عيد الميلاد

بقلم/الأب سيمون عسَّاف

 

أيها السِرُّ الإلهيُّ غُلام ْ                       جئتَ  تلقي فوقَ دنيانا السلامْ

مهدُك الطاهرُ مبكى الضُعفاءْ          أطفىءِ الحربَ اعترى الأرزُ ظلامْ

شعبُك الباكي يناجيكَ استَجِبْ                 نَوْحَ شكواهُ وقد غصَّ الكلام

هل تُراك الضوءَ ترضاهُ خبا                 عن عرينٍ كان للشرقِ العلامْ

يا وليدَ المذْوَدِ استقوى البَغا               هلْ  لِسيفِ الشرِّ بالخيرِ انثلامْ؟

أنت لِلْحُبِّ المسيحُ المرتجى              ما لِجُرْمِ البُغضِ يستذري الملام؟

ما مجوسٌ ما رعاةٌ قد أتَوا                      باللُبانِ، المُرِّ بعد الإعتلام؟

لك يُهدى كلُّ إيمانٍ شدى                    من فَمِ الإنسانِ نِعْمَ الإستلام!!

 

ذكرى ميلادك والألفية الثالثة في المستهل، تحملنا مثل هذا الليل إلى مذودك في بيت لحم. هناك كان الحدث اللافت، عذراء بتول، صفيٌّ بار وطفل - إله يتأنَّسن ضمن مغارة نائية ترتدي ثوب السكون. رأفة السماء كوَّنت عائلة إلهية من أقدس القديسين على أرض الأنام. هل من أمثولة أشرف من اتضاعك الذاهل يا مسيحنا يسوع الوديع؟ كفرت بالقصور وبغناها، لأن أنياب الفقر المدقع تعض بَطَرَها المرذول وفخفختها الفاجرة. ولدت بين البهائم فقيرا لتصفع بغناك كل رأس يتشامخ ضد معرفتك الكانزة كل الثراء. ميلادك الأغرب صفع المرائين بالاستقامة وخبط الملحدين بالخيبات. إنك فوق مساحات المقاييس وأعلى من قواسم المعادلات لا بل أنت هذه وتلك وحدك من دون غيرك.

 

أقف في هذه الذكرى متأمِّلا بمجد لاهوتك الجبَّار مندهشا بكمال ناسوتك الأسمى. نعم أنت رسمت خطاً بين الأبهة والدعة.

ميلادك السيدي في حضن الإنسانية الغاطسة في دياجي مآسيها، قوَّض بوهج أنواره الخالدة عروش الظُلم، حطَّم كراسي الطغاة، أرعب تغطرس الملوك، أناخ رقاب الأباطرة ودحرج تيجان السلاطين لحظة حلوله الفاصلة في مجرى الحضارات. جئت تحرر هذا العالم التائه من براثن الأبالسة الشرسة المعدوم من مخالب الخطيئة-المفترسة. يا طبيب الطبيعتين-الروح والجسد، يعقل الألسُن نزولُُك من عُلاك وتفحم  الفلسفات تعاليمك.

دع حقارتي تسترحم عظمتك بخطاب عبد في حضرة سيِّد. لَواك عطفك على النسل الآدمي فجسَّدت ذاتك بصورتنا لتمنح الخلاص المؤبَّد من هلاكٍ وزوال. لا عقل ولا يقين يستوعب سخاءَك والعطاء اللامتناهيين.

 

 إسمح أيها السماح الأكرم، يناديك ترابُنا الآثم مستنجداً بغفرانك. كم نرشقك بالشوك بدل الورد ومشيئتُك الشافقة تفسِّر لنا معاني الإنعطاف وتترجم لنا لغات المحبة. لا لن نستمر من دون إسعافك لأن جهالتنا أقسى من مسامير أخشابك. بين أزلك وأبدنا أنت مُسَرْمَد، خُذْ بأيدينا لنردم فجوة العدم معانقين مشارف فردوسك. ينهشنا الخجل من عفاف زنبقك ويخزينا الحياء من تلألؤ وجهك المتألِّق.

 

يُطِلّ العيد هذا العام والويل في لبنان يرضع من جلودنا بمجاعة الغيلان. هنا تفجير مجرمين كالذين عليك افتروا يُسقط البراءة ضحية، وهناك اختزال لشعبك المؤمن الآمن إلا من مجازر جلاَّديك وأعدائك، وهنالك مقاصد لإبادة تلاميذك ومُريديك وأخوتك. بالشوق المحرور نناشدك من بين الأهوال تعذَِبنا بتَدَافُعِها  الزفرات.

نعمة من فوق استمطرتها أيها المعجزة القدوس الأعظم، خالعا مشاهي الطين بعزم مِنَ الصخر أعند، بين وداعة الطفولة ويفاع الفتوة وشرخ الشباب طويت المراحل، محدِّقا خلف الضباب معلقا مُنية َعينيك بالأبقى، رائيا كل جمالية البهاء طارحا دون مداس قدميك منازع التراب، يشدك حنين إلى سماء الروح متجردا عن مغريات السراب لا يثنيك اضطراب على أرضك فكان الله بعونك.

 

 قصدت أن تنجح فنازلت أخصام رسالتك، ورغم عنف الصراع أخبرتنا بجسدك المطوَّب أن بالإمكان كسب المعركة. من قال إنك لم تكن إنسانا من لحم ودم وعظام، أو إنك لم تُجَرَّب وتعاني وتنتصر.

 

عشت بيننا ولكن ليس مثلنا. تخِذتَ ما لنا وأعطيتنا ما لك فلم ترتكب لا كبيرة ولا صغيرة، بينما نحن نولد خاطئين وكذلك نموت، لِذا وضعت جنب الخطيئة مغفرة. عرفت أن تدق أبواب الحق وتلج أعتابه لأنك كنت صادقا مع ذاتك قانعا بمشروع خلاصك واعيا للنهايات غيرَ مبالٍ بعراقيل المطاف. نعم كنت أمينا للعهد وريشُ جناحيك طريءٌ بارا بالوعد كرهاً للخيانة، لا يعنيك من الفناء دِفءٌ ولا برد. لم تشاكس ولم تعاكس لأنك أرفع من تفاهاتنا، هيهات لو نتعلم ولو واحدة لنمسك بالحقيقة التي دعتنا فنلحق بك ونقتفي خطاك ونتخذك قدوة.

 

ننشغل بالعَرَض لاهين عن الجوهر لأننا نخاف من المواجهة فتنهرنا. إلى الآن لم ندخل أقداسك حيث أنت تنعم بأنوار الغبطة. تكتنفنا الظلمات وما زلنا منصرفين عنك صارفين النظر عن هنيهات الرحيل الحاسمة. جندلنا اليأس من حالتنا ومن حالنا. نستحلفك بطهر قلبك أن تنشلنا من تمرغنا بالسفاهات، نستصرخك بطاعة روحك أن وتدلنا إلى ديار الآب مطيعين، نسترحمك بفقر قلبك للبغض أن تُغنينا بالمحبة لك فما إلاَّك زورق نجاتنا.

 

 متاهاتنا ضَياع ومهاتراتنا ابتذال لأمجادك. رُدَّنا للعزِّ الذي خسرنا فانكسرنا حتى نسعد في أخر المشوار بلقياك ورؤياك وعناقك.

هبنا أن نولد ونتجدَّد فيك فنعيِّد ذكرى ميلادك، ولا تنسَ من هُم فوق الأرض وتحت الأرض في يوم العرض محبيك وأصحابك.

 

25/12/2005