إليهم

الأب سيمون عساف

 

ليت لي أن أفجّر العروش في أحدى مدن الآلهات لأنتقم من ساسة بلاد تتحرك على خلفية تعاسة متصاعدة في صالة حوار فنية مليئة بالمنحوتات والتماثيل. يا للفجيعة. يا أبناء الويل الممتد من القلب إلى الواقع!

وحيد أنا الآن تتوسد الغربة موانئ بهجتي، وتحاصر أحساس الفرح في روحي، تستأصل أذناي فلا أستطيع سماع صوت سوى العويل. صحافة تبكي بحرقة متأرجحة ومتداخلة مع صوت الخوف المرعب مع نشيج لطفل رضيع يتلوى بتهادٍ حزين.

ساعدوني أحدثوا جلبة ما لتخرس ولولات الندابين في رأسي على أرز مريض.

إن التخمينات التي أنحتها كل يوم تحتشد في البال، كل ليلة تجتمع على سريري البارد بالصمت والفراغ، ويطالبني الشهداء بالثأر والثورة.

يطالبون لعظامهم بالبعث والدينونة ولآذانهم بالإصغاء ولأجسادهم بالحياة لاسترجاع كرامات.

إنهم الآن في خاطري ينصبون لي محاكمة، يفتتحون برلمانا يعلقون عليه شعارات العدل والحرية والمساواة والشرف.

ترتفع أصداؤهم، يطالبوني بالقصاص. صيحاتهم تتعالي غضبا ونيرانا.

وخوف المشاعر يتصاعد ليترجم قلق المواقف، يتأمل التماثيل الحية واحدا تلو الآخر في حوار عقيم.

أرجوكم لا تحرجوني أن أكرهكم لأني أحبكم، لأنني أريد أن أخلق قادة وزعماء تتفرع من أناي ومن قناعاتي لولادة وطن جديد مفضل فاضل، تشبهني وحدي، أحبها تساندني في الضيق وتفكر بالخلاص والقيامة والحياة لبلاد تستحق العطاء لأنها منبت العظماء والعظائم.

لعلني أشمت لأني أقتص ممن أكره في أجسادكم الحاملة مناطيدا هوائية.

ربما أرسلتكم السماء لقهر أناي وتعذيب أخلائي.

أردتكم رجالا لأخلّد مَن أحب مِن أجيالنا القادمة.

ليت الجميع في مساري يفعلون تماما كما أفعل.

لماذا تتحزَّبون وتواربون وتؤجِّلون وتدجلون؟

هل لخلق  أتباع وأنصار عاجزة تنفذ لكم مشيئاتكم فتسوقونها كالقطعان؟

أرثي بحسرة لأبدع الفرح وأُحدث التغيير، لأرى أحرارا لا تموت، وقصيدة روعة، ونصا مبتكرا ولوحة ساحرة.

أنا أبوكم بالروح يا أبنائي البررة، لا تتنكروا لي وللسلطان. أوقفوا هذا المد من السخط والترجرج والضياع.

ارحموا ما بقي من مناعة في الكيان.

اسندوا وهني بهدي أفكاركم في خنق العصبيات.

إن التنافر واضح.

لا، لا أريدكم  على مسافات من بعضكم.

أنا لا أشبهكم.

أنتم من رحم أصابع السياسة الرديئة.

من رحم ذاكرة الحرب والمرمغات العالقة أثارها على ثيابكم.

لم يا سلالات المعارك الطاحنة خلعتم العصابة والقناع.

وخرجتم من الشرانق المعتمة.

أرفض أن تحتجبوني بها.

ما هذا التشتيت لأجزائنا الملتاعة وترك أرواحنا محنطة.

هل تقررون نيابة عنا وأد حرياتنا وحركاتنا؟ من وهبكم هذا الحق؟

حق التناحر والتكاذب والفزع من المواجهة، وحق الحجب والتحجيم وتفصيل النواميس والجواسيس.

أيها المسؤولون الضعفاء أضعفتم بوهنكم قوانا، وحددتم مهامنا وفق رؤاكم لكنكم لم تكونوا شيئا، مجرد حجارة وبيادق.

لقد جعلتكم المواقف حقائق عارية في تكوينكم بعيدين عن ذواتكم.

يبني الشاعر من الكلمة الوحيدة في زحمة المعاجم نصا مكتنز الرؤى والدلالات، والرسام يخلق من جسد اللوحة البيضاء رحما لكائنات عديدة، كما تربي المرأة قطعة

اللحم لتجعلها رجلا أو امرأة، هكذا كان ينبغي أن يكون الوثوب الطامح جزاءً منكم لصناعة الوطن.

لقد سفحتم براءة شعبكم. جمدتم رؤاه والقراءات.

نسجتم من أحزانه مناديلا لدموع الأيتام ومن أنينه خلاخيلا لمسراتكم.

كان يمكن أن تكونوا أنبل وأكمل.

ماذا تقول الشوارع والعمارات والجبال أو أي أمرٍ عنكم ينطق بالإنصاف؟ 

لا غفران بعد الخيبات يستوعب لعنتنا يا أهل الغموض والزيف، تجمدون اللحظات والأفكار، تخدرون البهاء بالظِل واللفظ  بالإبهام. قساة، تحتكرون الجمال في قوالب حروف ناقصة مبتورة.

وتجمدون الزمن بأصابعكم. تمضغون الذهول، وتتسولون الكآبة والموت والعبث.

