بهذا يعرفكم الناس، أنكم تحبُّون بعضكم بعضاً

الأب سيمون عسَّاف

 

وجهان قائدان في أمتي يلتقيان، أحدهما عائد من المنفى والثاني مظلوم في السجن. الجنرال ميشال عون قائد الجيش اللبناني الباسل ورئيس حكومة لبنان الأسبق، والدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية المالئة ساحة وطن الأرز. لن أعود إلى فتح ما انطوى من ماضٍ أليم للدخول في جدل بيزنطي عقيم حول جنسية الملاك هل هو ذكر أم أنثى وإنما أكتفي بالقبول بحضوره ملاكاً من عند الله.

 

الإثنان ينتسبان إلى كنيسة واحدة وإيمان واحد ومعمودية واحدة، ولا دخل لي في قناعات الرجلين السياسية طالما هما في بلد الحرية وحق التعبير والديمقراطية. ويطفر على البال سؤال، هل أجمل من عناق وائتلاف الأخوة بعد خلاف وفراق؟ أما أوصانا الله بغفران خطايا بعضنا البعض تحت ظل أجنحة المحبة؟

 

هل بعد أشرف من اللقاء الأخوي الذي أراده الإثنان بعناية المشيئة القادرة؟ هل أسمى من الارتقاء إلى مستوى الله الذي علم الحب والسماح من على خشبة الصليب؟

وجه الجنرال عون المتألِّق بأضواء الشهامة رغم منفى جاوز الخمسة عشر عاماً، ووجه الدكتور جعجع المتصوِّف المحاط  بهالات الروح في زنزانة حبس هي جَورٌ وافتراء، كلٌّ يحمل في تجاعيد الخدود ما رسمته السنون من معاناة واختبارات وتجاريب في مرحلة من تاريخ لبنان ولا أقسى، يلتقيان بوقار النسَّاك ولوعة المفكِّرين وشجاعة الجنود وصفاء المؤمنين. هذا في وِحدة المنفى وذاك وفي وحشة السجن غرفا من كنوز المعرفة ثقافة وحكمةً،  وتأمَّلا في العزلة والانفراد بالكتاب المقدس والكتب العلمية الأخرى. كلٌّ لملم ما استطاع وقرأ وكتب، وإذ نحن اليوم أمام عظمة نضوج الرؤى في عالم الشخصين.

 

مبادرة مؤثِّرة زيارة الجنرال ميشال عون قائد القوات في السجن. إنها مدرسة في الصفح المتفوِّق، نعم هي ذروة من قِمم المسيحية. واستقبال الدكتور سمير جعجع - رجل القناعات التي لها النفسَ نذر- الجنرال العائد من منفاه ، يبرز عمق الوجدان الإنجيلي الثابت على رجاءٍ واعد وإيمانٍ راسخ  وراء القضبان.

 

شعر المسيحييون باستعادة اعتبارهم برجوع الجنرال لكنها لم ولن تكتمل إلا بخروج قائد القوات من زنزانته إلى مباسط الحرية. حينذاك يلتئم الشمل فعلاً وتتوحد الصفوف والإرادات وتتصفَّى القلوب وتنطفيء الأحقاد وتبيضُّ النيات ويرقص الأرز ببنيه طرباً. عندئذٍ تختلج عظام شربل ورفقا والحرديني في مقادسها وتستريح أرفتة الشهداء بانتصار الخير على الشر وسحق أفاعي البغض بالمحبة وتحطيم روؤس الأبالسة تحت مداس تلاميذ رسل المسيحية الحقة.

 

أما اللقاء المحرور بين الزعيمين فهو على ما يبدو رسالة أخوة لجميع الشرائح في مجتمعنا المجروح الممزق. رسالة للالتفاف حول المباديء والقيم والأخلاق لإعمار الوطن. رسالة للخروج من خلايا الأنانيات والمصالح والتفكير الداعي إلى التآخي والتعايش والشراكة ونبذ كل ما هو تنافر وتشرذم وتناحر ونعرات.

آن الأوان أحبائي أن نتتلمذ في مدرسة العظماء ونقرأ قراءة صحيحة  في مذكَّرات الرجال. 

 

هذا هو أسلوب المعلِّم الأكبر، وعلى نور هذا النمط علينا بالسلوك للوصول إلى ميناء الأمان والسلام. تعالوا نبني قواعدنا من جديد وننهض بلبنان عاليا لاستعادة دوره الريادي فيكون  للشرق والغرب نموذجا في الحضارة  والرقي.

 

"خلِّيك معي بعد": عبارة قالها الحكيم للجنرال لحظة الوداع، تذكِّرُنا بدهشة الرسل على جبل التجلي: "جيِّدٌ أن نبقى هنا ونصنع لنا مظلَّتين".

في جلسة واحدة اختزال لخمس عشر عام وكأني بهما في انسجام روحيٍّ كلي وتفاهم وطنيٍّ تام وتناغم في التعاطف والتطلع والرؤى.

 

دعاؤنا إلى السماء أن تفرج كربة القائد الحكيم عاجلاً وتفتح أمامه الأبواب ليستنشق هواء الحرية ويعود" زين الشباب" إلى الشباب منتصراً حراً طليقا.

 

 20 أيار 2005