إفلاس وانكسار

بقلم/الأب سيمون عسَّاف

 

ما كاد لبنان ينتهي من حمامات الدم حتى ابتدئ بحمامات الدموع.

مزقت العسكريتاريا المجرمة أرضه والآن تمزق السياسة السفَّاحة شعبه.

كان البارود والرصاص يفتك بهيكليته والبُنى، أما اليوم فالتشرذم والغلاء يقضي على مقومات الكيان، فيتداعى كل ما بقي للأرز من بنيان وعمار. 

ما هذا اللغط وتلك الفوضى وذاك الافتراء؟ 

أيجوز بعد كل النكبات والنكسات التي بها ابتلى أن ينتحي عوض أن يتنحَّى مجلس نوابه زوايا المصالح الشخصية والغايات الرخيصة وأفاعي الصحاري والجُزُر تنفث سُمها الزعاف؟

من يا ترى لديه الشعور بآلام الناس وأوجاعهم و"تعتيرهم" والخيبات؟

كم من المرضى يتأوهون والأدوية فقيدة والمستشفيات مسالخ؟

 

كم من الأولاد من دون مدارس لأن الأقساط غيلان وحيتان؟

كم من الفقراء مذلولون لأن الرغيف غلت فأصبحت الكرامات رهينة الذبح وضحية الحاكمين؟ وكم من الإدارات والمؤسسات تنهار بسبب النهب والهدر الآخذان كل مأخذ من دون حسيب أو رقيب يردع الفسق والفساد؟

 

والمخجل أن الدولة تزيد الضرائب بقيمة تصاعدية وترفع الدعم حتى عن لقمة الخبز.

هل هذا الإفلاس وهذا الإنحطاط الماشي بجنازة المواطن والوطن إلى الآخرة مقبول فعلا في بلد يصبو إلى الحرية والانفتاح والسيادة والاستقلال؟

وممن يُطلب اللبنانيون الحق والماسكون ذمام الأمور يضربون عرض الحائط غير آبهين بالانهزام الراهن لا مبالين بقهقهة الويل والجوع، والكوارث ترقص على تعاسات المساكين والمغلوبين؟

 

من ينقذ إنساننا من مقابض الجشع والأنانية والطمع والغطرسة؟

إلى أين مسير المصير والقفز في المجهول لعبة الأكثرية المسئولة عن هذا التقهقر الذريع والاندحار المريع؟

ماذا يستفيد المواطن من الحُكم القائم حتى تُفرض عليه الضرائب التي تُثقل كاهله والقدرات؟

والله عيب فاضح هذا الأسلوب الوقح الذي يتعاطى مع العباد بشكل ابتزازي واستفزاز مقيت.

 

هل ممنوع أن يكون شعبنا من النوع الطيب أم ثقته بجزاريه جلاَّس الكراسي والعروش تستوجب هذا القصاص الصارم اللعين؟

أهذه هي أخلاق وشيم ممثلي الشرائح عندنا؟

بأي عدل يتربعون على سُدَد السؤدد ويقبضون الرواتب وأمام النواظر يسرح الذل والعار يمرح؟ ماذا يقول الضمير وأي نعت يخلع الوجدان على هذه الطغمات الشيطانية المرعبة؟

 

هل هو عصر الأبالسة الواقدة نيران غضب جهنمها انتقاما من أبرياء الجنة المشرقية لبنان  تعويضا عن فشلها؟

هل لو أسدينا رأينا المتواضع سيكون له الوقع في آذان تصغي وتسمع أم يطربها العويل وتطربها الولولة؟

إن هذا الصراخ المتعالي ما هو إلا دفاع عن حقوق المحرومين والمُعدمين والقابعين في زنزانات الفاقة الضارية والاحتياج المدقع.

ومن قساوةِ السأم نصيح: آخ منك يا بلدنا!!

 

ليت الذين ينعمون بالقصف والبذخ الترف يذوقون حرقة الفقر وحسرة البؤس ولوعة الحرمان علهم يعون حجم المعاناة. لا يحس بالأسى إلا من جلدته المأساة؟

كفى يرسف اللبناني في دياجي الانتظار واليأس ينشب مخالبه في لحم جسده والعظام.

إن المسرحية الملهاة تمتص بقايا الحياة السارية في عروق أهل بلادي، والتخدير يبنجهم بالأمل الوهمي الكاذب.

هناك ثورات يجب أن تشتعل للإصلاح تكون نتيجتها انتخاب نواب جدُد بمقتضى قانون مُنصف يوفر للجميع المساواة والتمثيل الصحيح.

قانون اقتراع يشمل سائر الفئات والإثنيات لا يطاله نقد ولا يشوبه غبار.

 

أجل، أن الوضع كما هو بمآزقه والأزمات ذري خاضع للاختلافات والرفض والاعتلال. 

لذلك بات من الضروري إعادة النظر في جدية الأحوال المتدنية بمعزل عن هدف زيد ومقصد عمر في المكاسب والحُصص.

ولى عهد الوصايات والمحاسيب وتجلى فجر عصر طالع من رحم الأحداث والحروب.

 

أما آن الأوان لكسر شوكة المتعنتين الساعين إلى الهيمنة والسطو تحت عنوان السلطة والنظام؟

لا لزوم لحضور قوي أو ضعيف في مجتمعنا، وحده لبنان يجب أن يكون الأقوى في شتى المقاييس والمعادلات.

وحين يسري مفعول هذه النظرية المنطقية المُفحمة، ينهض الوطن مُستعيداً حيثيته نافضا رماده منبعثا من جوف الليل المظلم الظالم.

لا خلاص من دون الرجعة إلى العدل الكفيل بتسيير الأنام سواسية.

 

هل يتحقق الحُلم ونرى قبل الرحيل قيامة لبنان من مدفن القبلية المتخلفة صاعدا إلى أعلى مراتب الفخر والتقدم  والبحبوحة والازدهار.

أما إذا ظلّ على هذا المنوال فلن يدوم منه إلا جثة هامدة لا حراك فيها ولا نَفْسٌ ولا نَفََس.

عُد يا زمان إلى الماضي ورُدَّ لنا                     أمساً غلا وحكايا وعْدُها ذممُ

نحن الألى عَلِقَتْ في بالنا صُوَرٌ                     عن مجدِ أمتِّنا فاهتزَّت الأممُ

إن لمْ نَعُدْ شُرَكا فالعيشُ يلفُظُنا                      والموتُ يندهُنا والقبر والرممُ

ربَّاهُ أرجِعْ إباءَ الروحِ في وطني                     تَعتزُُّ أرزتهُ والشعبُ والقِممُ

 

10 أيار 2006