أدعياء الكلمة والقيم والفهم لكنكم مصابون بالحكة، تبدؤون بالسير نحو فخاخ التملص والتأجيل، وحين تحاصركم حكمة الأذكياء تتقلبون كالثعابين، تتمنون لو تتزملون بأردية الأبرار لتستروا عاركم المخجول وتلقونه في مستنقعات النفايا المنتنة.

إجعلوا منا بقايا الضوء الموزع على سكان البسيطة. هجرنا الظلمة وسكنا أسطح الأشياء.

لا نتقن سوى الغناء  واستندنا لقوارير الدهشة.

نحن محترفو صيد المعاني والكلمات، لكنا أيضا أحفاد الجزع الجريء.

يا أبنائي الأحياء الميتون الفصحاء، نحن منذ البدء محكومون ببشاعة مشاهد الكرنفالات السوداء.

أنتم يا سدنة الإختلاف المؤطر الرؤى بالرغبة في الظهور، قواد تلبس جلودا ملونة وتزعق بغباء، دُمى ترقص على مسارح الفوضى وتتلذذ ببهجة الانتظار، تتلمظ الحضور الدعائي للجرح.

أنتم تماثيل تتنفس، عليها أن تكف عن المجاهرة بأفعال النفاق والضجيج.

عرفنا أن العدل كائن سماوي لا يسكن الأرض لِذا نحن متعبون.

أسعفوا وجعنا يا سادة الفشل، أدفئوا بردنا بشيء من الدفء، أليس هذا مؤذٍ ومعيب؟

يا صغار الوجع المشتعل في غابات الدم وفوضى الأحاسيس المتبعثرة، موتانا يغادرون مثواهم المغدور والضحايا يرفعون نعوشهم في وجوهكم، يحتجون على ساعة الخلق الصامتة.

على مساحات قبورهم ومسامهم، وعيونهم، لا قناعة ولا عرفان، آه من هذا التعب الثمين، لقد ساعدت الضوء ليستفحل في غابات الظلمة الكونية، لقد علقت مجازر وهمكم الخرقاء على جروح الغيب النازفة وقولبت كل نثارات الفرح الأجمل والدمع الأوجع في بؤر السكينة الهاجعة.

بحق الرحمة العليا، كيف أعتق شعبي من فتنة الصخب، أنه لم يصنع ذنوبا لم يشهد فتنة خلقه، لقد تأوَّهت لوجعه ومآسيه، زرعتم خشونة الشقوق في روح لا تملك سوى خيارات الحزن، تمنيت لو كنت حية تلحس نزيزها حينما تثخنها الجروح، وتنادي على من تحب حين ترغب فيه بلغة لا يعرفها معشر أهل الجور.

وددت لو عمرّت المدن الضائعة، وسخّنت عصارات الأشياء على لهيب العواطف والحنين.

أمتي تنشد الشك أغنية للمساء وتنتهج نهج السفر الملغم بالحذر، وبدوري وليّت السماء عليكم، ملحدون أدعياء العقل والوعي، أدعياء الرقة والشعور، تتفننون في جَلد ذواتكم وسلخ كل من يقترب من الخلاص.

لا تجأرون برشق الأحذية في وجوهكم، لا تظهروا شخوصا مدهونة بالطين. لبنان عاطفة مجتزأة من غيمة مذعورة، وأنتم رائحة فوضى وعفونة وجنون، هكذا جعلتموه.

أنتم صرخة مخاض حبلى بالوهم، أقتدُّ من ضوضائكم ترانيم النهيد الأرعن.

أعانق في أحداقكم نظرا غيبيا يدفعني كي أمشي. بكم لن ندرأ الملح المتكلس في وجه البحر على امتداد الحلم داخلنا، 

يا أنتم المشاكسون القتلة، بكم نجاهر بتورطنا في جزع الفتنة ونعلق أرواحنا على أوتار الرعشات حين تحاصرنا غيلان الخارج.

كل ما أفهمه، أنكم مشوهون بوعيكم، متقرفصون على مداخل المشاهي.

تدعون النبوة ولا ينبغي لكم إلا الموت لن يحتمل حماقاتكم غيره. ولن يواري سوءاتكم الكثيرة غيره.

ولن يخفف من كل الضجيج المتعالي داخلكم في زمن الهوامش واختصارات الله والدين والحب وكل الأشياء سوى ضمير مستقيم. لا تدركون إلا سفسطة العبارات المجوفة الأحشاء، تلصقون الشعارات على الصدور، وتعطون تأشيرات دخول وفق المنطق المغلوط.

هل تتفاوضون كقيادات ملتئمة على مشارف السلم على هدنة عرفان ووقفة غفران؟

كفانا اللف والدوارن، حررونا، حرروا أرواحنا من جنونكم وعبثكم وفراغاتكم، دعونا نكون أكثر وجودا وحقيقية.

دعونا نتكاتف في الطرقات ونتصافح. دعوا الورق يعانق الأحلام أو تأكله الحيوانات الجائعة.

دعوا الحجارة تبنى بها البيوت لتدفأ القلوب وتشهد لحظات الدفق.

حررونا منا/منكم.

ماذا أفعل كيف أقذف صمتي في وجه كل هذه التفاهات والكفر واللاعرفان.

آن لأرضنا أن تغتسل من ضبابية الوجع ولأمتنا أن تلبس أرجوان الآلهات الفينيقية وتسعد دولة مستقلة تحت وجه الشمس.          

17 شباط 2006