أبار عنجر، قبور اليرزة، والصمت القاتل!!

بقلم/الأب سيمون عسَّاف

 

حربٌ سقاها الدم البريء حتى إرواء الظمأ، فبكى عدل السماء من عويل ضحاياها، وشهداؤها نوعان في مجتمعنا: أحياء وأموات، والقتلة متعددو الوجوه يا بلادي. لست ممن يُصنِّف المجرمين لكن ممن يؤمن بأن شعوذاتهم والشواذات الجزَّارة تدل عليهم وديَّانة لهم طال الزمان أم قَصُر.

 

ها هي المشاهد تتوالى على مسرح الحدثان، تتراءى بأشكال يمقتها النظر ويرفضها السمع. والجثث التي عثر عليها في عنجر أمس وقبل ذلك في محيط وزارة الدفاع دليل دامغ على همجية المذابح الوحشية التي صُوَرُها لا تزال حية  في ذاكرتنا.

 

لا لم يبرد رنين الأنين الصارخ من سنين فيستفيق الحنين إلى أحبة ماتوا من دون ثمن. لماذا كانت تلك الهجمات الطاحنة وماذا بقي من شعارات القضية الشريفة التي استرخص الأشاوس المهووسون الفداء في سبيلها؟

 

تتعالى من دون خجل هنا وهناك أصوات صيحاتها تخدِّش الآذان تجهلها البلابل والأبوام. ثم تلوح أشباح ألوانها تجرِّح العيون بهيآتها الذليلة المُكْرِبة. ماذا جرى عندنا حتى صحا أولئك المرتدون إلى جادة الصواب بعد طلاق مؤذٍ، رذيلٍ ومعيب. كان الضمير في إجازة حين كان العذاب يسلخ جلود الناس عن عظامهم وممثلوهم يقهقهون على زفير أوجاعهم، ننعتهم بأنهم خونة جُبَناء. أين كان الدفاع الجريء عن مقهورين وموتى تركهم القيمون والمسؤولون عرضة لأنياب الذئاب الناهشة والضواري المفترسة الكواسر الشرسة؟

 

أية معجزة حصلت حتى انبرى الفطاحل الغيارى في نهاية مراحل جلجلة صليب الآلام لإظهار حماسٍ رسوليّ وإخلاص نبوي؟

أوَّاهُ يا أمتي الأنذالُ في وطني   عادوا إلى ثرثراتِ الأمسِ والوخمِ

إلى متاهات أقزامٍ تُسَفِهُهم        والويلُ منَّا بلا عُرْبٍ ولا عجمِ

 

على هذه المنعطفات الفاصلة والتعاريج المزالق من تاريخنا، ينادي الوعي الدَيَكَة للتخلي عن الصياح في غير وقته وللاعتراف لبطرس بالأولية لإتمام الرسالة. أعتقد بأن اللبيب من الإشارة يفهم ومرامي الكلام بأبعاده. نعم نحن في مأزق حرج وفي أزمة خطيرة، هل نستكمل التناتش أم نصحو لكي نلمَّ شملا بديداً وشتيتاً وننهض به بانتفاضة على أغلاط كلَّفتنا غاليا؟ كفانا مهاجرين وفقراء ونزيف ويأس وإحباط، رحمة بشعبٍ حمل الهوان وعانى الأمرَّين طيلة ثلاثة عقود. لا يجوز ولا يحق بعد هذه التجاريب القاسية أن نعود إلى ارتكاب الأخطاء المميتة واقتراف الآثام الحارقة هويةًً وتراثاً ومخزون حضارةٍ عريقة تلعن جُناتها والملحدين.

 

أهلنا ينتظرون منا اتحاداً متماسكا أقلَّه في هذه المرحلة الدقيقة من تحولات جذرية قادمة عليها منطقة الشرق الأوسط برمته. إن المهاترات والأنانيات لم تعد لصالح أحد من الطامحين، لذلك بمعزل عن المتاهات ودهاليزها، مطلوبٌ أن نولِّي الأكفَّاء فعلاً بعيدين عن نزوات عاطفية وغرائز وميول لا تؤدِّي إلى القمم بل تودي بنا إلى الوديان. لا تنفع الحركات التظاهرية والهوبرات للزعماء في هذه الظروف المؤلمة وكأننا لم نتخذ من الماضي دروساً. وطن الحرية الأخير في الشرق هو لبنان ويجب التطلع من هذا المنظار إلى مسار الأمور وسياقها غير مبالين بتركة الأمس القريب المُخجلة.

 

إن مجهر الأجيال محدِّق بنا يهزأ بما فعلت أيدينا حتى اليوم، يلعن قوى الاحتلال الهمجية، قبابيط الداخل والخفافيش التي نكلت بأحرارنا مدنيين وعسكرين، ويمنح السانحة لربما النهائية لتدبير شؤون البيت بحكمة وفطنة ودراية ليس لها نظير. ماذا ترانا سنفعل منذ الهنيهة وما هو الطرح والمشروع؟ إنه غير مسموح السلوك بأسلوب عشائري مافياوي فوضوي لا يعرف النزاهة والنظافة والشهامة والانضباط والقراءة الحاذقة والرؤيا الصائبة.

 

أخاف على أمتي من التشرذم والسقوط مرة أخرى في الهوة السحيقة التي يستحيل بعد الآن الصعود منها والخلاص من دياجيها الدامسة. كل تفكير لا يصب في مصلحة أهلي الكادحين ومستقبل أجيالنا هو سفيه تافه إذ لا ينفع الندم بعد فوات الأوان. وحتى لا تلعننا أرواح الشهداء والجنود الأبطال وتغضب منا السماء دعوتي إلى الجميع أن يدينوا ويستنكروا بصوت عال مدوي إجرام وكفر أولئك التيمورلنكيين وصبيان الداخل عندنا من طرواديين وملجميين الذين خطفوا وقتلوا أحرارنا وأخفوا جثثهم في حفر وزارة الدفاع وأبار عنجر.

 

أدعوهم إلى أن يلجأوا إلى التجرد الكامل عن الذاتية المدمرة والى التعلق بالموضوعية التامة للوصول إلى المطرح الأرقى والمرسى الآمن والمستوى المنشود.

وَعْوَع َالجار وخشي "الكيّ والواوا" فصرَّح وصارح بما يضمر وما يكِنّ. هل هي الشهقة الأخيرة من نظامٍ عفَّ الدهرُ عليه؟ للآتي في المستقبل أن يحكي عما سيأتي بالخبر اليقين، مُردِّداً هذا البيت الشعري البليغ:

"وتسألُ عن أبيها كلَّ رَكْبٍ   وعند جُهًيْنَةََ الخبرُ اليقينُ"

 

4/12/2005