رجوة الخلاص

بقلم/الأب سيمون عساف

 

ينتظر لبنان على مسرح جمهور السياسيين ألاف عشاق الحرية، وألاف المشتاقين إلى الديمقراطية من مغتربين ومقيمين.

لكنه «مستوحد مستوحش» مع صوت يأتيه من أعماق ذاكرة الكبار الملتاعين ومن صور مرايا قديمة على تدويراتها المعتقة، محفورة بصماتٌ لأشواق من عايشوا الأحداث.

 

«محظوظ ومنحوس» في آن من استطاع أن يكون في تلك الرقعة الصغيرة الحميمية والدافئة إلى حد الاشتعال حيث كان الموت والحياة يرقصان معا على تراب واحد.

 

على ذلك المفترق، نستذكر ونستفيق أن أجزءاً من جباه الشهداء لا تزال تغور خفراً حين تضحك وتبكي.

إن لفتات من عيونهم لا تزال، بعد السنين تلوم في سمرها النجوم وسماء النجوم عندنا.

 

أجل على تلك المساحة، سيكون لدينا متسع من الحشرية لكي نتأمل الأكف القابضة على مفاتيح البيت السحري الساحر، الذي إن واربناه قليلاً، تهب الفراشات ويعبق عطر اللوز ويتطاير رذاذ النبع ويهدر صوت الطواحين، وتهطل المدن والقرى على أبنائها رغم أزيز الرصاص ولعلعات البنادق وفجور الراجمات ودوي المدافع وأكفان النعوش.

نغرق كما يغرق شتاء غير متوقع متجولاً هائماً على غير هدى.

لبنان هو نفسه، لم يغير «عوايده» مع انه على برميل متفجرات موقوتة، يغنِّي، يتأمل، يثير ثورة النوستالجيا بإشارة من رَفَّاتِ أرزه لانتفاض وانقضاض.

يستدعونا أكثر من مرة، كما يتوسل العشاق حبيباتهم والهائمون سفنهم للسفر في الحب والتعايش والعناق.

 

في كل مرة نعاود فيها الرجوع على خشبة الأمس، تختلج في القلوب أعمق الخفقات وينطلق من الأكف  أحر التصفيق  وتغرورق الأحداق بأعز الدمعات.

هو الوطن الحاضر الغائب يغرف من زوادة الحنين التي حملها الأهلون معهم أينما كانوا وحيثما رحلوا يأكله صراعٌ وانين.

بِحنوٍ هائل وشموخ مهيب نتوق إلى هنيهاتٍ عِذاب بعد العذاب والهناء وكأننا في الفصل الأول الذي سُلَّ فيه «سيف المراجل» والبطولات والإقدام والإحجام.

حنين دافق موجوع نلملمه من حكايا الأبواب التي لم تعد تتعرف إلى أصحابها والناس الذين «تغربوا وما تغربوا وتذكروا وما تذكروا» والأولاد الذين «كل عيد بيروحوا لبعيد».

 

سيبقى فردوسنا مدينة العابرين مهما ظلم الدهر وجار. أطياف الوطن الأسطوري بوجوده يرسم لخطانا آثاراً ولاشتيقانا مخادع آمنة.

متى يعرف بلدي يا ترى استراحة المحارب؟

هل في الفصل الثاني بدأ بمعزوفة «انسحاب وتكتل وحوار»؟

ونغرق في آهات التأثر والحنين والتحسر والأمل.

 

ثم مفاجأة حقيقة لجمهور الشباب الذي كان عليه أن يتلفت ويسأل «جيرانه» من جمهور الجيل الأول أو الثاني عن لبنان جهنم الحمراء والجنة الخضراء.

أن يستعيد «الكرة إلى ملعبه» ويعبِّر عن تمرد مخفي ومسكوت عنه ورغبة فعلية بأن ينشد سيادة واستقلالا بحماسة وفرح تنسرب إلى كل مهجة وكل نفس.

صراخ المواطنين المتكرر ينْهَدُ إلى الخلاص من براثن الانشقاق ومخالب الخلاف سعياً لائتلاف والتقاء.

سئِم التجاذبات الخانقة والعهود المنكوصة والتوقعات المغلوطة.

 

رباه ارأف وانشر عليه من السلام بيارق ورايات.

آثار الدموع لم تجف بعد، موعودة ببريق من فرح يضيء، وللعابرين تستمر محطة لن تمحى من البال.

أصداء تتردد، تذهب وترجع، وتوحي بأن هناك فرصة إضافية لاحتمال الانتظار، كما انتظار النهاية المقبلة للقيامة.

كلما تصاعد بلدي في الزمن، كلما أوغل عميقاً في الصبا وحكايات الطفولة ودروب القرى الوادعة عند البطاح والسفوح.

كأني بتلك الهضاب تفتح خزائنها وتنتقي منها للسعادة حلقات.

 

أمَا استعادة تلك الأيام بأجوائها المشرقية تلامس الروح، وتلعب على أوتار المشاعر؟

ونحن نبذل جهداً وننبش الذكريات، وننقب عن الأحلى من جواهرنا، وربما يكون ذلك لطبيعة الأماسي التي عبرت ومعها من الأحلام قوافل ومن الآلام مواكب.

بدأت أضواء الانعتاق تلوح ومضة ومضة، ليضاء بعدها الفلك متحرراً من السلاسل والقيود.

وسط تفاعل جمهور من أجيال مختلفة طغى الحضور الشبابي عليه بشكل لافت.

هل جاء دور زمن الأمان الحضاري الثقيف بعد ثلاثين سنة ؟

 

وترتفع في المحافل مناديل الرجاء التي لوح بها الأحبة، واسترجع الناس ذكريات الموانئ وتعب الصيادين وكل الأمنيات رهن بالخارج الدٌوَلي قبل الداخل الدَوْلي.

أين المسؤولون لم يذهلوا الصابرين بجمالية أدائهم التي تناجي القرى الجبلية الهادئة والمدن الساحلية الصاخبة؟.

أيقترب ختام المأساة مع "الحوار" وننفذ إلى النور أم يتوارون خلف الستائر المزركشة بالتأجيل والتدجيل ونظل أسرى الظنون والتخمينات؟

إن الشعب يقف كله بحرارة لاستبعاد شغب المِحن، عسى النتيجة مع الطائر الميمون.

 

بانحناءة حب وتقدير وإعجاب يحيي الأشخاص المولجين بالقضية على مهمتهم المستعصية  شاخصا إلى إشارات النجاة، وبين الابتسامات والدموع ترتسم علامات الاستفهام محركة لواعج العواطف ومكامن الحنين إلى الماضي الجميل  والأمكنة الأولى. 

رجوة الخير الخلاصي من هلاك نتوخى لأننا أبناء الرجاء.

11 حزيران 2006