عيب وريب

بقلم/الأب سيمون عسَّاف

 

احترام القناعات والديانات والمذاهب عندنا شكل من أشكال الحرية. كل إنسان حر بما وبمن يؤمن.

ولكن العيب والغلط هو فرض ما يقتنع ويؤمن به على الآخر، لعمري، هذا أمر مستهجن بدائي معيب.

لا أظنني أغالي إذا قلت أن هذه الممارسات ما زالت تحدث في لبنان ويا للأسف وفي المحيط المشرقي.

بثَّ ونشر الإعلام المنظور والمسموع والمكتوب إعلانات مرسومة عن الرسول محمد.

مسرحية الحدث دارت فصولها في الغرب أو في أوروبا. ثارت حفيظة المؤمنين برسالته، وهذا أيضا أمر نستوعبه، كما نفهم ردود الفعل على هذا السلوك المهين المشين.

لكن الشيء الذي لا نبرر حصوله هو الانفعال والأذى والتعدي الذي شاهدنا تمثيله في "عاصمة الدنيا بيروت" وبالحصر في "الأشرفية" منطقة المسيحيين .

نسأل أصحاب الشأن هل في هذه المعايير تؤثرون على بلدان نزلتموها ضيوفا وحرية الرأي والتعبير فيها شعار وعنوان، وبالتالي أنظمتها علمانية لا تهمها الآخرة والحساب والسماء؟ وفي كل حال نحن مع التظاهر ضد المساس برموز دينية لأيٍّ كان، لعلَّ هذه المدنيات الفاحشة تعود إلى الإيمان وتخشى ربها الذي كان لأجدادها بالأمس القريب.

لا عجب لدينا، لأننا كمسيحيين نستاء جدا من كل ما في الغرب من وثبات فسق وخلاعة وكفر وفساد يصدّره فنستورده لأجيالنا الحبيبة. ليت المسلمين اكتفوا بترجمة استيائهم في الدانمرك، لكان هذا التصرف مشرِّف لا عيب فيه بالنسبة لهم ولا ريب.

ولكن تفجيرٌ لخمس كنائس في العراق دون أي سبب، وهجوم غير مبرر على المسيحيين في بيروت عاصمة لبنان، يُقرأ في كتابنا استهداف لشعب المسيح.

ماذا ينفع الاستنكار في بيروت؟

وهل يجوز لنا التحرك تحت ظل أشباح تحوم في الوطن لم تنكشح حتى الآن؟

أين الحكمة من هذا التدبير لتظاهرة في مثل هذه الظروف في لبنان وخاصة في بيروت وبالضبط في أحياء المسيحيين؟

والتخمين الأفظع أن السلطة الحاكمة عرفت مسبقا بتحرك مشبوه وبطوابير مقتحمة ليس بالإمكان مقاومتها والتصدي لها.

كان الأجدر تأجيل هذه المسيرة نظرا للأخطار المحيقة والمعيقة وللتعرّض الذي سيلحق الأذى باللبنانيين المسيحيين.

ما نفع الاستنكار والضحية سقطت؟

ومما يخزي أكثر، هو مبسم الرعاة وكأن لا مأساة حلّت ببعض القطيع.

أستغرب كيف يضحك الرعاة بارتياح بدلاً من ارتسام لون الأسى على الجباه!!

مسكين شعبنا مضروب بمسئوليه على كل صعيد ومستوى.

إن ما حصل في الأشرفية لا يثير فقط الغضب بل يشعل الثورة بحنق لا يُطاق.

من تراه يعوِّض على الناس، من يتألّم معهم ومن يرتاع قدَّهم ومن يلتاع مثلهم؟

أنه هولٌ مرعب مجيء يأجوج ومأجوج إلى حمانا ومعاقلنا.

كان الإنذار خطيراً، وهو لا يقل خطراً عن استهلال الحرب مع أهل فلسطين واحتدام أوارها مع جيش الشام.

على من العتب والدولة مفككة لامتناغمة متهرئة؟

أعتذر لأني جلست أكتب للأجيال عن مأساة وطني. وللمرة الثانية تحضرني كلمات المثلث الرحمات البطريرك بولس المعوشي، يوم كنت أخدم له القدَّاس في صرح "بكركي" وأنا من الشباب على المطل: "صلُّوا حتى تخلّصوا بريشكم يا ابني، مستقبلكم أسود وأنا لن أبقى حيا  لأحميكم". وتطن العبارة في الآذان فينداح الرنين على مدِّ المسامع ووسع البال.

منذ ذاك عرفت أن الأوضاع غول وعنقاء. آنذاك استخلصت أن رجل الدين هو الأولى بتعاطي السياسة لخلاص قطعانه من الذئاب. إنه الراعي الساهر المسئول في السرَّاء والضرَّاء، وهو أنزه وأضمن وأعلم وأأمن من العلماني بما له من مخزون قيم وإيمان واحترام لهوية وتراث ولأنه ينطلق من روحية تاريخية للآباء والجدود ومن قناعة الأب الروحي  للجميع والجميع أبناء.

رجل الدين يوبخ على الخطأ ويرفض الغلط في كل آن وأين كما قال بولس الرسول:

"وبِّخْ بكل سلطان، لا يَستهَِنْ بك أحد، تكلمْ بهذه وعِظْ".(تيطس 2:15).

إنه يحمل هموم وغموم وشؤون وشجون شعبه الموكل به، فالكهنة هم وكلاء الشعب.

وما يعني نداء:"يا أبونا" إلا الأبوة الروحية للإنسان، الذي عليه إدارته بسياسته الحكيمة، والعناية باطمئنانه وسلامته وضمانة أمن حياته.

لِذا كثيراً ما يطلق البعضُ شعارات فارغة مفادها أن على رجل الدين عدم التعاطي بالسياسة.

يا للجهالة، أن هذا قولٌ تافه أبله! لو كان فعلاً هذا البعض يفهم ما يقول لكنا نجرؤ على الدخول معه في حوار، ولكن للأسف لا يدرك ما يقول. إن تحديد السياسة هي من ساس أي دبَّر الأمور أو رعى بمعنى ساق أمامه القطيع، ثم ارتقت الكلمة تدريجاً إلى المجتمع للإدارة وللتنظيم. فالذين يعتبرون المسيحية ديانة ما ورائية فحسب ليسوا محقين.

إن ملكوت الله لا يكون وراء التاريخ وفوق العالم. فالتاريخ والعالم هما مكان تجلِّي الأبدية، ونحن لا نستطيع أن نهرب من التاريخ ولا من العالم.

دعوتي إذاً إلى طواويس نافشة ريشها بفلسفة فارغة مرامها تعليم النسر فنون التحليق، الكف عن رشق ألفاظٍ جوفاء عاكسة صورة المتكلم، هذه هي حالنا مع الأحداث الماسكين الثقافة من شعر أذيالها والسياسة بالذَنَب.

أردُّ الشبَّاك مكتفياً بهذا القدر من الإيضاح منعا للالتباس، والِجاً باب سياسة لبنان الملتفة الأدغال بتشابكها.

أتمنى أن تعوض الدولة على كل متضرر من دون استثناء، لأن هذا الاقتحام اللعين للعرين يدق مسماراً في نعش الطائفية وينذر باستحالة العيش المشترك.

6 شباط 2006