ابن المغامرة في كل آن وأوان.

أطلت نجوم شهيرة وغابت نجوم بعد تجاوز مطبات غير هوائية لها علاقة باستقرار معهود ورؤية ثاقبة ورقي منشود، ولكن لا يمكن بأي حال وصفها بالنموذجية مع إننا أحببنا للعظم أن تورق أشجار الأمنيات، وان تزهر دنيا الأحلام بتأمين حياة كريمة بعد أن ضاق المنشأ حتى بفرصة عمل لنا.

انه أمر غير مألوف للأسف، ولكن على انتباه فريد حين عزفت موسيقى الانَّات الطويلة باشرنا بموال ينتزع آهات مبكرة من الصدور والمهج، وبإيقاع حجيج المواكب من أعلى السلم وليس من أسفله حيث أنغام القهر الهادئة.

بعد أن سندنا اللحن والنغم السريعين  متبعين ما تقدم فلم نركن إلى ما يعرفه أو يجهله الإدراك حي بالحدْس والتخمين، لم تكن العيون لتحيد عن الستائر السوداء، في نهاية البساط الأحمر الممدود لخطوات القادة من الميكروفون إلى الكواليس.

وحدهم الأبطال ضمير الأمة.

وما أن بدأ عزف موسيقى الحوار، اعترانا شعور رائع تفوّق على ما نتذكره في البث المعروف المعزوف حتى هلَّت تباشير المُنى، ربما كان هذا بسبب الإحساس العميق وبساطة الشعر الممتنع الذي جعل البعض ينشج في هدوء البلد نشيجاً مكتوماً، جعلته الرغبة بكتمانه أقوى ومسموعا أكثر.

ثم برم الناس بشكل دائري لتلويح مناديل مفتولة أمسكت بها اكف مشتاقة إلى أن تمسك على الأول في صف دبكة الخلاص والسكينة والظفر.

ففاضت دموع وصاح انتظار محيياً من سمانا عصافير الحقول والجنائن والكروم، لمَ قامت القيامة إذا ولم تقعد، حتى أخذ السياسيون يلتفتون ضاحكين وقد رفعوا حواجبهم عجباً من ردة الفعل الفريدة هذه والصفح والمصافحة لا ينطويان إلا على الختل والرياء؟!

إنهم دائما هم، منهم من وقف في مكانه يرسل قُبَلاً، ومنهم من اكتفى برفع ذراعيه في الهواء، هكذا، كأنه يريد معانقة شخص مبهم في مكان غامض من فضاء المساحة.

أو كأنه يروم رشق اللعنة على الممثلين شرائحهم، وما أن انتهت جوقة القادة واقتربت نهاية الحفل الرامي حل العُقد حدث سقوط في السهو، حتى ابتسم الظرف كمن تنبه متأخراً إلى ما افتعل كنخب مجموعة متواطئة على ذاتهاً وكأن الأمر على قلبها أحلى من العسل، لترداد عبارة انشالله خير واستُصدر"ميثاق شرف" وأي شرف صارخ هو هذا؟

تحوَّل كل إنسان إلى "مجنون" بشكل لافت عندما أصيب اللبناني بالخيبات وغدا الرجاء أضواء خافتة صفراء على وقع نقرات الوجع.

فما للأرز يلتهب فيبكي من الناس من يبكي. ورغم  ابتسامة فيها خجل وكبرياء في آن ، بقى الأمل في مجلس "حوار الطرشان" المستطيل كاللانهايات يمط ولا يحط. 

ويتفاعل وجود شعبنا الكثيف مع المعاناة التي تنقل إلينا صورة الوطن المعذب لا كما نعرفها منذ زمن طفولتنا بل من خلال وقار الأقدمين المحترمين. 

نرانا نقف مصفقين  مطولاً عندما يدغدغ الوعد مشاعرنا والخواطر، وتصفعنا نتائج الواقع فنبتلي بالويل. تحضرنا أغنية فيروز:

 "سنرجع يوما مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا"،

فنحمل في وجداننا صورة العودة إلى وطنٍ معيَّن على عهد العتاق لا يُقارن بالذي هو عليه اليوم. في الواقع انه لبنان فيروز وخليل روكز وسعيد عقل والفنانين والشعراء والملهمين والأدباء. يقولون أن لبنان تغير، وكذلك العالم، لكنني آمل أن يبقى في لبنان بعض من أصداء فيروز والصافي ومن ألوان الزجل الذي يدل علينا.

أصالتنا تستديم فيما نحن منه وله وعليه لا فيما نخلعه ونرمي به ونخجل.

17 حزيران 2006