رحلة الوطن

الأب سيمون عساف

 

بين أرزات عتاق ينتعش الفؤاد ويتمجّد الخالق بمفاتن تدعو إلى التأمل والخشوع والصلاة.

هناك الروح تناجي الله وتسبحه عبر استغراق في الجمالات الآسرة واسترسال شَرود في المُسرمَد متعالية على إنسانية أجداد الأرض وأحفاد التراب.

 لماذا نصلّي في ظلّ هذه المعمعات السياسية عندنا؟

 

بكلّ بساطة لنذكّر الناس بأن الأمر المتبقي لنا هو الارتفاع إلى فوق بعد استنفاد الحِيَل، والتحديق بالحقائق التي ورثناها.

مللنا الخطابات المُصْقعة والبيانات الفصيحة والتصريحات الطنانة والمصارحات الفارغة.

 

لم يكن اللجوء إلى الله يوماً إلا لشفاء النفوس ولحياة مطمئنة وقيامة من ذل نتخبط فيه لا للإثارة والنعرات والتناحر والانتقام.

إن الارتكاز على الأمور الروحية هو كالنذور في الهيكل، وهل لبنان سوى هيكل ينذر فيه المسؤول ذاته من أجل مشاكل أمته وقضاياها؟

كم يجب تفاعل القيمين مع شعبهم من خلال العودة إلى وجدان فقيد لم تلامسه البركة من صلاة؟ 

 

كم يحتاجون إلى نعمة من إله تلهمهم الإخلاص لخلاص بلادٍ ٍهم حُماة ُخير ٍلها لا حُميَّات شر.

هيهات لو يتَّقون بوصل مع الأعلى ويقرأون أدباء لبنانهم ويتطلعون على معاناة عاشوها في مهاجرهم والمغتربات إبان عهود الذل والاستعباد حيث لوعهم حنين إلى دار وبرَّح بهم شوق إلى ديار؟

كم وكم تغنى شعراؤنا والكتَّاب والمفكِّرون بوطنٍ لهم رزح تحت أنيار الويل والاحتلال منذ قرون تاركين في خزائن الأدب ثروات ولا أبدع.

من لنا بكسر خطايا الكبرياء على مذبح التضحية من أجل إعلاء شأن الكيان اللبناني المُمَلَّع والمزيق إلى طوائف يخجل بها عصر التمدُّن في عالم اليوم؟

رحلة الوطن في المناخات العُلى وفي ضمائر تخاف الحساب بمثابة تحليق في سماء المشرق ورشق أضواء للاستقرار والهُدى.

إننا نلحظ للصلاة مطرحاً لدى المطربين والمغنين والفلاسفة والشعراء في لبنان.

 

إن وديع الصافي وفيروز وماجدة الرومي وجبران وخليل روكز والريحاني ونعيمه وغيرهم أتقنوا فنون الصلاة في أغانيهم وأشعارهم والمقالات إيمانا منهم برسالة "الكلمة" عبر الشعر والحرف والغناء.

أوهل نجد سياسياً ًواحدا عرف ربه وصلَّى ؟

 

وهل من يصلي ويشعر بمآسي الأهل والخلان في جلسات نقاش وتفاهم وحوار يخرج  بالفشل والخيبات؟ 

أليست أناشيد السياسة أفعل حين تتكبر على الضعف والجنون والأنانيات للبقاء على الغيرية والعز والعنفوان؟

يا ليتهم ولو مرة التزموا لكانت المداخلات والغوص في الأمور الوطنية أنجع وأشجع. 

 

آه لو استعوذوا بالله من تفاهات وسفاهات ومتاهات ومهاترات رخيصة مغرضة لأطلُّوا  كالنيِّرات وشعشعوا فلك الوطن.

لو ضاعفوا نسبة ثقافتهم المعنوية، والروحية والخلقية لمنحوا من يمثلون السلام الداخلي غير القابل للاهتزاز.

هذا هو عنوان يحتم عليهم وضعه في مقدمة يومياتهم لإنهاض مجتمعهم من اليأس والبؤس والفقر والقهر والفاقة والعوز.

إن كل محاولات  في غير هذا السياق  كالطِرح الجهيض وكالجنح المهيض.

 

حضورهم يصبح أكثر لمعاناً وذات مستوىً بمشاركة الروح في المادة وهكذا من خلال أسلاك الود والرفق والشعور يتصلون بشرائحهم فيغدو التعاطي أرقُّ وأرقى والإدلاء بخبراتهم والتجاريب والطروحات أجلّ وأشرف.

 

 يجب الاغتسال من أدران  النفاق بالصلاة التي هي فرع مهم من فروع القداسة الوطنية التي تسهم في صنع كرامة الأمة.

إنها رسالة سامية تُترجم بروعة الأحاسيس الإيجابية لا بتحقيق فرقعات إعلامية زائفة مثيرة للغرائز، وهكذا يجعلون

"من الوطن حباً ومن الحب وطناً".

متى يستيقظون من غيبوبتهم الطويلة؟

 

متى سيخاطبون لبنان المحتقن بالانقسامات الطائفية المرة بلهجة الإلفة والورع؟

أما يكفينا أن المنطقة العربية ملتهبة بظلم الدكتاتورية وجَورها وتطرف المتدينين وإرهاب الحمقى؟

لا نزال على الأمل في إعادة الحياة إلى الجسد الوطني الغائب عن الوعي والقابع في سبات عميق منذ عقود.

هذه المرحلة هي مهمة من تاريخ لبنان والمنطقة، وكم تتطلب استفاقة كاملة من جانب الماسكين زمام الأمور في الدولة للنهوض من الخلفيات والتخلفات المريضة.

إن انغماس الحكام لِذاتهم في لذاتهم، وإغفالهم لمصالح شعبهم هو ارتكاب مجزرة.

 

لبنان يئن من توابع الحرب التي شلَّعت أوصاله دون أن تلوح في الأفق بوادر لتجاوز ما هو عليه، رغم المحاولات المضنية التي يبذلها وطنيون شرفاء.

نرانا ضائعين في رحلتنا التحليلية بين العمل السياسي وبين السلطة التي يستخدمها الحكام في إدارة شؤون البلاد.

ولأن الدول الشمولية تعتمد على مسؤوليها في الكبيرة والصغيرة. 

 

فالدليل على فساد النظام إذا يكمن في الممارسات الحالية الرديئة التي تقتضي الصلاح للإصلاح.

 

كدنا نصبح شعوباً متأخرة بلا حقوق ولا حريات لولا الرجاء الواعد بعدالة آتية على طريق الأجيال القادمة.

رحلة الوطن حتى الآن ممتعة على مضض وغصص لذلك نردد مأثور القول:

مشيناها خُطىً كُتِبَتْ علينا     ومنْ كُتِبَتْ عليه خُطىً مشاها

ومن كانت  مَنيتُه  بأرضٍ      فليس يموتُ في أرضٍ سواها

 

22 حزيران 20006