بـــلادي

الأب/سيمون عسِّاف

يشيل بي الفخر حتى السماء بانتمائي إلى شعب أرزيٍّ عريق في الأصالة والقيم والمعاناة في شرقٍ مسرحٍ لِمرمغات الدم، مستحضراً تعبير مُعلم جبران الخوري يوسف الحداد:" ويلٌ لشرقٍ بِلا قاف وبلاد بِلا دال" مما يعني شرٌّ وبلا.

ويداهمني السوءال: لماذا بلادي تحمل وزر الصراعات وتتقلَّب في مستنقع الوحل والرمل حتى الاختناق؟

 

من تراه ينتشلها من مغطس الذلَّ المرذول لتنتصب وتواكب مسيرة التمدُّن والعمران والتقدم والازدهار؟

إن أبناءنا متفوقون في كل مضمار تستغلهم الغربة أدمغة تعطي الحضارات ثراء الفكر لأن الوطن يضيق على الزخم المزدحم في طاقاتهم الخلاقة. يخسر لبنان خيرة شبابه ليربح الآخرون مبتكرات عبقرياته، كأن الحرب لم تشبع من دم ولحم أهله فبلته بتكريس الطوائف المنبوذ. أصحيح نحن في قرن الواحد والعشرين أم ما زلنا في ذهنية عصر الحجر؟ والمُجيب على هذا الطرح المؤسف هو الواقع المؤلم الذي تتخبط فيه بلادي.

 

هناك مزارع يحكمها شيوخ قبائل يسمونهم زعماء. نعم نحن في عهدة وعهود العشائر لا ينقصنا إلا الأطناب والأوتاد لنصب "الشوادر" والخيم. وكيف يُبنى وطن طالما ثقافة التخلف والتعصب هي لغة قواده ومسؤوليه؟

 

من هنا يحاصرني اليأس بعمار مجتمع لا ينفض عنه غبار أمسه المخجل إذ كيف تقوم أركان دولته وسلوك حكامها أسرى لا بل مرضى الطائفية والثأر والانتقام. هل بأساليب الخداع والغش والرياء وشد الحبال والمحاصصة تسترد بلادي عافية جسدها المُصاب؟ إن ذلك "حديث خرافة يا أم عمرو" وزخرفاتٌ  قوامها الكلام المنمق والمجاملة المغرضة. كيف يستتب سلام في بلاد طوائفها تتناحر زارعة بذور النعرات وحب السيطرة وشهوة الإلغاء. والمضحك إطلاق شعارات المصالحة الوطنية. مَن يصالح مَن ولماذا تقاتل هؤلاء وقتلوا بالأمس ولطَّخوا أياديهم بالدماء حتى يتصالحوا اليوم؟ هل هناك فعلاً مصالحة أم مصالح؟ من يكذب على من ويخاتل ويراوغ واهماً أن الأذكياء يصدِّقوا؟ ألاعيب شيطانية جهنمها نفوس الرؤساء ووقودها المرؤؤسون.

 

هل هكذا يكون الحل بغوغائية فارغة من المضمون والتعهّدات والمواثيق؟ هل بمنطق مرحباً يا خال يتم التوافق والمُهجَّرون لم يعودوا إلى بيوتهم منذ زمن التهجير؟ هل بتبويس اللحى من دون ضمانات للأهلين يكون اطمئنانٌ وحسن جوار؟

 

اتفاق الطائف نفاق كسر شوكة شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني وكرَّس الانشقاق بتحكيم ثلاثة رؤوس  في حُكمٍ واحد. والله هذا غبنٌ واندحار وإنذار بالخلافات التي لا نهاية لها ولا ختام بين سكان البلاد.

 

لا، لن يدُقنّْ سفيناً في جسمنا كائن من كان حتى لو ظن أنه أتقن مهنة الأبالسة. أخذنا الدروس والعبر مما بُلينا به من تجاريب وموآمرات. والآتي إن لم تتوحد الشرائح كافة على الهوية والسلطة الواحدة والسيادة والولاء للوطن وناسه فالكارثة الآتية لن توفر شريحة من شرائح الوطن لأن الكل منذور للموت والاندثار.

أُعلي ندائي إلى أصحاب الضمائر الحية للأخذ بعين الاعتبار المرحلة الدقيقة التي بها نمر. ولا يوقن أحد أن الأوضاع كما هي الآن تبشر بقيام وطن ونهضة شعب ورقي أمة في سباق مع التطور الهائل الذي يشهده عالم اليوم. فالمطلوب نبذ الخصام والجلوس على مائدة سياسية وإن كان ذلك عسيرا للتفاهم حول قضايانا الشائكة والمُلحة لأن التباعد يولِّد الغربة بين شرائح المجتمع مما يدفعنا إلى التقسيم أو إلى التفكير بصيغة تحترم كيانات تشعر ذاتها مغبونة وتحس أن حقها سليب.

وان جرت انتخابات أقل ما يقال فيها مغلوطة وكلنا يعرف مدى مصداقيتها وتمثيل طوائفها المفقود.

 

 لا لن تمشي عجلة الدولة ولا الشعب يرضى بها التزوير اللاحق بكرامته والإنصاف.

على أمل أن تحل السماء مشاكلنا وتفك عقدنا ويشمل الوعي شملنا نرفع إلى العرش الأعلى توسل جمعنا عساه يستجيب.

مونتريال 29 تموز 2005