الفراغ المخزي

بقلم/الأب سيمون عساف

 

بالأمس كنا ننحو باللائمة على سوريا وجيشها وعلى ما افتعلت في لبنان، وكان اللوم محقا والرفض مصيبا والكُره منطقيا. 

انسحبت الدولة التي لم تترك كبيرة إلا وارتكبتها في بلادنا من خطف وقتل وإسقاط شهداء ورمي معاقين وتغييب مهجرين وتسييب عائلات عدا عن النهب والسلب والإرهاب والتهريب والمقابر الجماعية والى ما هنالك من مفردات وحشية في سلسلة قواميس التخلف والهمجية.

واليوم، هل بعد من عذر للذرائع والحجج أمام شعب اعتقد انه استراح من أشباح الاحتلال وصار تحت مجهر الدُوَل يتمتع بحرية طالما نشدها مدى ثلاثة عقود؟.

ماذا ينقص اللبنانيين إذاً للاتفاق؟

وإن كان السؤال يبدو محرجاً فالحقيقةَ فرضٌ أن تُقال مهما كانت قاسية.

إن التعددية عندنا ما زالت على نمط العشائرية في عهود الخيام إن لم أقل أوطى، لأن للعشائر أعراف وآداب وعادات وتقاليد أشرف وأنبل من ذهنيات الطوائف المتعددة في لبنان.

وكي لا أتمادى في انتقاد السلوك والممارسة والأسلوب الذي تنتهجه القيادات الزاعمة المتزعمة، وما يقترف الآخرون من الطوائف على ساحة الواقع من مهاترات، أرسم علامة استفهام عريضة حول المسيحيين حصرا من دون التوغل في البدايات خشية الاسترسال في الشطط، ولكني أسلط الأضواء على محطات لها في ذاكرتنا الطريئة أثار وصُوَر.

أيعقل بعدما كان للمسيحيين أربع قوى لا تكسرها الأساطيل أن تتهاوى وتندثر وتصير أثرا بعد عين؟

كانت القوات اللبنانية التي أسسها بشير الجميل بعد معارك دموية لتوحيد الكلمة قوة ضاربة في المنطقة الشرقية، وكان جيش لبنان الجنوبي الذي اضطر أن يحافظ على عرضه وأرضه قوة ضاربة في الجنوب أيضاً، ثم كانت قوات المردة في الشمال قوة لا يستهان بعنادها وبطشها وأخيراً كان الجيش اللبناني بقيادة مسيحية قوة ولا أشرس تفترس عساكر أبناء الجنّ حين الوقيعة تحمِّي الوطيس والهيجاء يدور أوارها.

أسمح بطرح السؤال على المولج بحماية القطيع، ماذا بقي لنا من كل هذه القوى المحاربة التي  قدمت الدماء والدموع وعرق الأعصاب والجماجم والعظام إضافة إلى غالي التضحيات؟

 نعم تبعثرت وتبددت قوانا في مهب الريح وكأنها لم تكن في حسبان.

أما كان هذا الزخم قادرا على الصمود في وجوه جحافل الغازين وقوافل الطامعين وجشع الطغاة؟ بلى!

لماذا إذاً حصل هذا الفراغ المخزي المقيت وأين مَن أُعطي له سلطان المجد لم يترجم القراءة ولم يستوضح الرؤيا ولم يبت في المشاكل بحسم الآمر الناهي؟

لماذا لم تُحزم القضايا بوحدة شمل وصفٍّ وموقف وكلمة؟ لماذا لم  تتوحد تلك القوى العسكرية والمعنوية للحفاظ على الكيان والدفاع الذاتي في محيط الأبالسة؟

أقولها والحسرات  تنهشني والآهات تمزقني معترفا بعدل القدرة الكبرى انه كان لينصفنا.

نعم حدث الشرخ أولاً ومثنى وثلاث والدماغ مغفل مصاب والقطيع شتيت من جُبْن حتى قيام الساعة.

وجاء اتفاق الطائف مجلبة للهموم والغموم والإذلال والويلات ولنعوة المسيحيين وتعريتهم من امتيازات كانت لهم.

بيع السلاح وسُلِّم، ولكن لقاء أية ضمانة وأين هي الوعود يا ترى وماذا جرى غير نكص مواثيق؟

على من تقع المسؤولية في هكذا مسار ضار ومسير خطير؟

صار تنازلٌ عن صلاحيات المسيحيين التي كلفت ضحايا وشهداء وخراب ودمار لديمومة واستمرار.

فأية ديمومة بقيت والتهجير والهجران حتى الآن يستكمل النزف من جسد الوطن وفحش الغلاء  وفجور التردي آخذا كل مأخذ؟

وأي استمرار والشباب يرحل وراء لقمة عيش في أوطان غريبة، من يحاسب هؤلاء المسؤولين الذين هاتروا واستسلموا بغباء  وباعوا نفوسهم وبايعوا المغتصبين، وأي جواب يعطون عما فعلوا من جنحات بمسيحيي لبنان تحديدا ومسيحيي الشرق على العموم؟

تحاشيا للغضب والانتقام أُحجم عن وضع الإصبع على الجرح  كي لا ينز وأضرب كشحا عن تسميات الأقزام لئلا تظهر الهزيمة والتقهقر والاندحار بالتفصيل تاركا لكل صاحب وجدان التحليل والاستدلال والاستنتاج، مكتفيا بإعلان الغلط الفاضح بحقنا الذي زج المجتمع المسيحي برمته في اليأس والخيبة والإحباط والخسران.

لماذا يتباكى على الأطلال أولئك الجناة عديمو الرؤيا وقصيرو النظر وهُم في الصف الأول يستجدون اليوم عطف الكاسبين؟

إنهم رغم الانكسارات المتتالية والإفلاس لم يخجلوا مما اقترفوا ولم يستحوا من الخداع الذي كمن لهم وأوقعهم في فخاخه والذي يستحيل في يقيني النهوض منه مهما تكررت المحاولات.

وهل أرقى من الاعتراف بالخطأ مهما كان فادحا وتقديم الاعتذار؟

إن ذلك يقتضي الجرأة ولا بد في كل حال من الجرأة.

خلاصة القول، وجوههم وقحة لم يخبطها حياء أو وجل أو توبة المنيب إلى الجالس على عرش الأبد.

ما لم يرصّ المسيحييون الصفوف ويوحدوا الآراء ويتخاطبوا بلغة واحدة ويكتشفوا برؤيا متألقة مصيرهم المشبوه ويبايعوا الرجال الأكفََّاء والشرفاء ويتطلعوا إلى هدف وحيد وفريد يكفل لهم استقرارهم ويرد اعتبارهم ويؤمن استمرارهم في سائر المؤسسات من رأس الهرم إلى القاعدة، سيكونون بالتأكيد منذورون للبياد والعدم.

عساهم يهتدون إلى السبيل السوي ويرعوون "قبل إنذار يونان بالخراب وسيول الطوفان على فُلْك نُوح"!

3 تموز 2006